هذا المقال تكتبه جيهان فادي ناشطة نسوية

بادئ ذى بدء كدت أن اختار لكتابة هذا المقال شخصية نسوية أخرى وهي سهير القلماوي، لكنني أعرفها من خلال بعض المعلومات التاريخية عن مصر في القرن العشرين، وتذكرت شخصية بل إنسانة اَثرت أفكارى في بداية تشكل وعيي النسوي، وتعرفت من خلالها على القضية النسوية وبدأت أعي  الأشياء من منظور مختلف ومن زوايا متعددة، وأتطرق لأسئلة لم أعرف أن من حقنا إثارتها.

إنها فاطمة المرنيسي تلك المغربية المحبة للألوان والبهجة، الجسورة، المفكرة المميزة فى القلم والتعبير، التي أخذتني من أول كتاب قرأته لها، حينما بدأته برواية بعض القصص المميزة من صفحات ألف ليلة وليلة، التي التصقت بذاكرتي حتى الآن، فقد كانت تدلل على ذكاء المرأة وكفائتها، وأنها ليست أقل من الرجل فى أي شيء كما يحاول البعض إدعاء العكس، تحدثت عن شهرزاد وذكائها، التي استخدمت فن الحكي، كي تنجو من عقاب شهريار أو حكاية المرأة التي تلبس الريش، التي نقلتها من جدتها “الياسمين”، عن المرأة الحسناء التي ترتدي ريش وجناحان وتتجول أينما شاءت ثم رآها حسن البحار وسلبت لبه وهام بها حبًا، ثم سرق كسوتها من الريش ودفنها، وحينما أرادت الحورية الطيران لم تجد كسوتها من الريش، فأسرها حسن وتزوجها وغمرها بالحرير والجواهر الثمينة واطمأن إلى رضاها بالأمر الواقع وأنها لا تفكر في هجره وتعود للطيران حينما أنجبت منه ولدان، ثم سافر في طلب المال وأوصى أمه بتشديد الرقابة عليها، وأخفى كسوة الريش في صندوق مدفونة تحت الأرض، لم تتوقف المرأة ذات الريش عن البحث عن كسوتها، حتى وجدتها ثم أخذت ولديها وارتدت ريشها وعادت للطيران مرة أخرى وطارت بعيدًا واستعادت حريتها.

هذه القصة التى لم تغب عن بالي قط، وتلك المرأة ذات الريش التي حفزتني طوال الوقت واعطتني قوة «الحرية حق يجب انتزاعه»، وتخبرنا فاطمة عن سر حبها لهذه الروايات الشعبية التي تناقلتها من جدتها الياسمين، إن أخذ المرأة حقها فى رواية الحكايات هو قوة لأن قناعة فاطمة أن المرأة التي بلا صوت هي امرأة محجبة، وهي تقصد عقلها وروحها محجوبة عن الحياة، لذا استعانت بالقلم لمساندة ودعم القضية النسوية كما فعلت نظيرتها في الحكايات الشعبية بقوة الحكي والكلمة.

فاطمة المرنيسي الباحثة التي قضت نحو 40 سنة من عمرها في البحث فى علم الاجتماع ودراسة الكتب السماوية، في قراءة نقدية للتاريخ العربي والإسلامي، وحدثتنا فى أبحاثها عن التأطير الدينى لمكانة المرأة ووظيفتها، من خلال التأويل المباشر للنصوص الإسلامية أو من خلال نقد الأدبيات الفقهية، التي أسهمت فى إنتاج القوانين التي وضعت المرأة فى الأطر الاجتماعية في البلاد العربية والإسلامية.. فاطمة المرنيسي صاحبة الجدل المحكم حول عدم فرضية الحجاب.

ولدت فاطمة سنة 1940 بفاس – المغرب، كانت من القليلات اللائي حصلن على تعليمهن فى مدارس تابعة للحركة الوطنية بعيدًا عن الاستعمار الفرنسي درست العلوم السياسية في السوربون في فرنسا وحازت على شهادة الدكتوراة  في  العلوم الاجتماعية من أمريكا 1973، وتوفيت في نوفمبر 2015.

فاطمة المرنيسي عالمة ومفكرة وباحثة وكاتبة، أثرت التراث النسوي بكتابات مميزة عن حياة الحريم فى المغرب، فقد عاصرت في طفولتها ظاهرة الحريم في بيوت الطبقة الغنية في المغرب وتأثرت بها جدًا فكتبت على إثرها “أحلام الحريم” وكتاب  ” شهرزاد ترحل إلى الغرب”، في الكتاب تطرح فاطمة رؤى الغرب للنساء كونهن لسن أفضل حالًا من الشرق في نظرتهم الجنسية للمرأة واستخدامها كسلعة وأن الاهتمام بالمرأة الغربية ينحصر في مراحل شبابها ونضارتها وحيوتها بينما تعيش العزلة باقي حياتها، مبرهنة أن الاستبداد الذكوري واحد في الشرق والغرب، وأن حالة الاستبداد التي يٌوصم بها الغرب الشرق ما هى إلا وجهان لعملة واحدة.

فاطمة المرنيسي كانت ومازالت دعوة للبحث عن الحقيقة فى مناطق مظلمة في التراث العربي الإسلامي وفرض اسئلة جريئة حول ما لا يجب البوح به وما يناقش بخفوت خلف الأبواب المغلقة تناقشه هي في العلن بدون خوف من السائد والمألوف، فاطمة المرنيسي كانت ومازالت دعوة للتفكير.

كتبت، على سبيل المثل لا الحصر، ضد كذب المحَدثين وتأويلات الفقهاء في(«الحريم السياسي): (النبي والنساء) (1987)، وكتبت عن( الجنس كهندسة اجتماعية) (1987)، وكتبت ضد النسيان المنظم في (سلطانات منسيات: النساء رئيسات الدول في الإسلام) (1990)، وكتبت لتشرح أسباب الخوف من الحرية في (الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية) (1992) وكتبت لتبين ذكورية الغرب وتأطير النساء الغربيات فى«هل أنتم محصنون ضد الحريم» (1998) و(أحلام النساء الحريم) ، يعكس ويعبر عن حياة وسيرة الكاتبة الذاتية منذ بداية طفولتها وإدراكها والذي ينعكس ايضا على حياة كثير من العائلات المغربية فى تلك الفترة.

فاطمة المرنيسي كتبت بالعربية والفرنسية وأغلب كتبها ترجمت للغات عدة.

في بدايات وعيي النسوي، لم أكن قد تعرفت بعد على فاطمة المرنيسي، كنت فقط محبة للكتب وبالصدفة كنت أبحث يومًا عن كتاب قصصي مترجم اسمه “أخوات شهرزاد” وبالصدفة وجدت كتابها (شهرزاد ترحل إلى الغرب)، لم أكن أعلم ما كانت تناقشه فاطمة فى الكتاب، لكن انتابني الفضول تجاهه فقرأته، وكنت مأخوذة بطريقة كتابتها وطرح أفكارها المرتبة الجريئة المنظمة، كل صفحة في الكتاب تخاطب أسئلة خافتة تكمن ساكنة داخل عقولنا ونفوسنا ولا يتبادر إلى ذهننا التفكير فيها بسبب عاديتها المطلقة التي اعتدنا عليها وأصبحت من المسلمات غير المبررة وغير المنطقية، وبين السطور تطرح أسئلة مخفية لا تجرؤ عقولنا أحيانًا على التفكير فيها بصوت مرتفع.

يومها تركت لتفكيرى العنان لطرح أسئلة واقتراح فرضيات مغايرة للاقوالب الاجتماعية  التى نحن كنساء يحشرنا فيها المجتمع، عندما قرأت شهرزاد ترحل الى الغرب.

تعرفت على مصطلح الحريم أو أحاريم من خلال نشأتها داخل أحد الأحاريم في عائلتها، وأحاريم جمع لكلمة “الحريم” وهي اشتقاق لكلمة حرام، أي محرم وممنوع فعله، وهي أيضًا دلالة عن مكان يوجده الزوج لزوجاته من النساء والحريم كي يقبعن به، ولكافة العائلة بشكل عام، ولا يُسمَح مطلقًا لغريب بالدخول إليه، ولا يُسمح للنساء أيضًا بالخروج منه، يُقابله مصطلح “الحرملك” المعروف، وهو حقيقةً عبارة عن بيت العائلة الكبير، الذي تقيم فيه العائلة العربية بشكل عام ، وهذا البيت، لا يسمح للحريم بالخروج منه، إلا في الحالات القصوى جدًا، ويسمح لهن بالخروج إلى سطحه العلوي فقط، أي السطوح.

من خلال كتابتها أعطتنى رؤى متعددة عن ما مُنح للمرأة وما أخُذ منها في الشرق العربى وعن ذكورية الغرب ضد نسائه، وتعرفت على جراتها غير المسبوقة في نقد النصوص القرآنية والأحاديث وإخراج الدليل منها والبرهان لمساندة قضية المرأة، وهاجمت المحدثين والفقهاء وما فسروه وأولوه من القرآن والسنة لتقييد المرأة وتأطيرها داخل قوالب جامدة، وأنها شيء يجب أن يُخبأ أو يبقى تحت السيطرة طوال الوقت أو قوالب تسليعها لخدمة الرجل وخدمة شهواته.

ما أذهلني بخصوص كتابات المرنيسي أنها هاجمت بقوة، ولم تخف من مهاجمة شريعة تم تشكيلها لتناسب أهواء رجال الفقهاء التابعين للحاكم أو أهوائهم الشخصية أو أهواء ذكوريتهم والتعنصر ضد المرأة  أو أحاديث نبوية أوردت بالبحث والدليل مدى ضعفها.

من أهم القضايا الإشكالية التي طرحتها أستاذة علم الاجتماع «الحجاب كظاهرة دينية» وضرورة تحرر المرأة العربية من عقبة تقف في طريق تقدمها وتحرمها من المساهمة في بناء مجتمع سليم معافى، مجتمع مبني على عدم التفريق بين الذكر والأنثى يؤمن بتكافؤ الفرص، الحجاب حسب مفهومها ليس السبيل لستر العورة بل لستر الحياة والحرية فقط، واضعة هذا النوع من التشريعات في قفص الإتهام بحجة تناقضها مع مبدأ الحرية التي طرحها الإسلام في رسالته، كما نادت بتحرر المرأة وحقها في حرية السفر والتنقل.

المرنيسي لم تحاول مهاجمة الإسلام ولم تحاول إتهامه بل نجحت في سبر أغوار الدين الإسلامي لتؤكد دفاع الإسلام عن المرأة وتنفي المفاهيم البائدة التي اتخذت من الأديان غطاءً لإخضاع المرأة وفق أفكار وقوالب مثل “الحجاب، ضلع أعوج، القوامة، الحرمة، التأثيم، نقصان العقل والدين، الحرملك، عورة” وأفكار كثيرة ناقشتها المرنيسي وهاجمتها بالدلائل.

وهاجمت فاطمة المرنيسي في كتاب (ما وراء الحجاب) الأنظمة السياسية والديمقراطيات المشوّهة التي أنتجتها تلك الأنواع من السلطة؛ واعتبرت هذه النظم مسؤولة عن تدهور النظم الاجتماعية والاقتصادية وزج المرأة في المجتمع كسلعة أو جارية مجردة من أي سلطات، خاضعة في الوقت ذاته لسلطة الذكر سواء داخل نطاق الأسرة أو خارجها والتي أنتجت بشكل طبيعي هوية ممسوخة للمرأة العربية وأظهرتها ككائن جنسي محتقر.

فاطمة المرنيسي كانت من الأوائل المساندات للقضية النسوية بالفكر والقلم وبمناقشة الأفكار التساؤلات عن القرآن والشريعة، التي تؤرقنا جميعا كنساء، التي يبدو البعض منها غير مفهوم  أو غير منطقي ظاهريًا، وكانت من أوائل من تحدوا العادات والتقاليد والأفكار السائدة في الشرق العربي.

فاطمة المرنيسي دافعت وساندت بقوة المرأة العربية التي اعتبرها المجتمع عورة وناقصة ومبتورة، ومع ذلك فهي مثيرة للشبق، يجب أن تُخبَأ ولا تظهر للعين.

فاطمة المرنيسي أيقونة حية حتى الآن، للبحث عن الحقائق والاكتشاف، هي رمز اللا حدود في الفكر وإعادة النظر في المألوف والمُسلم به.