رنيم العفيفي تكتب: «سيدة المنيا» قصة في سلسلة عنوانها «أجساد النساء قربان للذكورية والطائفية والفاشية»
قبل أيام قليلة، وتحديدًا يوم الجمعة الموافق 20 مايو الجاري، تعدى عدد من الأشخاص بإحدى قرى مركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا، على عدد من المنازل بالقرية واقتحموا أحدها، ليعتدوا على من فيه، فتسقط بين أيديهم سيدة في الـ70 من عمرها، لم يكتفوا بالتعدي اللفظي عليها، بل أبرحوها ضربًا، ثم أخرجوها عنوة من بيتها، سحلوها أمام المارة، وجردوها من ملابسها، وسط تكبيرات وتهليل، يحيطه صمت المتفرجين.
لم يخلص السيدة العجوز من قبضة الغوغاء سوى سيارة اختبأت خلفها، حتى أقدمت امرأة شهدت الواقعة على إخفائها داخل منزلها.
“راحوا مسكوني جروني في الشارع وبقوا يضربوا فيا وقلعوني الهدوم بتاعتى .. خلوني زى أمي ما ولدتني عروني خالص”
السبب وراء هذه الواقعة الشنعاء، في ظاهره طائفي، تعود جذوره إلى انتشار شائعات عن وجود علاقة عاطفية تجمع بين ابن السيدة السبعينية، وهو مسيحي الديانة، بسيدة مسلمة متزوجة، أدعى زوجها وجود هذه العلاقة بعد أن طلبت منه الطلاق.
وهي قصة ليست أولى من نوعها في الصعيد، ورد الفعل العنيف والهوجائي ليس جديدًا، ولكن تعرية أجساد النساء أمر لم نسمع عنه من قبل في أية حوادث من هذا النوع.
تمسكت العجوز بالسكوت، لعدة أيام، حتى غلبها الشعور بالقهر، وقررت الإفصاح عما جرى تفصيلًا أملًا في استعادة حقها.
ومن بين التفاصيل التي روتها السيدة سواء للأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا أو للوسائط الإعلامية، أنها ذهبت إلى الشرطة تستنجد بهم قبيل حدوث الواقعة، وأبلغتهم بوجود تهديدات لمسيحي قرية الكرم، بالاعتداء وحرق بيوتهم لكن البلاغ لم يُنظَر فيه.
إلى جانب الطائفية، تضافرت عوامل أخرى طويلة العمر، متجذرة في الثقافة المصرية منذ زمن، لتدفع ثمنه امرأتين وليس امرأة واحدة، الأولى بجسدها والثانية بسُمعتها.
الأزمة ترتكز على عدد من الأركان، التي يتضح رسوخها في العقلية المصرية، من خلال القراءة التاريخية لعدد من حوادث الناجمة عن علاقات عاطفية بين طرفين من ديانتين مختلفتين ووقائع تعرية أجساد النساء على الملـء.
وتتمثل هذه الأركان في الطائفية بالقطع، والذكورية بالأساس، والفاشية التي تحكم لمنذ اَلاف السنوات.
الطائفية
البعد الطائفي قائم في هذه القضية وسلسلة طويلة من القضايا التي كانت بطلتها نساء تحولن إلى ديانة أخرى أو نشأت علاقات بينهن وبين رجال من ديانات أخرى.
ففي أعقاب ثورة يناير 2011، هدم متطرفون كنيسة وأحرقوا بيوت أسر مسيحية في مدينة صول بمركز أطفيح إثر تواتر أحاديث عن وجود علاقة عاطفية بين رجل مسيحي وامرأة مسلمة.
في العام نفسه، نشبت مشاجرات في مدينة المنشأة بمحافظة سوهاج بين مسلمين ومسيحيين، بسبب الحديث عن علاقة عاطفية بين شاب مسلم وفتاة مسيحية.
في عام 2013، وقعت ثلاث حوادث مشابهة في محافظات متفرقة؛ بني سويف والفيوم والمنيا، وكلها تتمحور حول فتيات مسلمات الديانة تجمعهن علاقات عاطفية بشباب ينتمون إلى الديانة المسيحية.
إلى جانب العلاقات العاطفية، مسألة التحول من دين إلى اَخر، كانت النساء أيضًا نقطة ارتكازها، ففي السنوات الأخيرة، كانت أسماء مثل “كاميليا شحاتة” و”وفاء قسطنطين” عناوين عريضة في أزمات طائفية تمسك كل طرف فيها بانتماء هؤلاء النسوة إلى ديانته، لتسلب النساء حرية القرار والاختيار، في مقابل ندرة نشوب أزمة ما إن مارس رجل حقه الطبيعي في اختيار ديانته.
الفاشية
حينما تحكم الفاشية الدول، تغيب الحقوق الإنسانية للأفراد، ولا يزيد الشخص في نظر من يحكمه عن مجرد رقم مسلسل في الكشوف أو اسم في أوراق ثبوتية، لا يؤثر كثيرًا في سياسية الحاكم، لكن صوته الناشز مزعج ومشاكله تؤرق، وإسكاته دائمًا هو الحل.
الإسكات سبله كثيرة، لكن طالما كانت الفاشية تعانق الذكورية، فالحلقة الأضعف هي الأوسع والأعمق تأثيرًا وهي المرأة في نظرهم، ولذلك تلجأ السلطة إلى استهداف النساء وأجسادهن تحديدًا، التي لا يرى أصحاب الفكر الذكوري معادلًا للنساء سواها.
ويظهر ذلك بوضوح في وقائع الأربعاء الأسود الشهيرة، في 25 مايو 2005، عندما أقدم عدد من رجال الحزب الوطني (الحزب الحاكم في عهد مبارك) على الاعتداء على النساء المشاركات في الاحتجاج الرمزي المناهض للاستفتاء على التعديلات الدستورية على المادة 76 من دستور 1970 والمعروفة بمادة التوريث، مارس النظام عبر زبانيته التحرش بالنساء، وبلغ الأمر تعرية إحداهن وتجريدها من ملابسها على سلم نقابة الصحافيين، خلال التظاهرة التي نظمتها حركة كفاية يومها.
الحادثة وثقتها بعض الصور ولكن الفضيحة لم تهتز لها مصر ولا العالم، كما اهتزوا عندما ارتكبت الشرطة العسكرية نفس الانتهاك بحق إحدى المتظاهرات بميدان التحرير خلال ما عرف ما باسم “أحداث مجلس الوزراء”في ديسمبر 2011، إذ اعتدت القوات حينذاك على النساء علنًا وانهالوا عليهن ضربًا بالعصي والبيادات، حتى تعرت إحداهن وتجردت من عبائتها تمامًا، وهي من عرفت إعلاميًا بــ”ست البنات”.
طاف العالم صور ترصد لحظات الاعتداء ومقطع مصور وثق المشهد المخزي، ولم يكن غريبًا على السلطة التي تتمسك بالحديث دومًا عن أعراض النساء المختزلة في أجسادهن وتقديسها لها، أن تمرر الحادثة كانفعال غير متعمد وحالة فردية، فمن يرى في جسد الأنثى شرف رفيع لابد أن ينتهكه ليكسر شوكة من يمس عرشه.
الذكورية
أزمة “الشرف” الذي يراه الرجل في جسد المرأة فقط، يتولد عنها جرائم لا حصر لها، عنوانها العريض “جرائم الشرف”، وفي فرعياته جرائم طائفية، وقبلية.
غالبًا ما ينتفض الرجل إذ سمع – مجرد السمع- بوجود علاقة لإحدى نساء الأسرة، أو إذ تمردت المرأة على قانون العائلة، وعندها يوجه سهامه إليها، فيما ينعدم حدوث ذلك مع رجل مثله.
وتجدر الإشارة إلى أن دراسات المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية في 2006، أوضحت أن 70% من جرائم الشرف في مصر وقعت بناءً على وشايات وهمسات جيران وأصدقاء، أو شائعات بشأن سلوك المجني عليهن.
الرجل الذي لا يحركه سوى ما يعتبره “شرف” الأنثى المنتمية لأسرته، لا يتحرك دفاعًا عنها بقدر ما يتحرك دفاعًا عن نفسه أمام مجتمع سينتزع منه صفة الذكورة، ولا يثأر لها وإنما لشخصه، لذلك قد يعتدي على أنثى أخرى ويا حبذا لو كانت تنتمي لأقلية دينية تتملكه النزعة الفوقية تجاهها، فهذا يضاعف الشعور بالنصر والانتصار، وخاصة لأنه على يقين بأنه يعيش في مجتمع مهما بلغت الضغوط عليه، فالعقاب لن يعدو مجرد جلسة عرفية.