هذا المقال تكتبهدعاء عبد الفتاحناشطة نسوية

فى سن المراهقة، وفي السادسة عشر تحديدًا، كنت أدخل إلى المنزل على أطراف أصابعي، حتى لا يرى أبي كتاب “المرأة والجنس”، فقد كان من عاداته أن يرى ما بيدى من كتب أحملها من الخارج ليناقشني في أحدها، وكنت وقتها أخجل بحكم السن وقلة الوعي أن يرى أبى – رغم كونه رجلًا تقدميًا – كتابًا بهذا العنوان.
“نوال السعداوي” بالنسبة لي ليست مجرد كاتبة، بل نقطة تفتٌح وعيي بجسدي وعقلي، ظللت لسنوات طويلة، ابتلع كتبها عامًا بعد عام، وأحفظ ما كتبته عن ظهر قلب كما يحفظ الإنسان اسمه أو عنوانه، وأذكر أنني فى المرحلة الثانوية، وما بعدها كنت وفئة صغيرة جدًا من الصديقات، نتعاطى كتب نوال كما نتعاطى المخدرات، بينما بقية الأصدقاء لم يحاولوا قط أن يقرأوا لها ولو سطرًا واحدًا مكتفين بما يتناقله بعض الرجعيين عن هذه السيدة العظيمة.
بقيت لسنوات عدة وحتى الاَن أحفظ لــ”نوال” بعضًا من الجمل التي يمكن أن أقول أنها كانت بمثابة نقطة تحول وبداية وعي وطمأنينة في حياتي.
تقول فى كتابها الأشهر “الأنثى هى الأصل” “إن شرف الإنسان رجلًا أو امرأة هو الصدق؛ صدق التفكير وصدق الإحساس وصدق الأفعال. إن الإنسان الشريف هو الذي لا يعيش حياة مزدوجة؛ واحدة في العلانية وأخرى في الخفاء”، ظللت استيقظ طوال الليالي التى تلت تلك الجملة، وأفكر بها ليلًا نهارًا، صححت “نوال” المغلوط المولودة به، ومن بعدها لم أعد أتعامل مع الشرف باعتباره صفة تشريحية أولد بها، إذا كنت أحمل غشاء بكارة، بل أقيس شرفي بصدقي، وعقلي المفكر المنتج هو حتمًا عقلي الشريف.

إن مجتمع يختزل إنسانية المرأة وكيانها بمجرد غشاء بكارة، هو مجتمع يسير بخطى ثابتة نحو الهاوية، ذلك لأن العلاقة بين المرأة والرجل يفترض أن تقوم على الاحترام والحب وعلى احترام جسد الآخر.

بعد التخرج مباشرة من كلية الحقوق في أقصى جامعات الصعيد، وجدت نفسي تائهة تمامًا، مضطربة قلقة طيلة الوقت، أفكر في مستقبلي وعملي الذي لم أحصل عليه سريعًا، ولم يجيء كما أحب، فكان أغلب الذين أعرفهم يرجحون هذا القلق كونه قلة إيمان أو بعد عن الدين، فكانوا ينصحونني بالتقرب إلى الله، إلى أن قرأت لـ”نوال” ما طمأنني وهدأ ارتباكي الموحش في الفترة إياها وما تلاها من فترات قلق تطول أو تقصر، حيث تقول في كتابها الأقرب إلى قلبي “المرأة والصراع النفسي” : “القلق ليس إلا رغبة في الحصول على المزيد ورغبة في حياة فُضلى وطموح أكبر وتحقيق نوع من التكامل والرضا عن النفس والذات. فهو قلق النساء القويات الصامدات في وجه التحديات، أما الهستيريا والخوف هما مرض الضعيفات العاجزات عن المواجهة، ولهذا فإن علاج القلق ليس بإزالته عن طريق المهدئات والمسكنات، ولكن علاج القلق هو تعضيد المرأة بقوة وإمكانيات أكثر للانتصار على التحديات وقهرها وتحقيق ذاتها كإنسانة متكاملة في مجتمع يساوي بين الجميع، ومن هنا كانت أهمية الفهم لمشاكل المرأة الاجتماعية. إن المعرفة هي إثارة عدم الرضا في نفس الانسان من أجل أن يعمل على تغيير حياته إلى الأفضل. ولولا عدم الرضا لما تقدم الإنسان ولكانت حياته كحياة الحيوانات، إن الحيوانات لا تشعر بعدم الرضا، ولا تشعر بالقلق، ولذلك هى لا تغير حياتها إلى الأفضل.”

كان كثير منا إلى وقت قريب، وأنا واحدة منهم، حين يمدحون امرأة ما يقولون “دي ست بمية راجل” لم أرهق نفسي يومًا فى فهم العبارة وكنت أرددها ببلاهة، حتى دققت في الجملة، بعد أن أعدت قراءة كتاب المرأة والجنس للمرة الثالثة “إن المجتمع لا يستطيع أن يعترف أن المرأة يمكن أن تتفوق وتنبغ دون أن تتحول إلى رجل، فالتفوق والنبوغ في نظر المجتمع صفة للرجل فحسب، فإذا ما أثبتت امرأة ما نبوغها، بما لا يدع مجالًا للشك، اعترف المجتمع بنبوغها وسحب منها شخصيتها كامرأة وضمها إلى جنس الرجال”، ومن يومها توقفت عن مدح النساء القويات بوصفهن بأنهن بــ”مية راجل” والتغيير إلى أنهن جدعات أو بــ “مية ست”.

تجربة “نوال السعداوى” كانت بالنسبة لي التجربة الأكثر إلهامًا في تاريخ الرائدات النسويات المصريات، ليس فقط لأن كتاباتها كانت سابقة جدًا على الوقت الذي كتبت فيه، بل أيضًا لأنها التي سُجِنت من قِبل النظام السياسي، وشُوِهَت من مجتمع العوام، وهُدِدت من قبل الجماعات الإسلامية بالقتل، لم يوقفها هذا أبدًا عن الاستمرار والمقاومة بالكتابة والنقاشات والجدلات الى الاَن. إن اشتباكي الشخصي مع كتابات “نوال” هو بحثي الدائم عن المقاومة وعن محاولة وجود نقطة نور وسط العتمة.