وتبقى النسوية كابوسًا مزعجًا لأغلبهم: رجال يكشفون أسبابهم.. ونسويات: لأنها ثورة ضد تنشئتهم الذكورية
تعود بوادر الحركة النسوية إلى نهايات القرن الثامن عشر، بالتزامن مع اشتعال الشرارات الأولى للثورة الفرنسية التي رفعت شعار “الحرية.. الإخاء.. المساواة”، ومنذ انطلقت وحتى الاَن، تواجه الحركة النسوية معارضةً شديدةً، وفي الوقت نفسه تلقى دعمًا ومناصرة تتسع وتتمدد وتزداد تشعبًا، ورغم كل الحروب التي تشنها الأنظمة الاستبدادية والسلطات الأبوية والحركات الدينية المتشددة، تبقى الحركة النسوية في مختلف أرجاء العالم متماسكة تقاوم بلا كلل أو ملل، ولا نية للتراجع ولو خطوة للوراء.
في مصر، يعتبر كثيرون أن الحركة النسوية بدأت فعليًا مع ثورة 1919، عندما نزلت المرأة إلى الميدان وتعالى هتافها مطالبة بالحرية والاستقلال في مشهد كان بمثابة نقطة تحول كبرى في أوضاع النساء المصريات، إلا أن كثيرًا من الإرهاصات الفكرية للحركة تشكلت قبل ذلك بسنوات، وقد برزت من خلال سيل من المجلات النسائية بدأ في عام 1892 عندما صدرت مجلة “الفتاة” وتتابع من بعدها صدور مجلات مثل؛ “الفردوس” و”أنيس الجليس” و”فتاة الشرق” و”الريحانة”، إلى جانب صدور كتاب “تحرير المرأة” لــقاسم أمين قي عام 1899، الذي أثار حفيظة عدد كبير من المحافظين في المجتمع المصري، لما اشتمل عليه من أفكار كانت شديدة الحداثة بالنسبة للسواد الأعظم في ذلك العصر، فضلًا عن الاَراء التنويرية التي تبناها الإمام محمد عبده، فيما يخص منع تعدد الزوجات، ووضع حد لفوضى الطلاق بألا يقع إلا بحكم من قاضي المحكمة، ودعمه لحق المرأة في التعليم.
وفي مشهد مشابه لما جرى في عام 1919، ازدادت الحركة النسوية وهجًا عقب اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، وحضرت المرأة في الصفوف الأولى تطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، مما جدد الدماء في الحركة، وتكونت مجموعات شابة تدافع عن حقوق النساء، وتقف بقوة حائلًا دون تنحية المرأة من المشهد العام من خلال تعمد قهرها وإرهابها جنسيًا، وهذه المجموعات كسابقاتها لم تسلم من الهجوم والاتهام والتشويه، فمازال هناك من يعتقد أن المطالبة بالمساواة بين المرأة والرجل وتحرر النساء، يجافي الطبيعة البشرية، ويخالف الشرائع السماوية، وكما يرفضها إسلاميون متشددون زاعمين أنها تهدف إلى هدم الأسرة وتشجيع النساء على هجر أزواجهن، يستخدم الحجج نفسها متشددون مسيحيون مثل القس والمرشح السابق لانتخابات الرئاسة الأمريكية “بات روبرتسون” الذي أعلن عداءه للنسوية ورفضه القاطع لها، لنفس الأسباب المذكورة.
“النسوية” هو أحد أكثر المصطلحات التي اكتنفها الفهم الخاطئ، ولاقى رفضًا واسعًا وما زال، إلى الحد الذي حول الإيمان به والدفاع عن مبادئه وصمةً، ويتذرع المعادون بأمور من عينة “طبيعة الانثى” معتبرين أن “طبيعة المرأة” تميل إلى التبعية والخنوع والحاجة إلى موجه، أو يشيعون أن “النسوية” تستهدف استعباد الرجل، إذ يعتقد كثير من الذكور أن استقلال النساء وتحررهن وتوجيه دفة حياتهن بأنفسهن، يعني تهديدًا كبيرًا لسلطة الرجل، ويرون أن النسوية هي الوجه المقابل للذكورية، وبالتالي فكل مفاهيم السيطرة، والسادية، والتحكم في الاَخر، موجودة لكن مع تبديل الأدوار.
محض هراء!
أحمد مجدي، البالغ من العمر 31 عامًا، يرى أن النسوية ما هي إلا هراء، ويفسر رؤيته بأن النساء من وجهة نظره حصلن على حقوقهن، فهو يرى أن النساء تشغل مختلف المواقع الوظيفية مثل الرجال، ويتدرجن في المناصب مثلهم، مشيرًا إلى أنه قد تكون هناك بعض المشكلات – على حد تعبيره – لكنها لا تستدعي وجود حركة واحتجاجات ومؤتمرات وإلا فليفعل الرجال ذلك أيضًا، لأنهم يعانون كذلك من الظلم في المجتمع، ويعتقد “مجدي” الذي يعمل كمسؤول خدمة عملاء في إحدى الشركات، أن النسوية لا تريد حقوق النساء ولكن تريد انتزاع حقوق أصيلة للرجال، معتبرًا أن ذلك يعبر عن أجندات غربية لا تتوافق مع طبيعة المجتمع الشرقي والأهم من وجهة نظره قواعد الدين الإسلامي الذي أعطى للرجال القوامة، وبسؤاله عن مفهوم القوامة بالنسبة له، قال “يعني ..” ثم صمت قليلًا وكأنه يجمع شتات أفكاره، ليكمل “أن يكون الرجل هو المسؤول عن المرأة، هو ملزم بالإنفاق عليها في كل الأحوال، ومنوط به أن يساعدها في قراراتها واختياراتها، وأن يحميها، لأنها بطبيعة الحال أقل منه خبرةً وقدرةً في مجتمعنا.”
مجدي لديه أخت تصغره بثلاث سنوات، يرى أنها حققت الكثير على صعيد حياتها العلمية والمهنية، فقد حصلت على درجة الماجستير في الهندسة، وتعمل بإحدى شركات التطوير العمراني، إلا أنه في الوقت نفسه أكد رفضه التام أن تسافر لاستكمال الدراسة أو العمل بالخارج، معللًا ذلك بالخوف عليها ليس أكثر.
أما محمد جبريل البالغ من العمر 27 عامًا، ويعمل باحثًا وصحافيًا، يرى أن الحركة النسوية منعزلة عن الواقع المصري بمشكلاته الكبيرة التي تطحن الرجال والنساء معًا، وبحسب رؤيته فإن الحركة لا تعترف بفكرة وجود رجل مظلوم وامرأة مظلومة، بل تطرح قضايا المرأة باعتبارها قضية خاصة.
لا يستسيغ جبريل انطلاق الحركة النسوية من فكرة اضطهاد الرجل للمرأة على حد تعبيره، لأنه يعتقد أن هذا الأمر – نادر الحدوث – بين الطبقة العليا، ويضيف “الحركة النسوية ليست نابعة من صميم المجتمع وحركته بل مرتبطة عضويًا بسياق معولم.
ثم يعود جبريل ويقر بوجود ذكورية حقيقية وقيم ذكورية متغلغلة في المجتمع، لكنه في الوقت ذاته لا يعتقد في جدوى الطرق والوسائل الحالية لمواجهتها، وفي رأيه فإن خطاب بعض النسويات يطالب الرجل بأن يشعر بالذنب لكونه ينتمي إلى جنس الرجال.
السؤال الحقيقي ينبغي أن يكون: لماذا يضطهد الرجال النساء ويسلبونهن حقوقهن؟
في المقابل، هناك من الرجال من يؤمن بمبادئ الحركة النسوية، ومنهم من أصبح جزءًا من هذا الحراك، لا يكتفون بالكتابة مدافعين عن حقوق النساء، أو التحدث إلى الإعلام وفي المحافل الثقافية عن تحرر المرأة وتمكينها، بل انضموا إلى مجموعات تنشط في هذا في الصدد، ونزلوا إلى الميادين لحماية النساء، عندما أحاطهن الخطر بعد اندلاع الثورة في عام 2011.
في أحد الملتقيات الثقافية التي تعقدها الكاتبة والمفكرة نوال السعداوي، وجه أحد الحاضرين سؤالاً إلى عمر أحمد مدير أعمالها والسكرتير العام للاتحاد النسائي المصري، يقول له “لماذا تدافع عن حقوق المرأة وأنت رجل؟”، فأجاب أحمد بأن السؤال الحقيقي ينبغي أن يكون “لماذا يضطهد الرجال النساء ويسلبونهن حقوقهن؟”
يتحدث عمر أحمد عن تجربته في الانخراط في الحركة النسوية، ويقول إنه لاحظ منذ صغره أن هناك تمييزًا حقيقيًا ضد الفتيات في التربية، وعندما كان يسأل عن السبب وراء هذه التفرقة، كانت الإجابة سواء في البيت أو المدرسة «ربنا عاوز كدا»، ويردف قائلًا “لقد اطلعت بعد ذلك على اَراء عدد كبير من الرجال ومنهم قاسم أمين في كتابي “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”، ووجدت أنه ليس شرطًا أساسيًا أن تكون المرأة هي التي تساند النساء في معركتهن.
يتابع أحمد قائلًا “عندما بدأت في التفكير في العمل العام، وكنت في الثامنة عشر من العمر، لم يكن هناك وقتئذٍ جمعيات نسوية كثيرة، كما أن أمانات المرأة في الأحزاب يقتصر العمل بها على النساء، في كثير من الأحيان، إلا أن ثورة يناير كانت فرصة حقيقية للقيام بما أريد، فقد تعرفت على مجموعة كبيرة تشترك معي في نفس الأفكار، ففكرنا في إعادة إحياء الاتحاد النسائي تحت إشراف الدكتورة نوال السعداوي.”
الاتحاد النسائي المصري هو جمعية نسائية أسستها هدى شعراوي في عام 1923، حتى حلته السلطات المصرية في عام 1956، بعد صدور قرار جمهوري يقضي بحل الجمعيات الأهلية، وعاد إلى الحياة مرة أخرى بعد تحويله إلى جمعية رعاية اجتماعية تحمل اسم هدى شعراوى بأمر من رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر، وأُشهِرَت الجمعية في عام 1966.
يعتقد السكرتير العام للاتحاد النسائي المصري، أن المجال العام بعد الثورة شهد انضمام عدد لافت من الرجال إلى المجموعات النسوية، ولكن خطاب التمييز الذي تتبناه بعض المنظمات النسائية الكبرى في أبسط الأمور مثل قصر العمل بها على النساء دون الرجال، كان سببًا رئيسًا في نفور الشباب وانصرافهم إلى المبادرات الميدانية التي كانت تناهض التحرش الجنسي، إلا أن وقف نشاط هذه المبادرات لأسباب لوجيستية وسياسية أدى بالتبعية إلى خروج الشباب منها.
التربية “الذكورية” هي السبب
على الجانب الاَخر، يتردد على مسامع النسويات دائمًا، أقاويل وحجج الرجال المعادين للحركة التي ينتمين إليها، إلا أن ما يمتلكنه من قناعات لم يتولد فقط من قراءات أو محاضرات وإنما من تجارب حياتية عشنها، قد شكل لديهن عقيدة المقاومة.
الصحافية والمخرجة رشا الديب ترى أن المجتمع يعرف المرأة النسوية بأنها المرأة “المستغنية” وهي نقيض لفكرته عما يجب أن تكون عليه المرأة بحساباته، أي تكون تابعة وضعيفة، كي لا تهدد وضع الرجل الاجتماعي.
وتؤكد مخرجة فيلم” دورة شهرية” أن رفض المجتمع للنسوية ومجابهته لها، سببه الأساسي هو التربية التي تعتمد على التفريق بين الطفل والطفلة في كل شيء، ومن ثم فالرجل لايخشي تهديد مركزه الاجتماعي فقط بل يعتبر النسوية ثورة على ما نشأ وتربى عليه.
أيضـــــــــــــًا.. فيلم «دورة..شهرية».. الحل هو قهر الصمت «الحرِج» ودحض «الوصمة» المجتمعية
أما أسماء دعبيس الناشطة النسوية ومؤسسة مجموعة “بنت النيل” التي يتركز نشاطها في محافظة البحيرة، تعتقد أن أبرز ما مايخشاه المجتمع أو الرجال تحديدًا من الحركة النسوية، هو دعمها لإشراك النساء في السلطة التي اعتاد أن يمارسها الرجل بمفرده، متجاوزًا القوانين والدين في كثير من الأحيان؛ إذ يغلب العرف المجتمعي الذي يأتي في مرتبة أعلى من القانون والدين.
وتضيف دعبيس “المحاكم التي تعج بالدعاوى التي ترفعها النساء للحصول على حقوقهن خير دليل على هدر حقوقهن، وفي بعض الأحيان يدرك الرجل أن المرأة لا يمكنها أن تلجأ إلى القضاء، فتستعيض عنها بالمحاكم العرفية أو غير الرسمية، أو ما يعرف بجلسات الصلح، التي تهدر حقوق المرأة.
“التوعية التي توفرها النسويات لغيرهن من النساء تمثل تهديداً لهذه السلطة.” تقول مؤسسة مجموعة “بنت النيل”، وعن اتساع قاعدة الرجال الذين يدعمون حقوق النساء في السنوات الأخيرة وتحديدًا بعد قيام الثورة المصرية في 2011، ترجعها الناشطة النسوية إلى رغبة كثيرين في اختبار العمل العام والحياة السياسية، وتقول في هذا الصدد “ليس شرطًا أن يكون كل المنضمين لهذه المجموعات، مؤمنين بالقضايا النسوية وأهمية تمكين المرأة، وربما يكون منهم من لا يدرك ماهية الحركة النسوية.”
وتشير دعبيس إلى أن بعض من انضموا إلى المجموعات والمبادرات النسوية في تلك المرحلة، كانوا يرون أن القانون والعمل التوعوي هما الحل في مواجهة العنف ضد النساء، وفي الوقت نفسه يحملون المرأة المسؤولية بسبب ملابسها وغيرها من الأمور التي تكشف غياب الوعي بمفهوم النسوية وأهدافها.