«كوكب حفني ناصف».. صاحبة الدخول الأول إلى ساحة «الطب» ففتحت الباب على مصراعيه أمام المصريات
لا يدري كثيرون أن للرائدة النسوية القديرة “ملك حفني ناصف”، شقيقة تركت اسمها مضيئًا في تاريخ النساء المصريات، مقتديةً بباحثة البادية في مثابرتها وصلابتها، وتميزها.
“كوكب حفني ناصف” امرأة أفنت حياتها في خدمة مجتمعها من خلال الطب، ولم تقدم مجرد خدمة، وإنما حاربت حتى تتصدر مشهد احتكره الرجال، فأضحت اسمًا بين أول مجموعة من طبيبات مصريات، لتفتح الباب أمام أجيالًا بعدها، وقد قدمت لهن خدمة ملموسة بعد أن حملت على كاهلها متاعب حرب الدخول الأول، وأزالت عنهن هذا العبء.
الشقيقة الصغرى لــ”ملك حفني ناصف”
بينما كانت “ملك حفني ناصف” تمضي بخطوات ثابتة نحو إكمال العقد الثاني من العمر في عام 1905، استقبلت أسرتها مولدة جديدة اختاروا أن تُسمَى بــ”كوكب” لتكون الأصغر بين 7 أشقاء.
تمتعت “كوكب” بحظ وفير في ظل أسرة الأب فيها شاعر ومعلم وقاضي، ورجل يدرك قيمة التعليم، فكان من بين مؤسسي الجامعة المصرية (تأسست في 1908)، وكان حريصًا أن تحصل ابنته الكبرى “ملك” على التعليم في وقت يمكن وصفه بعصر الظلام بالنسبة للفتيات، فأصبحت أول فتاة تحصل على الشهادة الابتدائية في 1905، ثم أحاط الصغيرة “كوكب” بذات الدعم حتى تتعلم لتصبح فيما بعد واحدة من أول فتيات مصريات درسن الطب.
ألحقها والدها بالمدرسة منذ الصبى، إلا أنها فُصِلَت من مدرسة السنية في عام 1919، بعد مشاركتها وعدد من زميلاتها في مظاهرات الثورة وقتذاك ضد الاحتلال الإنجليزي، واعتبرته “كوكب” من أسوأ سنوات العمر، إلا أنها لم تستسلم لا هي ولا أسرتها التي دعمت موقفها من المشاركة في المظاهرات، بل أنهم وتحديدًا أخويها جلال الدين ومجد الدين، هم من حرضوا داخلها الوطنية، وبثوا فيها بغض وكراهية الاحتلال.
واصلت “كوكب” تعليمها المدرسي في مدرسة الحلمية، حتى حصلت على منحة دراسية في لندن لدراسة الطب، وكانت من بين 5 مصريات فقط نلن هذه الفرصة في عام 1922، وأبرزهن “هيلانة سيداروس”.
“حفني ناصف” السند والدعم
هو نموذج لأب مستنير متحرر من الذكورية التي قيدت كثير من الرجال في ذلك الزمان، ودفعتهم إلى حرمان بناتهن من أبسط حقوقهن المتمثلة في التعليم، بينما اَمن هو بهذا الحق، وحرص على أن تحصل بناته عليه تمامًا مثل الصبية.
“حفني ناصف” شغل عدة مناصب قضائية، وعمل بوزارة المعارف (التعليم)، إلى جانب ذلك عُرف شاعرًا حسن القول وطيب الكلمة، ورثى الإمام محمد عبده والشاعر الكبير حافظ إبراهيم، ومما كتب، هذه الكلمات التي سطرها بعد إحالته للتقاعد:
برزت فى سحر البيا ن وشاب فيه مفرقى
فقضيت عمرى والبلا غة سابقا لم ألحق
فات الكثير من الحيا ة وقل منها ما بقى
أحزنته وفاة ابنته “ملك” شابةً في عام 1918، وأصيب باكتئاب شديد حتى قضى نحبه في العام التالي لرحيلها.
أول جراحة مصرية وأول امرأة تنال عضوية نقابة «الأطباء»
تعلمت “ناصف” الجراحة على يد الدكتور نجيب محفوظ، وكان لديه ثقة كبيرة في قدرتها وتفوقها، ولطالما منحها الفرص، وعهد إليها عمليات جراحية لإثبات تفردها.
عملت الطبيبة الناشئة في مستشفى كيتشنر الإنجليزية (شبرا العام حاليًا)، واستمرت بالعمل فيها على أمل أن ترى هذه المستشفى مصرية، وحتى بعد إعلان بريطانيا دخول الحرب العالمية الثانية، واستقالة عدد من العاملين والعاملات بها، تمكست بالبقاء ومازالت على عهدها مع حلمها، وبالفعل تحولت فيما بعد إلى مستشفى جامعي مصرية، ثم خضعت لإشراف وزارة الصحة في عام1964.
بعد تفوق أثبتته وتفانٍ في عملها، أضحت ” كوكب حفني ناصف” أول مصرية تتقلد منصب “حكيمباشي” بعد أن كان قاصرًا على الإنجليزيات، ثم أول امرأة تنضم لعضوية نقابة الأطباء.
لم يكن الطب مجرد مهنة، لكنه الحياة بالنسبة لها، فقدمت كل ما بوسعها، لتمكن النساء من العمل فيه، ومن بين أهم إنجازاتها تأسيس أول مدرسة للتمريض في مصر.
استمرت “ناصف” في ممارسة الطب لأكثر من 30 سنةً، ونالت من الدولة تقديرًا لمجهوداتها خلال مسيرتها، إذ منحها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، جائزة الدولة التقديرية في العلوم والفنون.
في كنف المجتمع الأبوي.. لا حياة وردية
فضلًا عن معاناة مع مجتمع ذكوري، ينظر للمرأة باعتبارها دخيلة عليه في المجال العام، خاصة في وقت لم يكن عمل المرأة مُستساغًا، جعلت السلطة الأبوية في الدولة العمل قهرًا وتحت التوجيه في بعض الأحيان، مثلما حدث في 1938، عندما طلب الملك عبد العزيز اَل سعود من علي إبراهيم باشا أول عميد لطب قصر العيني، ترشيح طبيبة لمعالجة النساء في عائلته، فرشحها الأخير.
رفضت “ناصف” السفر والقيام بهذه المهمة، فكان الرد هو التهديد بالملاحقة والتضييق، مما جعلها ترضخ وتسافر على غير رضاها، وتقضي سنةً كاملةً في السعودية.
الطب هو ما صنعني ومن علمنى
فى عام 1965 تقاعدت “ناصف”، وفضلت البقاء وسط أسرتها حتى توفيت في عام 1999، ومع الرحيل بقي الإنجاز والسيرة، عاشت حتى بعد وفاتها، وتحققت أمنيتها التي تمنتها عندما قالت “أتمنى أن يتذكرنى الناس كطبيبة، الطب هو ما صنعني ومن علمني.”