تحمس له المشاهدون بمجرد الإعلان عن استقبال الشاشات خلال موسم رمضان 2017، لمسلسل تلفزيوني تخرجه “كاملة أبو ذكري” وتكتب له السناريو “مريم نعوم”، وولد الشغف قبل معرفة أي معلومات عن قصته، فاجتماع الاسمين يكفي للتيقن من أن وجبة درامية دسمة ستحل على المائدة الرمضانية.

“واحة الغروب” مسلسل مأخوذ عن رواية للأديب الكبير “بهاء طاهر” صدرت في عام 2008، عن دار الشروق، وحصدت الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأولى في العام نفسه.

هذه ليست المرة الأولى التي يتعاون فيها الثنائي “أبو ذكري” و”نعوم”، في تحويل رواية إلى مسلسل، فقد سبق وقدمتا “ذات”  عن رواية لـ”صنع الله إبراهيم” في عام 2013، و”سجن النساء” عن رواية لـ”فتحية العسال” في 2014، لكن التعاون هذه المرة ضربه الخلاف، واكتفت “نعوم” بكتابة الـ16 حلقة الأولى، واستكملت المهمة السناريست “هالة الزغندي”.

ويأخذ المسلسل مشاهديه في رحلة لاستكشاف ذوات الأبطال التائهة بين ماضيها وحاضرها، ويناقش من خلال أحداثه أفكار ومفاهيم الموت، والخوف، والحرية، والبطولة، والثورة، وقد نجح فريق العمل خلف وأمام الكاميرا في تقديم عمل متميز ينهج نهجًا مستقلًا عن بقية المسلسلات المعروضة، ويبقى في قائمة الأفضل رغم مشكلة المط وبطء الإيقاع الذين أصابا أجزاءً منه.

المسلسل صاحب الحضور النسائي الأقوى “خلف الشاشة”

مثلما اعتدنا مع الأعمال التي تحمل توقيع  المخرجة “كاملة أبو ذكري”، فالحضور النسائي خلف الكاميرا قوي ولافت، ويكاد يكون “واحة الغروب” هو أكثر مسلسل يضم عددًا من المبدعات مثل: سلمى الخطاب، ومريم أبو عوف، ومي ممدوح في فريق الإخراج، ونانسي عبد الفتاح مديرة التصوير وهو الموقع الذي يستأثر به الرجال في صناعة السينما، وريم العدل مصممةً للأزياء، ويارا سميح مساعدة تصميم أزياء، ومرام جنيدي مونتير مساعد، وسلمى الباروني لمونتاج الصوت، ووفاء علي لسكريبت الحركة.

ما أشبه الليلة بالبارحة

يبدأ المسلسل بضرب الأسطول البحري البريطاني للإسكندرية في 11 يوليو 1882م، الذي تبعه الاحتلال الإنجليزي لمصر  ووأد ثورة عرابي.

ثمة رابط بين الأجواء التي أحاطت بثورة عرابي  وما حاق بثورة يناير 2011، يظهر  في الحلقات الثلاث الأولى، التي تحولت خلالها “الثورة” إلى “الهوجة” وانتقل كل من انتمى إليها من خانة “الثائر” إلى “الخائن” بعد تكالب الأعداء وأصحاب المصالح.

التشابه ليس في الحالة العامة وحسب، بل في بعض الرجال المنتمين للثورة، الذين يطالبون بالحرية، وهم أول من ينتزعها من النساء، فشخصية الضابط “محمود عبد الظاهر” المؤيد لثورة عرابي، والمنادي بالحرية والاستقلال والمساواة والمؤمن بالاستماتة من أجل الظفر بها، هو نفسه من يرى المرأة تابعًا له لا يجوز  أن تستقل عن ما يضعه إطارًا لها، مثل كثيرين نادوا وينادون بالحرية والتحرر في الوقت الراهن، وهم أول من يقف في وجه نضال النساء من أجل حريتهن وتحررهن، رغم أن الفارق الزمني يتجاوز 130 سنة.

مصر الذكورية

تبدو  مصر في المسلسل ذكورية إلى أقصى درجة، خاصة أن أحداثه تجري في نهايات القرن الـ19، وفي ذلك الوقت، لم يكن ممكنًا للنساء المشاركة في المجال العام، وحتى الثورة العرابية التي تنبت منها أحداث المسلسل، كانت مشاركتهن فيها محدودة وسرية، مثل بيانات موقعة بتجمعات نسائية سرية لتأييد الثورة، أو  دور سري لعبنه في جمعيتي حلوان ومصر الفتاة الثوريتين، ثم المشهد الأعظم في اليوم الذي قُصفت فيه الإسكندرية، عندما سقطت شهيدات برصاص الأسطول الإنجليزي، وهبت النساء لمداواة الجرحى.

خارج سياق الثورة، كانت مصر تعيش حالة جمود اجتماعي وثقافي، ولم يكن مقبولًا خروج النساء إلى المجال العام، فكانت مصر ذكورية بامتياز، ولذا احتفت الرواية قبل المسلسل بالذكورة، ويتجلى ذلك من خلال شخصية البطل “محمود عبد الظاهر”.

“نعمة”.. أول من كشف أكذوبة الثائر الحر

عندما قامت الثورة العرابية، صاحبتها حملة شنها قادة الثورة ضد الاسترقاق، إلا أنها لم تقض على الظاهرة، وحتى الجواري اللاتي حصلن على حريتهن وتحولن إلى خادمات بالبيوت، كان ذلك “ظاهريًا” وبقى الغرض الحقيقي كما هو، و”نعمة” نموذج لهذه الفئة، فهي الجارية السمراء التي يمتلكها “محمود عبد الظاهر” الضابط المؤيد للثورة، التي تناهض التمييز  واستعباد البشر، ومع ذلك يحتفظ بها، وعلى الرغم من أن البعض قد يرى تمسكه بها يعود إلى الحب الذي يتكبر عن الاعتراف به، لكن الأنانية التي يتسم بها تُغالب الحب، فهو  يتركها في المنزل ترتقب وصوله دون ميعاد عودة، ويعيش حرًا طليقًا، يقضي ليله في الحانات بين الخمور وبائعات الهوى، ثم يعود ليجدها خلف الأبواب المغلقة، تستقبله بكلمة “سيدي” وتفتح له ذراعيها  ليمارس كل ما يشبع ذكورته.

لم يُذب الحب الاختلافات والفروق، وتغلبت العنصرية الكامنة داخله، و ذَكَّرَها بكونها جارية عندما سألته عما إذا كان يحبها، لتصبح “نعمة” أول من يُسقِط قناع الزيف الذي يرتديه “محمود عبد الظاهر”.

https://youtu.be/jjAyzjenxa8

“كاثرين”.. التلذذ  بالتبعية والرضوخ

تثير شخصية “كاثرين” العديد من التساؤلات، فهي امرأة تضحي بالحرية وتتطوق نفسها بقيود الاستعباد، وحتى الحب الذي يقذف بالبعض إلى بحر الذل، لا يوجد مبررات منطقية لتولده واستمراره في كنف رجل أناني لا يُرضي سوى نفسه وغروره.

امرأة أيرلندية شغوفة بالتاريخ المصري القديم، ومهتمة بالإطلاع على أسراره وخباياه، تجتمع مع “محمود عبد الظاهر” على نفس السفينة خلال رحلة نيلية إلى أسوان. تحاول “كاثرين” لفت انتباهه ولا يستجيب، فتذهب إليه بنفسها لتحدثه، فيقابلها ببرود، ولا يخفف من جفاء معاملته سوى معرفته بأنها ليست إنجليزية وإنما أيرلندية، أي قادمة من بلد يعاني من نفس ما تعاني منه مصر  وهو الاستعمار الإنجليزي، ودون إبراز أي مقدمات منطقية لحالة الانبهار التي تملكتها، تتطور العلاقة بينهما بسرعة، ويتزوجا على الرغم من رفضه لمبدأ الزواج، وتعلق قلبه بـ”نعمة”، بينما تغرق هي في العشق والهيام إلى درجة الذل والخضوع غير المشروطين.

وعلى عكس “نعمة” التي اختارت الهروب، عندما نهرها “عبد الظاهر” ووبخهها، لأنها أرادت منه البوح بحبه، تقبلت “كاثرين” اعترافه بالخيانة، وظلت في البيت، مكتفيةً بالانزواء في غرفة أخرى بعيدة عنه ليومين، ثم عادت إليه، وكأنها تشحذ منه اعتذارًا، والأدهى، أنها تعاملت بأريحية مع تعليله للخيانة بأن جسده لا يكفيه امرأة واحدة.

قبلت “كاثرين” بالتنازل عن الحرية التي تتمتع بها، على عكس كثير من النساء المصريات وقتذاك، سواء فيما يخص الجسد، أو الحركة، أو القول، وانتقلت مع “عبد الظاهر” إلى واحة سيوة حيث أُرسِلَ كنوع من العقاب غير الصريح لإيمانه بالثورة.

خلال رحلتهما في الصحراء إلى سيوة، تصيب “عبد الظاهر” ضربة شمس تفضح ما يخفيه، وتسمع بأذنيها كلماته التي يخاطب بها “نعمة” في هلوسته، يرجوها أن تعود إليه، ومع ذلك عندما تواجهه يكذب ويدعي أن “نعمة” امرأة عجوز كانت تخدم بالبيت، فتأنس للكذب وتبتلعه دون ذرة شك، وتستكمل معه الرحلة  مُعَوَّلةً على العزلة التي سيعيشانها في الواحة، وستمنع خيانته، وتثبت حبها في قلبه بعد ألا يصبح حوله امرأة سواها في ظل مجتمع يخفي نساءه عن الأبصار، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وتتسع الهوة بينهما، وتتكرر إهانته لها، ثم تتحول إلى مجرد وعاء لإفراغ شهوته أو  فقط للاطمئنان على ذكورته، وينتهي الأمر  بها حبيسة في منزله، يحاوطها الحرس.

“مليكة”.. التمرد في مواجهة الأغلال

هي الشخصية الوحيدة تقريبًا داخل الواحة التي اتسمت بالتمرد والإباء؛ فتاة حلوة الشكل والطابع، ترفض الانصياع والاستسلام لأعراف الواحة المتعنتة، التي تُشيئ النساء، ومع ذلك تتسبب هذه الأعراف المُكبلة في مقتلها معنويًا وماديًا.

تهوى “مليكة” نحت التماثيل الصغيرة، وتخرج من المنزل متخفية لتذهب إلى المعبد حتى تمارس هوايتها المفضلة، وتقابل الاعتداء اللفظي والبدني من أسرتها وخاصة أخيها بالضحك حتى لا تفقد قدرتها على التمرد.

تتزوج المراهقة ابنة الـ15 سنة، من “رضوان” ابن خالها “يحيي” الذي تحبه، وسرعان ما يفارقها بعد أن تعود الحرب لتشتعل في الواحة بين القبيلتين المتصارعتين وهما الشرقيين والغربيين، لتتحول بعد مقتله إلى “غولة”، وهو  لقب تناله الأرملة ضمن الموروثات البالية هناك.

تُحبس “الغولة” لمدة تقترب من أربعة شهور، ترتدي رداءً أبيض اللون ويحرم عليها الاغتسال، وتجبر ألا تُحدث أحدًا، اعتقادًا بأنها تملك عينًا قوية وحسودة تجلب الحظ التعيس، وتتجسد فيها الشياطين والأرواح الشريرة، ولذلك يمنعون خروجها من محبسها، خوفًا من الكوارث التي ستحل بالواحة حينها، وعندما يأتي موعد الخروج للاغتسال، يخرج الأطفال يعلنون خروجها مرددين “خبوا عيالكوا الغولة جيالكوا”، وتتجه إلى أحد عيون الواحة، للاغتسال، ثم تنطلق الزغاريد.

وعلى الرغم من أن أمر “الغولة” مُستساغ بين نساء الواحة، إلا أن “مليكة” ليست مثلهن، ولذلك تمردت على العرف السائد وخرجت خلال فترة الحبس متخفية لزيارة قبر  زوجها، اشتياقًا له، وتمردت مجددًا عندما تقرر تزويجها رغمًا عنها من رجل طاعن في السن في إطار صفقة صلح بين القبيلتين المتناحرتين، فهربت منه متحديةً الأعراف، إلا أن الهروب لم ينجدها من القدر، الذي كتب عليها أن تصبح “غولة” مرة أخرى.

تقرر “مليكة” الخروج مجددًا وهي “غولة” قاصدةً الهروب إلى القاهرة، لكن التحرر من القيود لا يعدو كونه سرابًا في الصحراء القاحلة، بل إن تلك القيود قد تتوحش وتنتصر بقوة الجهل، فتقتل من حلم يومًا بالخلاص.