«درية شفيـــق».. امرأة أدركت أهمية «الصحافة النسائية» مبكرًا.. و«الديكتاتورية» قتلت نضالها
قائدة تنويرية ومناضلة على طول الخط، لم تهب المجتمع ولم ترهبها السلطة السياسية. واحدة من الذين حفظت لهم ذاكرة الوطن مشاهد لا يمكن محوها مهما غالبتها أمواج الزمن، وكلما حل شهر مارس أو أُجري استحقاق انتخابي، لابد أن تعاودنا صورتها في الاعتصام النسائي الشهير، الذي تزعمته داخل نقابة الصحافيين في مارس من العام 1953، اعتراضًا على تغييب النساء عن اللجنة المنوط بها صياغة دستور 1954، وإصرارًا على تضمين حقوق النساء في المشاركة السياسية في ذلك الدستور.
«أنا أرفض الخضوع لدستور لم أشترك في صياغته، وإني أقوم بهذا الإضراب في نقابة الصحافيين لأن الصحافة بطبيعتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكل حركات التحرير»
أذعنت السلطة اَنذاك لمطلبها الذي دعمته نساء أخريات شاركنها الاعتصام، وبعث الرئيس الراحل “محمد نجيب” برسالة إليها، عن طريق محافظ القاهرة، الذي توجه إليها داخل النقابة وسلمها إياها، وتضمنت تأكيدًا من “نجيب” بأن الدستور سيضمن للمرأة حق الترشح والتصويت، لكنها اَبت أن تفض الاعتصام دون أن يوقع لها المحافظ إقرارًا كتابيًا، يؤكد أنه مندوب من الرئاسة وأن الورقة مرسلة من الرئيس شخصيًا، فاستجاب الرسول إليها وفعل ما طلبت.
منذ ذلك الحين، أضحت “درية شفيق” في أدبيات التاريخ صاحبة الفضل الكبير – بما لا ينتقص من دور وكفاح أخريات منذ العشرينيات – في الحصول على حق المرأة في الترشح والتصويت.
مطالب لم تتحقق حتى يومنا هذا
مشهد اَخر يسبق ذلك بسنتين، ويعد من أهم المشاهد في تاريخ حركة تحرير المرأة والتاريخ السياسي المصري، تصدرته ببسالة وشجاعة لم تكن معهودة وقتذاك، عندما قادت مظاهرة تضم ما يصل إلى 1500 سيدة، في فبراير من العام 1951، وتوجهن إلى البرلمان واقتحمن بواباته، وتمكنت يومها من مقابلة نائب رئيس البرلمان، الذي مكنها من الاتصال هاتفيًا برئيس البرلمان “على زكي العرابي”، لتحصل منه على وعد بالنظر فى مطالب النساء المقدمة إليه، وتضمت؛ التمثيل السياسي للمرأة فى البرلمان والحكومة، وتعديل قانون الأحوال الشخصية بما يضع قيودًا على تعدد الزوجات والطلاق، ويقر المساواة في الأجر.
في صباح اليوم التالي توجهت ومعها “سيزا نبراوي” – إحدى رائدات الحركة النسوية، ترأست تحرير النسخة الفرنسية من مجلة المصرية التي كانت تصدرها هدى شعراوي – وعدد من السيدات، إلى قصر عايدين وتقدمت بصورة من المطالب المقدمة إلى البرلمان، ثم قدمت نسخة أخرى من العريضة إلى رئيس الحكومة، لكن مصيرها في الجهات الثلاث كان الأدراج، ولم يُنظَر في كل ما جرى سوى كونه اعتداءً على حرمة البرلمان، واستدعيت “شفيق” للمثول أمام القاضي على خلفية اتهامها بــ”اقتحام البرلمان”.
هذان المشهدان هما الأكثر ذيوعًا وتداولًا عن “درية شفيق”، لكن في حياتها التي استمرت لــ67 عامًا، الكثير من المشاهد التي تجبر المطلع على التاريخ عمومًا قبل التاريخ النسائي على تدبر سيرتها ومقاومتها المستمرة لكل أشكال القمع والتهميش والتقييد.
الإدراك المبكر لأهمية الصحافة “النسائية”
في العام 1944، أرسلت “درية شفيق” ورقة عنونتها بــ”المرأة الجديدة” إلى الأميرة شويكار، الزوجة الأولى للملك فؤاد، وجاء في جزء منها «أول الأسئلة التي تُطرَح على النساء المتعلمات هو ما يتعلق بالحفاظ على أنوثتها، ثم دورها في الحياة العامة، وأخيرًا دورها في المجتمع. إن الحركة النسوية بالمعني الحقيقي للكلمة هي التفاهم والتكامل بين الرجل والمرأة وليس التعارك الدائم بين الجنسين.»
وطرحت “شفيق” في هذه الورقة اعتقادها بأن الفهم الصحيح للإسلام سيوقف منع النساء من الحصول على حريتهن، وسيحقق المساواة، وكان اختيارها للأميرة شويكار تحديدًا لما عُرِف عنها من اهتمام وانشغال بالعمل الاجتماعي، وأصبحت هذه الورقة فاتحة علاقة وطيدة بين الاثنتين، جعلت الأميرة توكل لها مهمة رئاسة تحرير مجلة المرأة الجديدة (La Femme Nouvelle)، التي أصدرتها باللغة الفرنسية، بالإضافة إلى عضوية شرفية بالجمعية التي تحمل الاسم نفسه.
بعد فترة اكتشفت “شفيق” أن النشر باللغة الفرنسية، يبقيها بعيدة عن قطاع كبير من بنات وأبناء بلدها، ولذلك قررت أن تصدر مجلة “بنت النيل” باللغة العربية في العام 1945، بشكل مستقل، مستهدفة الوصول إلى نساء الطبقة المتوسطة المتعلمات، ومع ذلك لم تتخل عن رئاسة تحرير “المرأة الجديدة”، وظلت تدير المجلتين، ولديها قناعة أنها تدافع عن حقوق النساء على جبهتين، الأولى الطبقات العليا وغير المصريين من خلال “المرأة الجديدة” والثانية الطبقة المتوسطة من المصريين عن طريق “بنت النيل”.
من تحرير المرأة إلى تحرير الوطن.. طريق وعر
بعد وفاة “هدى شعراوي” في العام 1947، التي كانت “شفيق” تعد نفسها واحدة من تمليذاتها، منذ أن التقتها لأول مرة في العام 1928، اتخذت قرارها بتأسيس اتحاد بنفس اسم مجلتها “بنت النيل”، وتزعم بعض المصادر أنها أسسته ليكون امتدادًا للاتحاد النسائي الذي أسسته “شعراوي” في مارس من العام 1923، وقد لفتت “شفيق” في كتابها “المرأة المصرية.. من الفراعنة إلى اليوم” إلى أن تأليف اتحاد «بنت النيل»، قد راودتها فكرته في العام 1948، بعد أن فاض بها الكيل من الأوضاع الظالمة التي تعيشها النساء المصريات، معتبرةً أن الاتحاد الذي أسسته كان بمثابة القيادة الجديدة للحركة النسائية.
ظل اتحاد “بنت النيل” منذ تأسيسه في العام المذكور وحتى مطلع الخمسينيات يركز على قضية “تحرير المرأة”، حتى دخلت “شفيق” المعترك السياسي، وبدأت تتبنى خطابًا أكثر إيمانًا بالديمقراطية، والحرية، والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وفي يناير من العام 1951، قادت مظاهرة نسائية لعضوات الاتحاد، حاصرت بنك باركليز البريطاني في القاهرة، يطالبن بمقاطعته، ووثقت الصور اعتداء القوات الأمنية على المتظاهرات بعنف ووحشية. وفي العام نفسه، شكلت ما يشبه فرقة عسكرية من النساء للمقاومة ضد وحدات الجيش البريطاني في قناة السويس، ترتكز على التدريب على القتال والتمريض.
خلف قضبان الصمت: الخلاف مع النظام الناصري
كانت “درية شفيق” من أكثر من دعموا حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952، التي تحولت لاحقًا إلى “ثورة يوليو”، ورأت فيها بارقة أمل خاصة مع الإصلاحات التي أعقبت الحركة، وكتبت تشيد بالرئيس الراحل “محمد نجيب” وزملائه “لقد مضى بضعة أشهر فقط وبدأت الإصلاحات الاجتماعية في التبلور، مصر انتقلت إلى صفحة من أجمل صفحات التاريخ، حيث الشعب وقائده المحرر محمد نجيب، قد تعلم قطع الصلة بالماضي، والعمل بيد مطلقة لأجل مصر الغد.”
وظنًا منها بأن الحرية قادمة مع نسائم الثورة، حولت إتحاد “بنت النيل” إلى حزب سياسي بالاسم نفسه، لكن بمرور الوقت اكتشفت أن اَمالها لا تعدو كونها أحلامًا وردية، بينما الواقع مختلف تمامًا، فيه الصحافة لا تعرف حرية، والسياسة ليست للجميع.
وخلال الحقبة الناصرية تحديدًا، واجهت تضييقًا على كل نشاطاتها، ووضِعَت “شفيق” في خانة المعارضة، التي كانت تُقابل بشتى أنواع القمع.
كان العام 1957 نقطة تحول كبيرة في علاقتها بالنظام، خاصة بعد أن دخلت في إضراب عن الطعام للمرة الثانية في حياتها بعد إضراب نقابة الصحافيين، ولكن هذه المرة، كانت وحيدة في مقر إقامة السفير الهندي، محتجةً على التعدي على حقوق الإنسان على صعيدين، الأول بشأن الديكتاتورية التي تقود مصر إلى الإفلاس والفوضى على حد تعبيرها، والثاني ما يخص الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته، لكن شيئًا لم يتغير رغم استمرارها في الإضراب لأكثر من 11 يومًا، وبعد إنهائها له، فوجئت بالرد السريع من قبل السلطة، ووضعها تحت الإقامة الجبرية، وتعرض كل من ساندها بمجرد رأي إلى الترهيب.
الاستهداف وصل إلى وقف إصدار مجلة “بنت النيل” في يونيو من العام 1957، بعد صدور أمر عسكري بالإيقاف برقم 25 فى 29 يونيو 1957، ومع ذلك لم تستسلم ورفعت دعوى أمام مجلس الدولة، إلا أن الدعوى لم تلق قبولًا، والحجة المستند إليها نشر مقالات تؤدي إلى بلبلة الأفكار.
الوضع تحت الإقامة الجبرية قتل نشاطها العام، وقضى على مسيرتها الصحافية، وزج بها إلى العزلة الكاحلة لمدة 18 سنةً، خلالها نظمت الكثير من الشعر وترجمت القراَن إلى الإنجليزية والفرنسية.
رحلت بنت النيل بعد الخروج “الظاهري” من العزلة بفترة قصيرة، وهناك من يقول إنه انتحار واَخرون يزعمون أنه قتل عمد، وفي الحالتين فمن قاد إلى الرحيل واحد.