في إطار حملة#وضع_يد.. شيــماء طنــطاوي تكتــــب: معتقلات الأبوية المصرية
عن الكاتبة:
عضوة مؤسسة بمجموعة “قانون يحمي الفتيات من العنف الأسري”
وهي إحدى المجموعات المشاركة في حملة وضع يد
أَكْتُبُ هذا المقال بعد المصادقة على قانون موحد لحماية النساء من العنف في تونس، و أَكْتُبُه في إطار حملة «مشاركة مش وضع يد» وهي حملة أطلقتها مجموعة من المبادرات النسوية من محافظات مصرية مختلفة، للمطالبة بقانون موحد لحماية النساء من العنف في مصر، وبصفتي إحدى مؤسسات مجموعة “قانون يحمي الفتيات من العنف الأسري”، سأتحدث عن شكل من أشكال العنف في المجال الخاص، لماذا العنف في المجال الخاص تحديدًا؟ لأنني أعتقد أن تواجد النساء في المجال العام يرتبط ارتباطًا شرطيًا بوضعهن في المجال الخاص، فكيف تستطيع المرأة أن تخرج للمجال العام، وتعمل وتحقق ذاتها وهي في المجال الخاص تتعرض للعنف إذا أرادت فقط أن تعبر عما يجول بخاطرها؟!
معتقلات داخل البيوت المصرية
الحبس أو الاعتقال داخل البيت، المنع من السفر داخل مصر، تقييد الحركة، أسماء متعددة لهذا الشكل من العنف الأسري، الذي يتعرض له عدد كبير من النساء في مصر، قد يكن واعيات لما يحدث لهن أو غير واعيات، ولكنه في النهاية شكل من أشكال العنف الأسري السري، الذي يظل دائمًا خلف الأبواب المغلقة، ويصعب الحديث عنه أو رصده.
بذلت محاولات عديدة، لكي لا يخرج المقال في شكل عاطفي، ولكن باءت محاولاتي بالفشل، فتركته كما هو محملًا بمشاعري، التي ربما البوح عنها يخفف مما تمثله من عبء علي، أو يُشعِرُ إحداهن أنها ليست بمفردها، ربما يكون هذا البوح سببًا في شعور أخريات بالأُنسِ.
منذ أكثر من سنة، تحديدًا في مارس الماضي، تحدث إلي شقيقي الأكبر عبر مكالمة هاتفية، يطلب مني العودة إلى قريتي الصغيرة في الصعيد، أترك عملي ودراستي وحياتي في القاهرة وأعود إلى القرية، وبعد أسبوع أو أقل من تلك المكالمة، حضر إلى القاهرة ومعه أحد أشقائي الأصغر مني سنًا، حتى أنهي عملي وأحزم حقائبي وأسافر معهما، وعُقِدت أكثر من جلسة مفاوضات معي ومع صديقتي المقربة. صديقتي المقربة هي الشخص الوحيد الذي ظل بجانبي بعدما خذلني أقرب الأقربين، صديقتي الأقرب دومًا والمثال الحي للتضامن في حياتي، صديقتي التي كانت وما زالت دائمًا مصدر شعوري بالأمان، فهي عائلتي الحقيقية، الشخص الذي أعلم جيدًا، أنني يمكنني أن اتكأ عليها بكل أمان، والشخص الموجود والمتواجد دائمًا في أكثر أوقات فرحًا وأشد المواقف صعوبةً.
لم يكن دور صديقتي مقتصرًا على حضورها جلسة المفاوضات مع أخي، والجلوس لمدة ساعتين في مناقشة جميع الأشياء والاحتمالات بصبر وتعقل تام، أتذكر جيدًا احترامها لمشاعري تجاه أسرتي وتفهمها لموقفي، الذي قد يبدو غير واضح للبعض، أنا لا أريد خسارتهم ولا أريد خسارة نفسي، كان دورها حينها أكبر من ذلك كثيرًا، الأمر لا يتوقف على مقابلة أخوتي، وتحدثها معهم لتوضح وجهة نظري، عندما لم استطع فعل ذلك، ولكنه ذلك الدعم الذي لا يلغي رأيي ولا يتركني وحيدة، الدعم الذي شجعني على إظهار وجهة نظري بشكل أفضل، فكرنا سويًا في حلول عديدة، طرحت أمامي جميع الخيارات الممكنة، لحل المشكلة بشكل عملي بما يوفر لي حرية الاختيار دون أن تتركني لخوفي وغياب اتزاني فاختار ما أندم عليه بعد ذلك، وعندما سافرت ظلت تنتظر عودتي والقلق يتملكها، وبعد أن عدت استمر دعمها لي، إلى أن أصبحت رؤيتي للأشياء أفضل كثيرًا مما مضى.
المفاوضات مع أشقائي أفضت إلى أن أسافر لفترة وأعود بعد أسبوع، في طريق السفر لم ينفك عقلي عن التفكير في جميع السيناريوهات المرعبة، لم استطع رغم كل المحاولات تهدئة مشاعري، أشعر بالظلم والقهر، لأنني أقوم بعمل خارج إرادتي، الآن أعلم أن الأمور لم تكن بتلك القسوة، ولكن حينها كانت تلك المشاعر المسيطرة علي.
لم تهدأ الأسئلة؛ لماذا لم أخلق ذكرًا أو لماذا خُلِقت أنثى مختلفة، لماذا خلقت أنثى مختلفة تعيش في تلك المنطقة من العالم، لماذا لا تفهمني عائلتي، لماذا كل تلك المتاعب والمصاعب لمجرد أنني اتخذت قرارات تخصني أنا وفقط؟ كيف نستطيع فك الاشتباك بين العلاقات العائلية تلك وبين ما أريده أنا؟
سافرت إلى القرية لأقضي أسبوعًا مع عائلتي، لكي تهدأ الأمور ومن ثم أعود، لكي أغلق “باب الفتنة” الذي فُتِحَ بسبب تواجدي في القاهرة، واستقلالي عنهم وخلعي للحجاب والظهور بأحد البرامج التلفزيونية “متبرجةً”، كان الصراع قد بدأ قبل عدة أشهر، منذ ظهرت لأول مرة بدون حجاب، وراَني أعمامي حينها، وبدأوا حملة هجوم شرسة علي وعلى أسرتي الصغيرة (أشقائي وأمي)، بدأت الحملة بنشر الفيديو الذي أتحدث فيه بالبرنامج عن رحلة استقلالي والصعوبات التي أواجهها كفتاة مستقلة، وكأن الفيديو يبعث على الإهانة أو أنني قمت بعمل غير أخلاقي أو منافٍ للأخلاق والشرف، أو كأنني في الفيديو قتلت أو سرقت أحدًا.
استمرت رحلة الصراع ومازالت مستمرة مرورًا بمراحل مختلفة، منها منعي من السفر في بداية محاولاتي للاستقلال، وبقائي في المنزل لمدة ثلاثة شهور، استسلمت تمامًا حينها للأمر الواقع وتعايشت معه، التهديدات المباشرة وغير مباشرة، وصولًا لمرحلة قطع العلاقات بين أعمامي وبين أشقائي، الذين قرروا الدفاع عني ومواجهة بطش وجهل عائلتي الكبيرة، كانت دوائر الصراع متعددة عائلتي الكبيرة ثم أسرتي الصغيرة، ثم أمي، ثم أنا وتنتهي دائمًا تلك الدوائر عند الطرف الأضعف، فتلك العائلة الكبيرة تريد عودتي وكذلك الأسرة الصغيرة، ولكن لكل منهما طريقته في التعبير عن محاولات السيطرة، أو لنكون منصفين محاولات السيطرة من أسرتي الصغيرة التي أحبها جدًا هي محاولات إثبات أنهم يرون مصلحتي أفضل مني، يريدونني في أفضل حال.
من إحدى أقسى المشاهد علي أثناء تواجدي في المنزل في أحد الأيام، عندما أتي عمي ليأخذني من منزل أبي إلى منزله، “لو أنتوا مش عارفين تحكموها هاتوها تعيش عندي وأنا هاتصرف معاها”، كان يريد وضعي تحت الإقامة الجبرية في منزله ليمنعني من السفر، جاء إلى منزل أبي ودارت مناقشة حادة بينه وبين أخوتي، تعدى بها كل حدود الأصول وقواعد الأدب والأخلاق، وتخطى حدود العشرة والعائلة، واتهم والدتي بأنها المسؤولة عن انفلاتي وضياعي، وأطلق سيلًا من الشتائم، فتدخل حينها أخي الأصغر وكاد أن يضربه؛ مشهد مرعب ومهين وقاس جدًا، لن أنساه ماحييت ولا أعرف متى أو كيف سأعالج الغصة التي تركها في قلبي.
كانت هذه الرحلة التي دفعتني إلى الكتابة عنها جزءًا من رحلة أكبر مازالت مستمرة ولا تنتهي، تهدأ أحيانًا وتثور بدون مقدمات أحيانًا أخرى، أكتب الآن بعد عودتي لعملي ودراستي في العاصمة، واستقرار الأحوال إلى حد كبير، واستمرار زياراتي لأسرتي الصغيرة، وانقطاع علاقاتي تمامًا بالعائلة الكبيرة، ومنذ هذه الرحلة، قررت التنازل عن كل ما قد يُثير انتباه العائلة من ظهور أو نشاط في المجال العام، وأن أحاول جاهدةً تنفيذ هذا القرارحتى أصل إلى حل جذري يُمَكنني من ممارسة حياتي بالشكل الذي أريده تمامًا.
معتقلات داخل الدولة المصرية – المنع من السفر وتقييد حرية الحركة
وأنا أكتب المقال توقفت كثيرًا عند تلك الجملة، لماذا يكون العقاب هو تقييد حركتنا؟ من من النساء اللاتي نعرفهن ويناضلن على مستوى المجال العام الاَن أو في الماضي، مُنِعن من السفر وتم تقييد تحركاتهن في مراحل تصعيدية ومن من النساء اللاتي يناضلن في المجال الخاص ولا نعرفهن معتقلات داخل البيوت المصرية ممنوعات من الخروج من منازلهن أو ممنوعات من السفر لفرص عمل أفضل بعيدًا عن محافظتهن؟ لماذا تحاول السلطات الأبوية بأعلى مستوياتها وأقلها السيطرة على حرية الحركة والتنقل للنساء، ولماذا مُنِعَت درية شفيق من السفر ووضِعَت تحت الإقامة الجبرية منذ أكثر من خمسين سنةً، ولماذا تُمنَع مزن حسن وعزة سليمان وغيرهن من النسويات الاَن من السفر، وكأن السلطات الأبوية على مختلف مستوياتها تسلك الطريق نفسه وتستخدم ذات التكتيكات لفرض سيطرتها على تحركات النساء في المجالين العام والخاص، فلماذا تحاول السلطات الأبوية بأعلى مستوياتها وأدناها السيطرة على حرية الحركة والتنقل للنساء؟!
ربما تكون الاجابات بديهية ونعلمها جميعًا، ولكن يظل السؤال استنكاريًا لكل ما يحدث، هل مازلنا عند تلك اللحظة التاريخية وكأن شيئًا لم يكن، هل كل تلك السنوات من النضال والحراك النسوي ومازِلنا نواجه نفس المصير؟!
ما الذي شعرت به درية شفيق حينها؟ وكيف كان تأثير ذلك القرار على حياتها العامة والخاصة، وما الذي شعرت به مزن حسن وعزة سليمان حين تم منعهما من السفر وما الذي تشعر به نساء وفتيات هذا الوطن المعتقلات داخل البيوت المصرية؟
لا أستطيع الاجابة إلا عن شعوري الشخصي تجاه محاولات وضعي تحت الإقامة الجبرية ومنعي من العودة إلى عملي في القاهرة، شعرت أن حياتي متوقفة قهرًا، رغمًا عن إرادتي الحرة التي خُلِقت بها، شعرت أن شخصًا أو بمعنى أدق أشخاصًا، يحاولون السيطرة على شغفي على الشيء الوحيد الذي أشعر أنني خًلقت من أجله، يحاولون السيطرة على رغبتي في العمل الذي أحبه والدراسة التي اخترتها، ولم تُفرض علي من تنسيق أو عائلة، يحاولون السيطرة على حياتي، يحاولون ربط حبل حول عنقي ليخنقني في النهاية.
ما الذي يمكن القيام به حتى نتخلص من تلك السجون والمعتقلات الموجودة في المجال العام والخاص؟ ربما تكن لدي بعض الاجابات، وقد تكون لدينا جميعًا إجابات منطقية، وهناك العديد من المؤسسات التي كانت أو ما زالت تعمل على قضايا تخص العنف الأسري، ربما أصبحت القضية الآن أكثر انتشارًا ومحاولات العمل عليها أصبحت أكثر من ذي قبل، ولكل مجموعة طرق وتكتيكات مختلفة لمساعدة الناجيات، ولكن كل هذه الجهود لن تجدي نفعًا حقيقيًا، دون وجود نية حقيقية من الدولة بقانون لحماية النساء من العنف الأسري، كل تلك الجهود يُعصَف بها، حين تُمنَع نسويات من الحركة في المجال العام، حين يتم تُمنع نسويات ومدافعات عن حقوق النساء من السفر وتُقيَد حركتهن، وربما يخرج علي أحدهم بالدستور المصري الذي يكفل الحق لمواطنيه في حرية الحركة والتنقل، ولكن على الرغم من وجود مادة دستورية تمنع الحبس في المنزل وتقييد الحركة إلا أن تلك الجرائم تقع ولا تستطيع النساء البوح بها، أو حين يتحدثن يتعرض لعنف أكثر من الأسرة، أو من المجتمع، أو من القائمين على تلقي تلك الشكاوى.
ويبقى السؤال قائمًا: لماذا لا ترفع القوى الأبوية على اختلافها يدها عن النساء؟