“الإسلام لا يفرق بين الرجل والمرأة من حيث الذات والإحساس والشعور والعقل، فيمكن بالتالي وبناءً عليه أن تتحقق المساواة الكاملة بين الجنسين.” هذا المبدأ اعتمده وأكد عليه مرارًا الإمام محمد عبده الذي يعد اَخر المجددين في الفقه الإسلامي، هذا الرجل الذي وقف في وجه عادة تعدد الزوجات وطالب بإبطالها، وكان من بين قليلين تبنوا دعوة النسويات الأوائل بمنع وقوع الطلاق إلا أمام القاضي، إنه القادم من محافظة البحيرة، تلك المدينة التاريخية التي لم تنجب حتى الاَن مجددًا مثله، بل بات لا يولد على أرضها من المؤمنين بحقوق المرأة سوى أقل القليل، بينما تعج الأرض بهؤلاء المعادين لها والمنتهكين لحقوقها.

المساواة التي اَمن ونادى بها الإمام محمد عبده الذي شغل منصب مفتي الديار المصرية في عام 1899م، غير مطروحة للنقاش في البحيرة في الوقت الراهن، فالنساء هناك يعانين أقسى معاناة، والمعاملة الاَدمية حلم صعب المنال، فالتعليم مبتور، والطفولة مقتولة بسيف الزواج، والعمل كثير من مهنه محظورة، والأمان معدوم في ظل التحرش المنتشر في كل مكان، في المدرسة وفي الشارع، وأينما وطأت أقدامهن.

بين هؤلاء النسوةً، قليلات تحدين القائم والمفروض، وقررنا الوقوف في وجه السلطة الأبوية، وقد اقتدين بالمتمردة الأبرز في التاريخ النسوي “درية شفــيق”، فأسسن مجموعة حملت نفس اسم الاتحاد النسائي الذي أسسته.

«الأستاذ الجامعي قسم الطالبات إلى منتقبات “عفيفات” وسافرات ومتبرجات»

“بنت النيل” مجموعة نسوية تأسست قبل 4 سنوات في محافظة البحيرة، على يد الناشطة الشابة “أسماء دعبيس“، ويشاركها في تجربتها 7 فتيات أخريات وشابين، تتنوع نشاطاتهم ما بين التوعية، والرصد والتوثيق، وتقديم الدعم والمشورة.

بنت النيلهناك إناث في قرى البحيرة لا يعلمون بوجود كيان اسمه المجلس القومي للمرأة، بل والأدهى لا يعلمون بوجود نساء يعملن على مناهضة العنف والتمييز ضد النساء.” هكذا تقول “دعبيس” مؤكدة أن الوضع في محافظتها كان يستدعي تأسيس كيان نسوي يساعد ويدعم الفتيات والنساء البحرويات في ظل واقع مأساوي يسوده الطابع الذكوري.

وعن تأسيس “بنت النيل”، تستشهد الناشطة الشابة بعدد من المواقف التي لا يمكن أن توصف سوى بــ”الانتهاكات” المتلاحقة دفعتها لاتخاذ هذا القرار، وأولها التهميش السياسي الذي عانته أثناء مشاركتها في مظاهرات ثورة الـ25 من يناير التي شهدتها مدينتها، بالإضافة إلى التحرش بها وبزميلاتها خلال مشاركتهن، وتدخل الذكور حينذاك في تحديد مظهرهن وأسلوبهن في التعبير.

“أيضًا في الجامعة” تتذكر “دعبيس” أول انتهاك مباشر تعرضت له عند إلتحاقها بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات فرع دمنهور وتقول “في بداية السنة الدراسية، فوجئت بأستاذ جامعي، بمجرد دخوله إلى قاعة المحاضرات، سارع بتقسيم الطالبات في المدرج إلى منتقبات “عفيفات” في اليمين، والسافرات وهن المخمرات كاشفات الوجوه في الوسط، وعلى اليسار المتبرجات وهن من يرتدين الحجاب ولكن بطابع عصري ومواكب للموضة نوعًا ما، وعلى الرغم من أنني اعترضت وقتذاك على أسلوبه العنصري وتصنيفه لنا، إلا أن ذلك لم يغير شيئًا.”

وتضيف “خلال السنة الدراسية الأولى بالجامعة، فوجئت بفتاة ختناها أبواها في هذا العمر، وصُدِمت حين وجدت طالبات متزوجات في هذه السن المبكرة، ومنهن من يأتين الجامعة بصحبة أبنائهن، والجميع يعانين من مختلف أشكال العنف، وقتها أدركت ضرورة أن يكون هناك من يلجأن إليه وللاَسف بعد بحثي لم أجد في المحافظة من يقم بذلك، فقررت أن أتحمل المسؤولية وأقدم الدعم والمساعدة والتوعية للفتيات والنساء في البحيرة، وتوصلت مع شقيقتي وبعض صديقاتي إلى فكرة تأسيس مجموعة نسوية تحمل اسم “بنت النيل” تكريمًا للرائدة “دريـة شفــيق”، وبدأنا بظاهرة التحرش الجنسي ونظمنا أول فعالياتنا التوعوية عنها باعتبارها واحدة من اثنتين من أكثر ظواهر العنف انتشارًا في محافظة البحيرة.”

«تحرش المعلمين بالطالبات شائع وذوي الاحتياجات الخاصة لم يسملوا من مرضى السعار الجنسي»

على عكس ما يثار أحيانًا بشأن التحرش الجنسي خارج القاهرة، وأن حوادثه هناك ليست ببشاعة وفداحة تلك التي تقع في العاصمة، تكشف “دعبيس” أن التحرش منتشر بشكل سافر في محافظة البحيرة، بالمراكز والمدن على حد سواء على حد قولها.

“أسماء دعبس” أثناء حملة لــ “بنت النيل”

“ينتشر التحرش اللفظي بأقذع الألفاظ الخادشة للحياء، ولا يغيب التحرش الجسدي عن المشهد كما يدعي البعض، ففي الشارع قد نجد ذكر على دراجة بخارية، يلاحق فتاة ليجذب الطرحة من على رأسها، أو ليتحسس صدرها، أو حتى ليضربها على مؤخرتها.” تقول “دعبس”.

وتشير مؤسسة مجموعة “بنت النيل” في البحيرة، إلى بروز التحرش الجنسي داخل المدارس، وتكشف أن مركزًا للدروس الخصوصية في مدينتها قد أغُلِق مؤخرًا بعد أن اتضح أن المركز يضم معلمًا اعتاد أن يتحرش بالفتيات ويصورهن ليمارس ابتزازه الجنسي بحقهن”

وتستطرد “هناك معلمون معروفون بكونهم متحرشين وللاَسف المشكلة الأكبر من ذلك أن الأكثرية من الفتيات يخجلن أن يفصحن عن هذا الانتهاك، والأغلب الأعم من الأسر إن سمعوا عن اتهام معلم بالتحرش، يوجهون اللوم للفتيات وليس المتحرش نفسه.

الطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة يتعرض للاستغلال وخاصة الجنسي أكثر من أي طفل اَخر، لأن هؤلاء الأطفال لايملكون قوة الدفاع عن النفس، وربما لا يدركون فكرة الاعتداء أصلًا.

وهذا ما أكدته “أسماء دعبيس”، عندما كشفت لنا أن وقائع الاعتداء الجنسي بحق هذه الفئة تتكرر على يد معلمين في مدارسهم، لافتةً إلى واقعة بعينها تدخلت فيها مجموعة “بنت النيل” بالمساندة القانونية من خلال أحد أعضائها من المحامين، لكن المفاجئ كان قبول أهل الطفل المُغتصَب بالتصالح مع المعلم المُغتصِب بعد انعقاد جلسة عرفية تقرر على إثرها تعويض الأسرة بمئة ألف جنيهًا، على الرغم من أن المجموعة قد نجحت في استخراج تقرير الطب الشرعي الذي يفيد بتعرض الطفل للاغتصاب.

«زواج القاصرات في البحيرة يناظر الصعيد لطبيعة السكان “العرباوية” والمصادقة أبرز سبل التحايل لتوثيق الزواج»

بحسب “أسماء دعبيس” مؤسسة مجموعة “بنت النيل” فإن “زواج القاصرات” هو ثاني مظهر من مظاهر العنف ضد المرأة شيوعًا في محافظة البحيرة وخاصة في قراها والمناطق الشعبية بالمدن.

وتوضح أن الوضع بالنسبة للفتيات الصغيرات في البحيرة لا يقل بؤسًا عن نظيره في محافظات الصعيد، وذلك لأن طبيعة السكان هناك ينتمون لقبائل عرباوية مما يجعل تزويجهن مبكرًا لا يقتصر على الأسر الفقيرة فحسب، بل حتى الأثرياء، لأنه «عُرف » وعادة أكثر منه حاجة.

وتردفت “دعبيس قائلة ” يكشف بحث أجريناه عن زواج القاصرات في ثلاثة مراكز بمحافظة البحيرة، عن تفشي مفجع للمشكلة، إلى جانب انتشارها أيضًا في الأحياء الشعبية والفقيرة بالعاصمة دمنهور، وخاصة في مناطق أبو عبد الله وصلاح الدين، حيث تزوج أغلب الفتيات قبل إتمام الــ15.

الزواج المبكر يقتل معه الطفولة بكل حقوقها، وعلى رأسها التعليم، وأزمة التسرب من التعليم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بظاهرة زواج القاصرات، وتشدد “أسماء دعبس” على الارتباط الوثيق بين المشكلتين، مشيرةً إلى أن أغلب المتزوجات مبكرًا يتسربن من التعليم بعد المرحلة الابتدائية، ويتم الزواج عبر مجلس عرفي وباتفاق شفهي، مقابل توقيع شيكات وكتابة قائمة للعروس.

“الزواج على هذا النحو لا يضمن للفتاة أي حقوق، وخاصة في حال توفي الزوج قبل إتمامها السن القانونية وتوثيق الزواج.” تقول “دعبيس”

وتضيف “أثناء أعمال البحث والدراسة التي أجريناها بشأن زواج القاصرات، استوقفتنا حالة فتاة توفي زوجها قبل أن تتم الـ18، وكان الزوج قد نسب الأطفال في شهادات الميلاد لأبيه، فلم ترثه بعد الوفاة، وأضحى أهله يمارسون تسلطهم وتحكمهم في مصيرها بقوة نسب الأطفال لهم وليس لها.”

تكشف مؤسسة “بنت النيل”، أن توثيق الزواج بعد إتمام الفتاة السن القانونية، يتم عبر استصدار مصادقة زوجية لدى المأذون وهذا الشكل من التوثيق يتخلله مرابحة خاصة للمأذون الذي يتقاضى ما بين 5000 إلى 10000 جنيهًا في هذا الإجراء.

«التوعية بالطرق المبتكرة الحل في مواجهة التحرش ومحاكمة رمزية قضيتها زواج القاصرات تصدر نهاية العام الجاري»

أما عن الأنشطة التي تقوم بها المجموعة النسوية الشابة لمواجهة الظاهرتين المتفشيتين في المحافظة، فتعددها “أسماء دعبيس”، وأولها الجانب التوعوي فيما يتعلق بظاهرة التحرش الجنسي، وتستهدف المجموعة الشباب والشابات من سن 18 عامًا، وتقدم تدريبات دفاع عن النفس للفتيات إلى جانب توفير الدعم القانوني والنفسي للناجيات، بالإضافة إلى توعية الأطفال بشأن التحرش الجنسي من خلال أغاني وأفلام كرتون تقدم لهم رسائل مبسطة عن ماهية التحرش وكيفية التعامل معه وتطبيقها عبر ألعاب مبتكرة،  ذلك بالتوازي مع مخاطبة الأسر بشأن الخطوات التي يتعين عليهم اتباعها ما إن اكتشفوا تعرض طفلهم أو طفلتهم للتحرش.

14409895_1098084246942589_7139356399045679458_oوعن مواجهة زواج القاصرات تتحدث “دعبيس” قائلة “قدمنا ثلاث ورش توعوية في مدينة دمنهور، ومركز الدلنجات ومركز أبو المطامير، وهي أكثر الأماكن التي تنتشر فيها الظاهرة، ثم نظمنا حملة طرق أبواب، استهدفنا من خلالها الاَباء والأمهات بحكم مسؤوليتهم الكبرى عن جريمة التزويج المبكر.”

وتواصل “عملنا على الرصد والتوثيق في هذا الصدد، في 3 مراكز وهي أبو المطامير والدلنجات وإدكو، وأسفر هذا النشاط عن كتاب يرتكز في مضمونه على تصور محاكمة رمزية تنظر في قضية “زواج القاصرات” عمومًا، ويتكون من 3 أجزاء، الأول هو بحث كمي عن نسبة زواج القاصرات في هذه المراكز، والجزء الثاني يضم شهادات المتزوجات قبل السن القانونية أمام هيئة المحكمة، والجزء الثالث يضم مرافعات تخيلية من محامين بالإضافة إلى مرافعات لهيئة محلفين، وينتهي بتوصيات، سيتم الإعلان عنها في مؤتمر صحافي من المزمع عقده بالبحيرة في نهاية العام أو مع بداية العام المقبل على أقصى تقدير.”

تقدم المجموعة نشاطًا اَخرًا يتعلق بالتثقيف النسوي، يستهدف الفتيات على وجه الخصوص، ويقدم لهن معلومات عن النسوية وحقوق النساء، ويوفر لهن مساحة اَمنة للنقاش بشأن قضايا المرأة، كل من منظورها وتجربتها.

«فتيات يرفعن شعار “دعونا نعمل في صمت” و”درية شفيق” القدوة والحلم»

من يتصفح صفحة مجموعة “بنت النيل” على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك يجدها تفتقد للحيوية والنشاط، وهو ما يعطي انطباعًا يخالف حقيقة الوضع على أرض الواقع الذي يتسم بالهمة، لكن “أسماء” تبرر ذلك بالرغبة في أن تعمل المجموعة بهدوء وبعيدًا عن الصخب والتعقب والاستهداف من أي فرد أو جهة.

6397_393834887367532_941728900_nكما ذكرنا سلفًا أن المجموعة اختارت اسم بنت النيل تيمنًا بالاتحاد النسائي الذي أسسته درية شفيق، لكن التقدير والعرفان للرائدة النسوية، لم يتوقف عند ذلك، فالمجموعة تعمل حاليًا على مشروع قررن أن يحمل اسمها، وله شقين، أولهما إطلاق دليل لتوعية الفتيات في المرحلة الابتدائية من التعليم، بخطورة الزواج المبكر، يشتمل على رسوم كرتونية وقصص مصورة، وتشير “دعبيس” إلى أن اختيار الفتيات في هذه المرحلة، يعود لكونهن الأكثر عرضة للتزويج المبكر.

الشق الاَخر من المشروع، هو تمكين من تزوجن قاصرات على الصعيد المادي، من خلال تعليمهن الحرف البسيطة مثل؛ صناعة الإكسسورات والمشغولات اليديوية ورسم الحنة، ثم مساعدتهن في التسويق لأشغالهن، وأخيرًا تنظيم معرض ختامي لعرض منتجاتهن.