هو المسلسل الأكثر ثراءً في تفاصيله، والأرفع بين سلسلة كبيرة من الأعمال الدرامية المذاعة خلال شهر رمضان الجاري.

“أفراح القبة” هو معالجة درامية لنص روائي للأديب الكبير “نجيب محفوظ” يحمل الاسم نفسه،  والعمل التلفزيوني للمخرج المتميز “محمد ياسين” الذي يجيد الإمساك بتلابيب القصة أولها واَخرها، ليخرج من بين يديه إبداعًا يستقطب المشاهدين، ويخلق حالة ترابط بينهم وبينه.

يقدم فريق العمل مسلسلًا استثنائيًا هذا العام، يغوص في أعماق الماضي، ويفتش في خطاياه، سواء كان ذلك الماضي للأشخاص الواردة في الرواية، أو الماضي السياسي والاجتماعي لمصر بعد نكسة 1967 والذي أوصلنا لما نحن عليه الاَن.

الماضي في”أفراح القبة”، يحاول أصحابه إخفاءه، ومواراته الثرى، يتناسونه قاصدين حتى لا يوقعهم فريسة بين براثنه، وينهش مستقبلهم.

النكسة لم تكن فقط حربية وإنما أخلاقية واجتماعية

القمع الاجتماعي والسياسي يسوق إلى الهاوية

الرجال يستغلون أجساد النساء بقوة السلطة والمال

لا رجل يسامح في ماضي امرأة

أبواب الماضي عصية على الإغلاق

هذه العناوين يمكن استخلاصها من القراءة الأولى للمسلسل،  الذي تدور أغلب أحداثه داخل مسرح “سرحان الهلالي”، حيث تبدأ وتنتهى قصص أفراده، حتى تجتمع تلك القصص بخيوطها المترامية على أوراق كتبها “عباس كرم يونس” ملقن الفرقة لتصبح مسرحيته الأولى.

toot_a6f4128fbb“عباس” واحد من الشخصيات المحورية، وهو أصغر الشخصيات سنًا، ومع ذلك هو الأكثر إطلاعًا على أسرار وماضي جميع الشخصيات، من خلال أحداث حفرت بذاكرته، في وقت كان يظنه الكبار لا يعي ولا يدرك، ومن خلال أوراق مفقودة نثرت فيها بعض الشخصيات أسرارها المخفية، قرأ بعض سطورها خلسة؛ ومن خلال همساتهم التي سمعها مرة عن قصد وكثير دونه.

كل هذا شكل وجدانه وأعلمه بحقيقة الواقع المحيط به، وشب فأصبح محركًا للأحداث مثلهم، حتى جاءت اللحظة التي قرر فيها ترجمة كل ما عاشه وعايشه إلى نص مسرحي وكأنها مواجهة النفوس بما تتهرب منه.

وعلى الرغم من أن المعالجة الدرامية أضافت شخصيات عديدة للرواية، إلا أنها زادت النص الأصلي بريقًا ولم تفسده، فشخصية “تحية عبده” التي نعرفه حبيبة طارق وزوجة عباس، لم تكن في الرواية الأصلية شخصية محورية، ولم تكن أسرتها مذكورة، لكن المخرج محمد ياسين والمؤلف محمد أمين راضي (الذي لم يكمل مشوار كتابة المسلسل) والسناريست نشوى زايد (التي أكملت مهمة راضي)، اختاروا محورة شخصية “تحية” وخلق أسرة لها، لتشكل جانبًا مهمًا في تفسير المشاعر والسلوكيات التي تصدر عنها، وأيضًا لتكشف لنا وجهًا قبيحًا للواقع الاجتماعي قبيل نكسة 1967 وخلال سبعينات القرن الماضي.

الشخصيات النسائية:

يقدم المسلسل عددًا من الشخصيات النسائية جميعهن مغمور بالمشاعر، والأفكار، لم تكن بينهن أي شخصية سطحية، لكن المشترك بينهم الاستسلام، والخضوع، والمعاناة مع أبوية هذا المجتمع.

تحية عبده

“تحية” تنتمي لأسرة فقيرة، أم تدعى “بدرية” وشقيقتان هما “سنية” و”عالية”، و”تحية” هي الوسطى بينهن، تحب التمثيل منذ الصغر، تجد فيها ملاذًا للتلون بعيدًا عن شخصيتها التي تعاني مَرارًا منذ الطفولة، مع أسرة مشتتة، أب تركهن مبكرًا، وأم قضت شوطًا بالمشفى بسببه، بينما هن الصغيرات يلملمن بقايا الشارع ليعشن.

mosalsalتحاول “تحية” ألا تسلك مسلك أختها الكبرى “سنية” التي قدمت جسدها ثمنًا للعيش بعد تفرق الأسرة، وحتى تطعم أختيها الصغيرتين وتضمن لهما واقعًا أفضل من ذلك الذي كُتِب عليها، تتجه “تحية” إلى مسرح الهلالي اَملة في أن يتحقق حلمها وتصبح ممثلةً.

في المسرح، تتبدل خططها، وتلتقي “طارق رمضان” الممثل بالفرقة وهو في الوقت نفسه الأخ غير الشقيق لصاحب المسرح ومنتج أعماله “سرحان” من الأم فقط، تتطور علاقتها به وتبلغ درجة الحب الذي يدخل حيز العلاقة الجسدية، وهي تظن في ذلك تحرر من استغلال الأم وهروب من مصير موحش، لكن الأمور لم تمض كما تمنت، وهزمت “أنانية” طارق الحب بينهما، وهي الحالة التي تنقل لـ”تحية” شعور بأنها مجرد سلعة امتاع بالنسبة له، فترفع الحظر عن جسدها الذي سلمته له وحده، وتمنح “سرحان” حق فيه مقابل الحصول على دور بطولة في إحدى المسرحيات، تتوالى الأحداث، وتتزوج من “عباس” الذي يصغرها بسنوات،  والذي بدا يحبها بالفعل ولم ينظر للفارق العمري بينهما، بينما بالنسبة لها هو بداية جديدة لحياة غير التي عاشتها مع من “طارق”، الذي كما كان حبيبًا كان جلادًا.

ظنت “تحية” أنها تلقي ماضيها وراء ظهرها مع “عباس”، لكنه مثل كثير من الرجال لم ينس ماضيها.

بدرية (الأم)

dd4fb2e94aظاهريًا هي امرأة تعاني حروقًا تخفيها تحت سروال طويل وطرحة لا ترفَعها عن رأسها أو تحرر رقبتها منها، وضمنيًا هي امرأة سليطة اللسان، انتهازية، على استعداد لبيع أجساد بناتها من أجل المال، والدافع في ذلك الفقر المدقع، تبدو متجردة من الأمومة مع بناتها خاصة الكبرى “سنية” التي تجبرها على المتاجرة بجسدها، وتتحصل منها على ما تتكسبه، وتقبل بتزويجها لقواد في مقابل تقاسم ما تجنيه.

يبقى السبب وراء قسوتها تلك، غير مكتمل الوضوح، لكن وراءه رجل، وهو الأب “عبده”، الذي أدى بها إلى ما وصلت إليه، وتركها وترك بناتها دون غطاء معنوي أو مادي، ولم يتضح حتى الحلقة الــ15 لماذا فعل ذلك.

“بدرية” شخصية معقدة، تُظهِر الكثير من التناقضات، ومازال في الحلقات المقبلة ما سيكشف السبب وراء هذا التعقيد والتناقض.

سنية عبده

20160612_143801_5272الشقيقة الكبرى بين بنات “بدرية”، وهي الأكثر تضحيةً من أجلهن والأسوأ حظًا بينهن، قدمت جسدها ثمنًا لإطعام أختيها الصغيرتين وهي في مقتبل مراهقتها، وظلت تتعامل معه كوسيلة لكسب الرزق، حتى تعيش أسرتها المبتورة، وتكمل أختيها تعليمهما، ولا تفقدان ما فقدته، تحت إشراف أمها “بدرية”.

لا تملك قرارها، تستغلها  الأم وتستغل جسدها، تأخذ منها المال الذي تحصده من عرض جسدها للاهثين وراء المتعة، تتطلع للعمل بالملاهي الليلية معتقدةً أن ذلك ارتقاء بوضعها.

تهرب “سنية” من الواقع المرير لما هو أمر، وتتزوج من قواد يدعى”أشرف شمندي” في صفقة أبرمت بينه وبين أمها، للاستفادة مما ستجنيه من العمل بالملهى الليلي.

تظل “سنية” في نظر أسرتها كالبقرة التي يجب أن تحلب لاَخر قطرة لبن فيها، حتى لو ستقضي بعدها، وتصر أسرتها بما فيهم الزوج بوعز من شقيقتها “تحية” على أن تضحي بالحمل الكائن في أحشائها على الرغم من حلمها الكبير في أن يكون لها ابن وأن تصبح أمًا.

عالية عبده

f017549149هي الوحيدة بين بنات “بدرية” التي لم تتكشف ملامحها بدرجة كبيرة حتى الاَن. الأصغر بين الشقيقات الثلاث، والأنجح على مستوى التعليم، وتمكنت من دخول الساحة الصحافية، لكنها استخدمت جسدها وسيلة لتختصر طريقًا وعرًا، إلى جانب العمل كمخبرة مع رئيس تحرير فاسد من هؤلاء الذين كانوا يعملون لصالح السلطة، وإلى جانب التورط في علاقة عمل مشبوهة، نشأت علاقة مشبوهة لم تكتنفها أي مشاعر حب، بينها وبين رئيس التحرير المدعو “فؤاد”، ومع ذلك أجبرته على الزواج بها بعد خطة ماكرة من “بدرية”.

حميدة

“حميدة الكبش” موظفة شباك التذاكر بالمسرح، دخلت هذا المكان بعد أن رشحها “أحمد برجل”عامل البوفيه لصاحب المسرح ومنتج كافة عروضه “سرحان الهلالي”، لتبدأ رحلتها مع أشباه الرجال، الأول الذي ظن أنه قادر على اختلاس اللذة الجسدية منها، بماله وجاهه.

58780_Crop“سرحان الهلالي” هو الرجل الذي يتعامل مع النساء باعتبارهن وسائل إمتاع، جميعهن جواري، يعملن بالمكان نظير تحقيق غايته في الاستمتاع، وهو بسلطته وماله لا يعارضه أحد، ولا يحتج لفعله أحد، حتى قرائن هؤلاء النسوة، مثل طارق وكرم، فهو ولي النعمة والأمر، وهو المعادل الموضوعي للنظام السياسي وقتذاك.

شبه الرجل الثاني الذي دخل حياة “حليمة” وظنته “ملاكًا” على حد وصفها، وهو الذي عرض عليها الزواج فقبلت، ووثقت فيه فحكت له ما جرى، فوعدها بالنسيان، وما نسى، وهو الصراع الداخلي الكامن داخل أي رجل شرقي، يبيح لنفسه خطايا الماضي وعلى المرأة دون طلب التغاضي عنها، بينما الماضي في حياة المرأة ذنب سيظل ينوء بها كاهلها حتى اَخر العمر، وسيظل الرجل يعايرها به إلى اَخر المدى.

أما عن العنف ضد المرأة فقد عرض المسلسل صورًا عديدة له، من أبرزها؛ استغلال الرجال لأجساد النساء بقوة السلطة والمال، والتورط في الدعارة بسبب الفقر المدقع، الكيل بالمكيالين في التعامل مع ماضي الرجل والمرأة، وتسليع النساء في سياق قمع مجتمعي سائد في ظل نظام سياسي “فاسد”.