في إطار حملة «مباشر من الماضي» – رنيم العفيفي تكتب: في عيدها الرابع.. القصة وراء «ولها وجوه أخرى».. يناير وروزا وأشياء أخرى
هذا المقال تكتبه – رنيم العفيفي
رئيسة تحرير ولها وجوه أخرى – يمكنكم التواصل معها عبر raneem@wlahawogohokhra.org
مسألة كتابة مقالات الرأي تبقى مشقة وعبء، أكتب السطور الأولى ثم أمسحها، وفي كثير من الأحيان، لا أتوانى في التخلص مما كتبت بعد الانتهاء منه، ومبعث هذه الأفعال هو الشك في أن ما أكتب يستحق أن يٌقرأ، في ظل كم هائل وسيل عرم من التدوينات التي تُكتب يوميًا، لكنني لم أفكر هل الذي أكتبه يستحق أن يٌقال أو يباح به، إلا هذه المرة عندما جاءت دعوة حملة “مباشر من الماضي” للمشاركة فيها، ليثار بداخلي فقط سؤال هل ما أكتبه يستحق أن يُقال، وأعتقد أن عقلي يرجح كفة القول والبوح بهذه القصة التي نتج عنها “ولها وجوه أخرى”، مولودتي الصغيرة التي تتم عامها الرابع، في ظل ظروف ضبابية، تزيد من مخاوفي بشأن مقدرتها على تحمل قسوة شتاء العبث الذي يطال كل ما ولد بفضل ما بثته ثورة يناير في النفوس، لكن كثير من مواليدها عاشوا سنة، سنتين، ثلاث، أربع، وسرعان ما وأدتهم الرياح العاتية والظلام الممتد.
قبل نحو 5 سنوات، قررت إطلاق منصة إلكترونية تختص فقط بتقديم شكل من الصحافة شبه إندثر في الاَونة الأخيرة في مصر، وهو ما يسمى بالصحافة النسوية أو الصحافة المنحازة لقضايا النساء، في ظل رواج ما يسمى بالصحافة المنحازة لاهتمامات النساء (باعتبار أن المكياج والموضة والطهي والعلاقات الحميمة هي كل اهتمامات النساء في الحياة)، وعندها قررت خوض تجربة الغوص في أعماق هذا العالم، ومن هنا بدأ الفصل الثاني من القصة.
أما الفصل الأول هو مجموعة من الأحداث المتصلة وغير المتصلة، التي تتعدد فيها كلمات قد يجدها البعض مبعثرة بلا رابط، «روز اليوسف، الإعلام، حقوق المرأة، الصحافة، الثورة»
تخرجت من الجامعة في يوليو من العام 2010، وكانت كل تطلعاتي تصب باتجاه العمل “مقدمة برامج”، ووقتها لم أكن أفكر سوى في حالي وحدي، في مستقبلي بمفردي، ومنذ التخرج وحتى يناير 2011، أحاول النجاح في تحقيق حلم الطفولة الذي فضلت بسببه كلية الإعلام على حساب كلية الصيدلة، التي كانت رغبة والديا، تعرضت منذ التخرج لشتى أنواع تثبيط العزيمة، وعلى رأسها التحرش الجنسي قبل وأثناء العمل، حتى عندما بدأت تتغير خارطة ذهني، وأتجه للعمل كمراسلة ومن ثم صحافية، حتى يتسنى لي تغطية ما يرتبط بالثورة من ناحية، وحتى اقترب من الناس أكثر، بعد أن وجدت في القرب منهم مصداقية وواقعية أكثر من الجلوس وحيدة أتحرك بخيوط غير مكشوفة كالمريونيت أمام شاشة في البرج العالي، وبعد أن تكشفت لي قصص وحكايات لم يكن ممكنًا أن تعرفها عن قرب إحدى قانطي حي المعادي، حيث الطبيعة الهادئة وبقايا الماضي الراقي، التي قلما تفكر في تخطي سياجه.
لا أنسى تلك المرة التي طلب مني فيها أحد المخرجين أن استدير بجسدي، ليتفحصه ويرى إن كان ملائمًا أن يظهر أمام الكاميرا، وكيف تجرأت وقلت له لن أفعل وانسحبت، وقد تملكني شعور عميق بالمهانة، وكثيرًا ما أتذكر صديقتي التي تعمل بإحدى المؤسسات الصحافية الكبرى، التي قالت لي “أدخلي للرجل الثاني (بمعنى الذراع اليمنى لرئيس التحرير)، وستجدين نفسك في المكان الذي تريدينه، لأنك “حلوة” وهيتبسط منك”، فتركتها في الطابق العلوي بالمكان ونزلت في هدوء، وهو ما تراه هي واقعًا، فقد باتت الاَن ذات مكانة وشأن هناك، أما أنا في أسفل الدرك بالنسبة لها أو بالأحرى في مهب الريح.
وغير ذلك الكثير، ففي إحدى المؤسسات الصحافية قال لي أحد المسؤولين في أول لقاء بعد أن قدمتني له صحافية مخضرمة بالمكان “لو كملتي هنا، هيكون بس عشان شكلك حلو.. المكان ينضف شوية”، وبعد أيام تركت المكان، رغم أهمية الفرصة على مستويات عديدة.
مواقف أخرى عديدة، أدركت من خلالها أن تسليع الفتاة أو تنميطها، داخل الإعلام، لا يتوقف عن حد صياغة المواد الصحافية سواء كانت مكتوبة أو مصورة أو مسموعة، لكنه يكتنف التعامل مع الصحافيات أنفسهن، والأمر ليس شخصيًا، فقد شهدت على حرمان إحدى الصديقات من وضع اسمها على تحقيق أجرته مع زميل اَخر، لأنها أهانت أحد الصحافين بعد أن تحرش بها، ومن ثم أصبح اسمها لنفسها فقط، لا تعرفه أوراق الجريدة المطبوعة، وأخرى كانت تعمل في إحدى شركات إنتاج التقارير والأفلام الوثائقية، أبدت اعتراضًا على طريقة تعامل أحد المسؤولين فيها التي تنطوي على تحرش جسدي، فكان مصيرها، التخلي عنها وخسارة مستحقاتها المادية.
«العنف ضد المرأة .. أنتِ تعرفي عنه إيه؟»
هذا السؤال الذي وجهته لي إحدى الفتيات من المهتمات بالدفاع عن حقوق النساء باستغراب، ولها في ذلك دافع – بالنسبة لها – أقوى مني للانخراط في هذا المنحى، وهو معايشتها للعنف منذ الميلاد، هذه الفتاة أخضِعت لختان الإناث في العاشرة، في المقابل لم أسمع عنه قبل عام 2009، عندما فوجئنا في الجامعة بكاميرات ومصورين، لتصوير جانب من إعلانات الحملة القومية للختان، وعندها عدت إلى والدي أسأله باعتباره طبيب أمراض نساء وتوليد ومرت عليه حالات متضررة من هذه الممارسة، فحكى لي من القصص ما أقشعر له بدني، وأغرقتني مرارته.
كيف يمكن أن يحدث هذا، والجروح تغور يوميًا في صمت، هل يكون الحل في “الحكي” وكشف مدى المعاناة التي تكابدها ملايين الفتيات، لكن كيف يمكن نشر قصصهن، إن كان كثيرون يريدون المتاجرة بها، بحثًا عن قراءات أكثر، لرفع تصنيف مواقعهم الإلكترونية!
وعلى عكس الختان، كنت أعلم بالزواج المبكر منذ الصغر، ورأيت حالات كثيرة، لعاملات بالمنازل، وزوجات حارسي العقارات، سمعت قصصهن، بحثت في القوانين، ووجدت أن القانون المجرم موجود بالفعل، لكن هل يعلم الناس بأنه ظاهرة، الإجابة “لا” هناك من لا يدركون ذلك «زواج قاصرات إيه اللي منتشر .. مفيش الكلام دا أنت شوفتي حد مننا أو أي حد من دايرتنا جوزوه بالعافية عنده 15 ولا 16 ولا حتى 20 سنة..دول ناس مش زينا.. مش شبهنا!»
وبالطبع عشت ومازلت أعيش يوميًا المعاناة اليومية لأي مصرية مع التحرش الجنسي، لكن معرفتي بأشكال كثيرة من العنف يحترف المجتمع ممارستها بحق النساء جاءت متأخرة، وحتى اللحظة اكتشف ما تجحظ عند سماعه عيني.
حاولت في أحد الأماكن التي عملت بها، أن اقترح فتح ملف موسع عن العنف ضد المرأة في مصر، أرقام، وقضايا، وإشكاليات القوانين، وقصص، وأوراق ودراسات من المنظمات الحقوقية ، فقال أحدهم «عنف إيه وتحرش إيه.. الناس زهقت .. صدعت من الكلام دا، وبعدين التحرش دا بقا موضة بعد الثورة .. ومنظمات إيه اللي هناخد منها كلام، كل كلامهم تشويه للواقع أساسًا!»
تضافرت الظروف البائسة، لتدفعنى دفعًا للإقدام على إطلاق منصة إلكترونية بإمكانيات محدودة تقدم ولو قليل مما لم يسعني ويسع أخريات أن يقدمنه عبر وسائل أخرى، وكنت قد تحولت من التمركز حول ذاتي إلى التمركز حول الاَخرين، ووجدت في ذلك ضرورة حتمية، بعد أن سكنت الثورة العقل وغيرت جل ما كان يعتمل داخلي.
روزا .. الحلم
الفصل الثاني من القصة، عندما بدأت أبحث في تاريخ الصحافة النسائية – كما اعتاد مؤسسوها تسميتها بداية من هند نوفل في 1892 – وذهبت أبحث عن المجلات النسائية القديمة، أنقب في الكتب وأطلع على السير الذاتية، أتعرف على المجتمع الحقوقي النسوي وتاريخه، أحضر ندوات وجلسات نقاشية، أشاهد أفلامًا وثائقية، وفي الوقت نفسه، اشتري كتبًا في اللغة العربية، حتى أتعلم التدقيق اللغوي والإملائي ولو بقدر جيد يؤهلني لذلك، وعلى مدار سنة كاملة، مررت على شخصيات نسائية كثيرة، وتأثرت كثيرًا بقصة “درية شفيق”، لما فيها من نضال مترام الأطراف، لم يقتصر على طريق واحد، وإيمانها بأن الدفاع عن تحرر النساء بل والوطن ككل لا يمكن أن ينفصل عن حرية الصحافة، فضلًا عن مقاومتها للسلطة الأبوية في مصر على مستويات عدة، أعلاها السلطة السياسية التي حكمت مصر بعد 1952، لكنني تعلقت بشدة بــ”روز اليوسف” وكأنني وجدت ضالتي، وجدت نفسي أمام امرأة تحملت لطمات الحياة منذ الطفولة، ولم تزدها إلا قوة، وعلى الرغم من الظروف العصيبة والقاسية التي مرت بها، كانت ومازالت ملكة في الفن والصحافة.
وفي قصتها ثلاث نقاط، استوقفتني أكثر من أي شيء اَخر
- عندما قررت إطلاق روز اليوسف كمجلة فنية في البداية، بعد اعتزالها التمثيل المسرحي، كان سؤالها «لما لا يوجد مجلة فنية تدافع عن هؤلاء الممثلات والممثلين؟»، وكان شاغلها الشاغل الدفاع عن حقوق زملائها، وقالت بحسب حفيدها الصحافي محمد عبد القدوس «هعتزل وهعمل مجلة تحارب الفساد في الفن»
- في أول عدد صدر لمجلة “روز اليوسف” كتب أحد الكتاب وهو عبد القادر المازنى «أظن أن هذه المجلة نزوة»، وحتى تؤكد على مفهوم حرية الرأي والتعبير، وافقت على نشر المقال في المجلة، ثم ردت عليه في مقال موازٍ تقول «نعم يا سيدى قد تكون نزوة، ولكن كل عمل جديد وكل فكرة جديدة ممكن أن تبدأ بنزوة ثم تصبح إرادة» وبالفعل انتصرت إرادتها لتبقى حية حتى يومنا هذا رغم رحيلها.
- أما النقطة الثالثة وهي جملة قالتها “روزا” عن مشروعها الأعظم، وكثيرًا ما أتذكرها وأرددها، «حقيقة واقعة.. وكائن حي أحرص عليه.. وأقسم على أن يعيش وينمو بأي ثمن.»
الفصل الثالث والأخير – حتى الاَن – في القصة هو الوقت الحاضر، بعد أن انطلقت المنصة، تمضي السنوات وهي قائمة، وقد شاركني الحلم كثيرات، وهن بشكل رئيس السبب في استمرار “ولها وجوه أخرى” على قيد الحياة، حتى من كن موجودات لفترة، ورحلن لصعوبة الظروف والعمل التطوعي، فجميعهن تركن بصمة تتلألأ بها صفحاتها، وتركن لي دعمًا ومساندة لا تكفيهما كلمات الشكر كلها.
منذ اتخاذ القرار بانطلاق “ولها وجوه أخرى” وحتى الاَن، تكالبت العوائق من مختلف الاتجاهات، تغلبت على جانب منها، وأهمها بالنسبة لي إعادة تعيين مفهوم كاد أن يختفي، واكتساب ثقة صاحبات التجارب والقصص، وفتح المجال أمام العديد من الصحافيات اللاتي أردن وسيطًا يدعم تغطياتهن وتحقيقاتهن في قضايا النساء بدلًا من رفض نشرها في مؤسساتهن بحجة أنها “ليست مهمة”، فضلًا عن توفير مساحة اَمنة لكل هؤلاء في العمل، والتدريب أيضًا، وأتمنى أن يكون ذلك موجة من موجات الحجر الملقى في الماء الراكد.
منذ أربع سنوات وحتى الاَن، يعرفني كثيرون بـ “المصورة” التي تظهر في كثير من الفعاليات المرتبطة بالوسط الحقوقي النسوي، حتى فوجئت مؤخرًا بإحدى الصحافيات التي اعتادت أن تراني، تراقب استقبال حار وشكر من أحد منظمي إحدى الفعاليات، لما تقدمه “ولها وجوه أخرى”، وبعدها جاءتني تسأل “أنتِ شغالة في ولها”، وقبل أن أجيب رد أحد القائمين على الفعالية “دا هي مؤسستها”، لم تصدق الصحافية الشابة وقالت لي “دا أنا كنت فكراكِ مصورة كدا يعني .. تطلعي أنت رئيسة تحريرها”
ابتسمت وقلت لها “المهم أنك عارفة ولها وجوه أخرى.”