ليــزا سعيــد تكتــــب: المرأة المدجنة.. من الطبيعة إلى الثقافة
عن الكاتبة:
باحثة نسوية متخصصة في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي
ارتفع في الآونة الأخيرة ومع تغيير تونس لقانون الأحوال الشخصية، الذي انتصر لحقوق المرأة، شعار: “المرأة هي أكبر عدو للمرأة”؛ ذلك لأنه في حين تنتقد المرأة المصرية وضعها الحالي وتحاول تغييره – كما فعلت المرأة التونسية – تٌقابل بالهجوم والرفض والاستنكار، لتخرج صيحات الاستنكار أعلى ما تكون من النساء تحديدًا، أولئك اللائي رأين في المناديات بانتحاء الوجهة التونسية في التشريع من أجل تحرير المرأة، أنهن إنما يدعين إلى الكفر والعصيان والمروق عن الملة والارتداد عن الدين وهدم الأسرة والتقليل من شأن سيدها ومعاداة الشريعة الإسلامية.
ويتساءل الكثير من المستنيرين – خاصة الرجال – في تعجب “كيف لامرأة أن تقبل بأن تكون في الدرجة الثانية، وتقدس تقاليد المجتمع البالية، وتنتقد من يدافعون عن حقوقها ويحاولون الانتصار لها من أجل أن تحيا حياةً كريمة كمواطنة مساوية في الحقوق للرجل؟”
وإلى هؤلاء المتسائلين المستنكرين – رغم وجاهة تساؤلهم واستنكارهم- أسوق هذا الحديث، وأول ما أريد التحدث عنه هنا، هو أن تلك المرأة، المنتج الذي بين أيدينا، هي ما يمكننا أن نطلق عليه “المرأة المدجنة”، أي التي تم تدجينها من قِبل المجتمع، فنشأت على تقاليده التي يريدها، وتربت على ثقافته وعاداته وأصبحت مسخًا من صناعته، وهذه المرأة لا تمثل طبيعة المرأة الحقيقية؛ فالمرأة الحرة تعي تمامًا حقيقتها وتؤمن بذاتها وتقف في وجه المجتمع وتقاليده البالية وتنتقده وتوجه إليه اللوم، وغالبًا ما تكون سيئة السمعة؛ لأن لها صوتًا يناقش ويجادل ويمنطق ويعقلن الأمور وطبيعة الأشياء، وهم لم يعتادوا للمرأة صوتًا، كما يعريهم ويفضح فراغ عقولهم، صوت المنطق، ذلك الصوت الذي يحلل بناءاتهم وأنساقهم الثقافية التي ينساقون إليها وهم لا يشعرون، وليس هذا فحسب، وإنما أيضًا يُمكنها أن ترفض وتقول لا، وهذه الطامة الكبرى.
تُدجن الدجاجات والأحياء الأليفة في المزارع والبيوت، كذلك تدجن المرأة منذ مولدها؛ يضعونها في قوالب مصنوعة لها قبلًا، لتخرج كما يريدون تمامًا، امرأة تؤمن بأن دورها في الحياة ورسالتها الكبرى، التي ما جاءت للوجود إلا من أجلها، أن تخدم الرجل أينما وُجِد وأينما كان، سواء كان زوجًا أو أبًا أو أخًا، والمضحك أكثر حتى ولو كان ابنًا، ستكون خادمة له أيضًا. فهي تتزوج لتخدم زوجها وتوفر له وسائل الراحة وتحشو معدته بالمأكولات التي تجعلها تلزم المطبخ لساعات طوال، وتتزين لتعجبه كأنثى وتمتعه في الفراش، وتأتي له بالأطفال لتصنع له عائلة و”عزوة”، ويا حبذا لو كان كل الأطفال ذكورًا أسيادًا، لا خادمات للمنازل. جعلوها تؤمن وتدافع عن كون هذه الأدوار فقط أقصى أمانيها، وأنها بها فقط تعلو مكانتها وتكون حياتها ذات قيمة ومعنى.
تولد الفتيات وتنشأ، وهم يحشون أدمغتهن بمعاييرهم المزدوجة وثقافتهم الصدئة، ويتعمدون قتل الإبداع فيهن، بل هم لا يتصورون أن لديهن قدرة على الإبداع أصلًا؛ فيحرمون أكثرهن من التعليم حتى يتفرغن للخدمة والتفنن في تعلمها من أجل الخدمة مستقبلًا. تُظهر الكثيرات منهن حبًا للتعلم وخوض ما يسمونه مجال الرجال، فتُقابل بالاستنكار والهجوم كونها خرجت عن القطيع، وتحاول أن تخرج من القالب الذي أعده لها المجتمع، وليس هذا فحسب، وإنما بين كثير من الأسر التي يصفون فيها الأب بأنه منفتح ولديه حظ من الثقافة، إذا مرت الأسرة بضائقة مالية وكان لابد من خروج الأبناء من المدرسة، كان الإسراع إلى إخراج الفتيات وإبقاء الأولاد؛ لأن الفتيات سيتزوجن ويجدن لهن كفيلًا، أما الأولاد فهم سادة بيتوهم المستقبلية، وكفلاؤها، وذلك حتى إن كان مستوى الدراسة والشغف أكثر لدى الفتيات فلا يهم، فالولد هو الذكر والسيد والفاتح.
تموت الزوجة فيتزوج الرجل خلال أيام، ويهلل له المجتمع ويبرر له سرعة زواجه وأنه رجل يريد الصلاح والعفة، ويموت الزوج فيثور المجتمع على الزوجة لأنها يجب أن تقتنع بأن حياتها قد انتهت وتفني حياتها في خدمة أطفالها وتنهي حياتها كما أرادوا، وتحيا على ذكرى سيدها الذي رحل، ويتناسون تمامًا كونها إنسانًا من الممكن أن يكون لديها رغبات ومشاعر وتريد أن تحيا مرة أخرى، وليس هذا فحسب، ففي الكثير من الأحوال تبقى لتخدم عائلة الزوج، فهي جارية تم شراؤها وهم من يحددوا إن كان سيتم تحريرها أو لا، ولكن من يسمح لها بذلك، فقتلها خير!
من الممكن أن يدخل الرجل في علاقة جنسية خارج إطار الزواج، وفي كثير من الأحيان يتعين عليه ذلك، ليثبت رجولته وفحولته، ولكن يستحيل ذلك على المرأة، فهو رجل يفعل ما يشاء وهو وحده المختص بالمتعة، أما هي فتُقتَل عقابًا لها على ما اقترفت من خطيئة.
قوانين الشريعة يقوم بإخراجها في صورتها المشهودة رجل، ويفسرها رجل، وتطبق فقط على النساء، ولو أن امرأة حرة قدمت قراءة مغايرة للشريعة لانقلبت الموازين وظهر الحق، ولكن هم أعلم بذلك فلا يسمحون بالاقتراب من هذا التابو إلا لمن تم تدجينهن وأصبحن آلات تدار من خلالهم. ينتقون ما يحلو لهم ويؤولون ما لا يعجبهم لصالحهم وتوضع مصلحة الرجل في المقام الأول ويتم ليّ عنق النص ليوافقها، وتبقى المرأة دائمًا وأبدًا مفعولًا به، ويظل الرجل فاعلًا ومسيطرًا ومهيمنًا على مقاليد الأمور.
متى تتحقق المساواة؟ متى يُعتَرفُ بها كإنسان له كل حقوق الإنسان الكامل غير المنقوص؟ متى تكف الثقافة عن ظلم المرأة والغض من شأنها؟ فلا مجتمع يساندها ولا سلطة تقف بجوارها ولا قوانين ولا حتى النخبة المثقفة أصحاب العقول الكبيرة المفكرة، التي تفضحها الأحداث والقضايا، فيظهر كبر العقل ككبر الأجولة المحشوة تبنًا. القليلون هم من يساندوها ويعترفون بكونها إنسان، الكثير والكثير إما يحتقرها ويقلل من شأنها لأنها خادمة له، وإما يهلل لها على كل صغيرة وكبيرة من أجل استغلالها في علاقة أو نيل إعجابها.
إنها المرأة والأم والزوجة والأخت والحانية والحامية، من رحمها تبدأ الحياة وتتجدد ويستمر الوجود، كيف لمخلوقة بهذه العظمة أن تحيا في كل هذا الغبار.
لن تتحرر بخلع حجاب أو نقاب كما ينادي البعض، وإنما بتحرير الوعي وامتلاك الإرادة الحرة الفاعلة وحينها تتخذ قراراتها وتحدد ما يناسبها، وحينها أيضًا تثور ضد مجتمع ظالم وترفض الاستعباد وتجبر ذلك الكائن المريض المصاب بجنون العظمة بأنها إنسان مثلما هو إنسان، ذلك الرجل الذي يتحالف معه الكون وواضعي الشرائع، وتُفضَح مؤامراتهم ونواياهم الخبيثة لصناعة فكر واحد ونظام واحد وحاكم واحد ليكون لدينا فرعون يقودنا نحن القطيع.