“الذى جمعه الله لا يفرقه إنسان”
“من طلق امرأته وتزوج غيرها زنى ومن تزوج امرأة طلقها زوجها زنى”
“أما أنا فأقول لكم من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزنى ومن تزوج مطلقة زنى”
جميعها آيات من الكتاب المقدس “الانجيل” تؤكد عدم جواز الطلاق إلا فقط لعلة الزنى، وهذه الاَيات ما تستند اليه الكنيسة في حرمانها للطلاق أو للزواج الثاني ولعل هذا ما أثار الجدل والهجوم على الكنيسة لعدم موافقتها على الزواج الثاني للمسيحيات والمسيحيين المطلقات والمطلقين مدنيًا، هذه الأزمة المستمرة منذ عهد البابا شنودة الثالث حتى عهد البابا تواضروس الثاني.
فى هذا التقرير نتجول بين جنبات القضية ونبحث عن إجابة للسؤال الأكثر إلحاحًا هل من يحول دون الحصول على حق الطلاق الكنيسة أم الدولة؟
تاريخ مشكلة طلاق مسيحيات ومسيحيى مصر وإشكالية اللائحة 1938
يرجع تاريخ هذه الأزمة إلى قرار البابا شنودة الثالث الصادر فى عام 1971 عندما ألغى العمل بلائحة 1938 والتى كانت تنص على أسباب محددة للطلاق “الغيبة – الجنون أو المرض المعدى – الاعتداء الجسدى – إساءة السلوك – إساءة العشرة – ترهبن أحد الزوجين – الزنا – الفرقة – تغيير الدين”
إذ قرر أنذاك قصر الطلاق فقط على علة الزنا أو تغيير الملة مستنداً في ذلك إلى تعاليم الكتاب المقدس ” أما أنا فأقول لكم من طلق امرأته إلا فى حالة الزنى يجعلها تزنى ومن تزوج مطلقة زنى” – مت
وكان هذا القرار بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير بالنسبة للعديد من المسيحيات والمسيحيين فأثار جدلًا واسعًا في الكنيسة بل وفي الدولة ككل، مما أدى إلى إتجاه البعض إلى طرق ملتوية للحصول على الطلاق بعد حرمانهم من قبل الكنيسة ان ينالوا حق الطلاق وحرمانهم حق الزواج الثاني بعد أن كان مباحاً لهم ، وظلت الأزمة قائمة حتى بدأت فى التفاقم أكثر وأكثر بدءاً من عام 2008 عندما أجرت الكنيسة الأرثوذكسية تعديلات على لائحة 1938، نصت على إقصار الطلاق لعلة الزنا والشذوذ الجنسي، وتغيير الديانة بدلًا من تغيير الملة للاتفاق مع قانون الأحوال الشخصية للأقباط الموحد الذي تلتزم به الكنائس المسيحية في مصر، مما أدى إلى لجوء المئات من الأقباط الأرثوذكس إلى «الاستقالة من الملة» بهدف الحصول على الطلاق والزواج المدني من المحكمة المصرية، مما وضع الكنسية الأرثوذكسية في أزمة، خاصة مع دخول الكنيسة الإنجيلية على الخط، وذلك عندما أعلنت الأخيرة ترحيبها بانضمام الأقباط المستقيلين من الكنيسة الأرثوذكسية، وهو ما أثار غضب الكنسية الأرثوذكسية وأكد وقتذاك القس “رفعت فكرى” كاهن الكنيسة الإنجيلية وسكرتير سنودس الإنجيلي أن الدستور كفل حرية الاعتقاد للجميع ولا يمكن رفض من يرغب في الانضمام للكنيسة الإنجيلية لمجرد الرفض محاولًا استمالة المستقيلين من الطائفة الأرثوذكسية بدعوة الدولة إلى إقرار الزواج المدني لحل أزمة الزواج الثاني للأقباط الأرثوذكس، عبر إصدار قرار إداري لانتداب موظف بالشهر العقاري يسمح بزواج أي شخصين مدنيًا خارج الكنيسة، وهي الدعوة التي رفضها البابا شنودة في أكثر من مناسبة مشيرًا إلى أن اعتناق الزوج أو الزوجة أي مذهب آخر من المذاهب المسيحية أو انضمامه إلى أية ملة أخرى مسيحية، لا يبيح له بتاتًا أن يطلق زوجته بالإرادة المنفردة.
موقعة الكلب
فى يوليو من العام 2011 نظم المتضررون من تمسك الكنيسة بمنع الزواج الثانى وقفة احتجاجية أمام وزارة العدل، أعقبها اعتصام أمام الكتدرائية بالعباسية، عرفت وقائعه إعلاميًا بموقعة “الكلب” وذلك بعد أن استخدمت قوات الحراسة كلابًا لفض التجمعات وعلى إثرها علق البابا شنودة عمل المجلس الإكليركى لمدة 15 يومًا وأمر بإجراء تحقيق فى الواقعة، لكن نتائجه لم تعرض على الرأي العام، وفى المقابل تقدم العشرات منهم ببلاغ للنائب العام ضد الكنيسة والأنبا “بولا” رئيس المجلس وأفراد الأمن بالكنيسة، متهمين إياهم بالاعتداء عليهم وإطلاق الكلاب عليهم عند مطالبتهم بالتصريح لهم بالزواج للمرة الثانية، وطالبوا بعزل الأنبا بولا. وقالوا في بلاغهم أن “الكنيسة تحتجز هذه الكلاب في قفص أمام المقر البابوى، ولا يستطيع أفراد الأمن، إطلاقها دون تلقيهم أمرًا مباشرًا من قبل قيادات الكاتدرائية”

655637140618637

التهديد بالخروج عن الملة الأرثوذكسية

الكنيسة: “لا يمكن الخروج على القواعد التشريعية والدينية تحت أى ظرف أو ممارسة ضغوط للخروج على هذه التشريعات”

فى سبتمبر من العام 2011، هدد 150 ألف مسيحيًا فى مصر بالخروج عن الطائفة الأرثوذكسية المنتمين لها، وذلك احتجاجًا على استمرار تجاهل الكنيسة لمطالبهم الداعية لحل أزمة الزواج الثانى إلا أن الكنيسة أكدت أنها لن ترضخ لمطالب المحتجين، مشددة أنه “لا يمكن الخروج على القواعد التشريعية والدينية تحت أى ظرف أو ممارسة ضغوط للخروج على هذه التشريعات” وحررت محضراً بالشرطة ضد عدد من قيادات الاحتجاج اتهمتهم فيه بالبلطجة وحمل السلاح ومحاولة اقتحام الكنيسة.
مشروع موحد لقانون الأحوال الشخصية للمسيحين
استمر الوضع هكذا حتى بعد وفاة البابا شنودة وتولى البابا تواضرس الثانى قيادة الكنيسة الأرثوذكسية حتى أرسلت وزارة العدالة الانتقالية فى 2014 نسخة من مشروع موحد لقانون الأحوال الشخصية للمسيحيين إلى رؤساء الكنائس المصرية لدراسته وإبداء الملاحظات عليه، لكن مع بداية عام 2015 عاد قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين للأضواء مجددًا.
إذ قدمت الكنيسة مشروعاً جديداً لوزارة العدل بشأن تعديل لائحة 38 الخاصة للأحوال الشخصية للمسيحيين، وهى التعديلات التى قام بها البابا شنودة فى 2008 مع التوسع فى الزنى بإضافة أربع حالات للزنى الحكمى كما ورد فى المادة رقم 50 من تعديل اللائحة ( يجوز لكل من الزوجين أن يطلب التطليق بسبب زنا الزوج الاَخر).
والمشروع اتفقت عليه الطوائف الثلاث وأقره البابا تواضروس وكانت أهم ملامحه: تطبيق شريعة العقد أى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية فى حالة اختلاف الملة بين الطرفين.
من الواقع ..سيدات عانين مع أزمة الطلاق والحرمان من الزواج الثانى

تحكي سيدة في اَواخر الأربعينيات من العمر، تعيش بأحد مراكز الصعيد، عن تجربتها الشخصية وتقول: تزوجت في العشرينات من عمرى من رجل تربطنى به صلة قرابة ولكنى لم أكن أعرفه وإذا بي بعد الزواج بأيام معدودة أفاجأ بأنه غير طبيعي فى معاملته لى وعرفت فيما بعد أنه مصاب بالصرع، ولم يكن أحد على علم بذلك، فقررت الانفصال عنه لأننى لم أعد احتمل العيش معه”
وقرررت السيدة أن تأخذ طلاقاً كنسياً، فاستمرت فى العيش في بيت أبيها حتى فقد الزوج الأمل في عودتها وتزوج، وبالتالى حق لها الطلاق وتصريح بالزواج الثاني ولكن بعد أن مر أكثر من 15 سنة.

144404772901908أما السيدة (تريزا وفيق، 41 عامًا) تحكى أنها تزوجت شخصًا أحبته كثيرًا رغم الفارق الاجتماعي بينهما وأنجبت منه ابنة إلا أنها اكتشفت بعد حوالي خمس سنوات من الزواج أنه يدمن لعب القمار ويشرب الخمر بشراهة فلم تتحمل الاستمرار معه وطلبت الانفصال، حتى تحافظ على ابنتها بعيداً عن هذه الشرور فلجأت للمحكمة وبالفعل حصلت على طلاق مدني وبعدها توجهت إلى الكنيسة لتحصل على طلاق كنسي بعد علمها بأنه يمارس الزني وبالفعل فتحت ملف بالكنيسة ومستمر وضعها حتى الآن بدون أي جديد يذكر.

هناك العديد من السيدات المسيحيات يواجهن مشاكل لا حصر لها بعضها يمكن تحمله والبعض الاَخر يصعب التعايش معه، فيلجأن للطلاق وتتعدد أسباب الطلاق ما بين أمراض نفسية أو جسدية لم يكن للفتاة علم بها قبل الزواج، صعوبة تحمل أسلوب الزوج بسبب صعوبة الحياة ومتاعبها وغيرها؛ وللحصول على الطلاق يلجأ البعض إلى طرق ملتوية وثغرات القانون، ومن بينها تغيير الملة للحصول على الطلاق وأحياناً تصل لتغيير الديانة ذاتها حتى تستمر الحياة ويتمكن من الزواج.

السينما المصرية .. صمت يتكسر على استحياء

509934792295098
مع تزايد وتفاقم الأزمة ما بين المسيحيات والمسيحيين من ناحية والكنيسة والدولة من ناحية أخرى بشأن الطلاق والزواج الثاني كان للفن “خاصة السينما” دوره في مناقشة هذه الأزمة إذ ناقشت بعض الأفلام السينمائية هذه الإشكالية ولعل أبرز هذه الأفلام فيلم “واحد صفر” الذى ناقش مشكلة سيدة مسيحية وجسدتها الممثلة “إلهام شاهين” حيث قامت بدور سيدة مطلقة مدنيًا وأحبت شخصًا آخرًا تتطلع أن تتزوجه، ولما ذهبت لمحاميها أعلمها أنه لا يحق لها الزواج إلا بإذن الكنيسة أو أن تغير ديانتها فظلت حائرة ما بين أن تغير ديانتها وتكذب على ربها من أجل الزواج ثانية أم تعيش حياتها محرومة ممن أحبته، وهذه الشخصية عكست حال سيدات مسيحيات كثيرات فشلن في زواجهن وأردن مواصلة حياتهن والزواج مرة أخرى إلا أن قرارات الكنيسة حالت دون ذلك، وللاَسف هؤلاء ما بأيديهن حل سوى انتظار قرار الكنيسة وفي الأغلب يكون العمر تقدم بهن وضاع شبابهن وهن مازلن فى الانتظار.

المجتمع المدني ورؤيته لطلاق مسيحيات ومسيحيي مصر ( بعد ثورة يناير)
كان للمجتمع المدني دوره المحورى فى هذا الصدد مثل “حركة الحق في الحياة” التي نظمت وقفات احتجاجية عدة سواء أمام وزارة العدل و أمام الكاتدرائية بالعباسية للمطالبة بحق المسيحيين في الطلاق والزواج الثاني وطالبت بإصدار قانون مدنى للأحوال الشخصية للمسيحين.
أيضاً نظم “منتدى الدين والحريات” في ديسمبر 2014 ندوة حول مشروع الأحوال الشخصية للمسيحيين في مقر المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تم خلالها مناقشة ملف اﻷحوال الشخصية لدى اﻷقباط وحقوقهم الضائعة ما بين الكنيسة والدولة، وتطرق النقاش إلى عمر الأزمة ومدى استمراريتها فيما هو مقبل فى ظل الأوضاع الراهنة.

على الجانب الاَخر اتخذت منظمة “الاتحاد المصري لحقوق الإنسان” موقفًا مغايرًا إذ رفضت ما يطالب به بعض الأقباط بشأن إصدار قانون مدني يبيح تعدد الزواج.

159366414649412
أما رابطة 38، ترى أن الطلاق المدني لا علاقة له بتعاليم الكنيسة والإنجيل، فالطلاق الكنسي وما يترتب عليه من زواج ثانى يحكمه قوانين الكنيسة، الزواج الثاني حق مملوك للكنيسة، ومشكلة الحاصلين على الطلاق الكنسي أنهم لا يتمكنون من الحصول على الطلاق المدني وهو ما يعد تعطيلاً عن تطبيق تعاليم الإنجيل والكنيسة وبالتالي لن يتمكنوا من الزواج الثاني لأنهم غير مطلقين من جهة الدولة.
وفي ختام هذا الحديث الطويل عن أزمة الطلاق فى المسيحية لم نصل بالفعل إلى حل جذري هناك المئات بل الآلاف من السيدات المسيحيات في انتظار قرار من الكنيسة أو الدولة لوضع نهاية لماَساتهن التي يعيشنها.

“كل قبيلة .. لها قانونها”
وسيظل التساؤل مطروحًا بلا إجابة محددة أو وشيكة التحقق، هل على الدولة إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية جامع للمسلمين والمسيحين لحل الأزمة؟ أم على الكنيسة فتح أبواب الزواج الثاني أمام السيدات اللواتي يعيشن وكأنهن بلا روح ولا حق لهن فى الحياة، فقط ينتظرن قرارات الكنيسة للنظر في أمرهن؟
وللأسف لن يجد هذا السؤال مجيباً، لأن الدولة تخشى الخوض في معارك دينية هي في غنى عنها متبنية موقف كل “قبيلة لها قانونها”، و من الناحية الأخرى، ترى الكنيسة أنها إن فتحت أبواب الزواج الثاني بذلك تخالف التعاليم المسيحية وفى النهاية لا أحد يدفع الثمن سوى الغارقات فى وحل المشكلة.