في بلد يرفض السينما ويعادي الأفلام، استطاعت إحدى بناته أن تصور فيلمًا روائيًا طويلًا بالكامل داخله ولكن سرًا. لم يكن عاديًا بل كاشفًا لإحدى أعمق الأزمات التي تعانيها فتيات اليمن وهي “الزواج المبكر”.

المخرجة اليمنية “خديجة السلامي” أقدمت على تحدي شديد الصعوبة، رمت من خلاله إلى تقديم سينما من قلب اليمن لأول مرة، وفي الوقت نفسه إلى فضح التعامل شديد الدناوة الذي تلاقيه الإناث وسط مجتمع رعوي، يرى النساء مجرد أجساد يحق انتهاكها واغتصابها، ضربها.

تكتمت “السلامي” على قصة فيلمها المقتبسة من سيرة ذاتية تحمل نفس الاسم، وصورت أغلب مشاهده دون تراخيص، وحتى تدخل المحكمة وتتمكن من التصوير في بوحها، أدعت أنها تنفذ فيلمًا عن فتاة تريد الطلاق، ولم تشر إلى قصة ” نچود” أو ” نچوم” التي تعد أصغر مطلقة في العالم.

بطلة القصة الأصلية تدعى “نجود” لكن المخرجة اختارت تغيير الاسم إلى “نجوم”، وغرضها تغيير المعني والمغزى، إذ أن والد الطفلة اختار اسم “نجود” لما يحمله من معانى تتعلق بالسكينة والخفية، بينما “نجوم” يوحي بالانطلاق والحرية والسمو، وهو ما أرادت”خديجة السلامي”  الترسيخ له من خلال شخصية “نجوم”.

الإناث لسن أكثر من مجرد أجساد “مباحة”

32971_stills_1000_400_still_72443ساعة ونصف هي مدة الفيلم المنتج في عام 2014، تنقل خلالها “السلامي” صورة واقعية للمجتمع الرعوي اليمني، حيث بدائية الحياة، وتتفوق الرغبات الحسية على التطلعات المعنوية، فيظهر والد نجوم “أحمد” رجل مزواج، يؤمن بأحقيته في تعدد الزوجات، يطوق زوجاته وبناته كبقية أهل القرية، بغطاء رأس وطوق أبيض يظنه ضامنًا للعفة.

وفي مجتمع كهذا لا يرى النساء سوى أوعية لإفراغ الشهوات، سرعان ما يستغل أحد أبناء القرية غياب الأب عن بنتيه، ويغتصب أكبرهما “نجلا” وماتزال مراهقة.

“نجلا” شأنها شأن أي أنثى في هذا المجتمع لا رأي لها، و”الشرف” أهم من اَلمها، وبكل بساطة يستسلم الأب لطمس اَثار جريمة الاغتصاب بتزويج الفتاة من مغتصبها، بعد اتفاق عرفي بينه وبين والد المغتصب.

الزواج بالكلمة وأسماء البنات بالقول .. لا شيء يثبت وجودهن، ولا وريقات تضمن حقوقهن.

دائرة مفرغة ..العنف فيها مستمر بصور مختلفة والنساء مجني عليهن دائمًا

مثلما ضاع حق “نجلا” رغمًا عنها، وقذف والدها حقها بلا ثمن تحت أقدام من اغتصبها، دفعت “نجوم” ثمن ما حدث لأختها دون إرادتها، فزوجها والدها في العاشرة من عمرها، قبل أن تحيض، وقبل أن تعي أن الزواج ليس مجرد «فستان أبيض» وفرحة ورقص على أنغام مبهجة.

thumbnail_2_86fe09a8_v3خوف الأب من تكرار ما حدث مع “نجلا”، وخشيته الفضيحة ومعايرة الناس له كما جرى، دفعه إلى الهروب من القرية والانتقال إلى العاصمة صنعاء،  وهناك زوج الصغيرة “نجوم” ظنًا منه أنه يدرأ المفاسد.

ولأن “نجوم” وأخواتها ولدوا وعاشوا بلا شهادات ميلاد ولا أي ورقة تثبت هويتهن، عُقِدَ زواجها عرفيًا بلا توثيق، ليكون عقدة جديدة في سلسلة من الانتهاكات المستمرة لحقوق الإناث.

طمس ملامح الطفولة يبدأ بمساحيق تجميل وينتهي باغتصاب زوجي

hqdefaultلم تبد “نجوم” رافضة للزواج لأنها لم تفهمه بعد، كل ما ترسخ لديها عن الزواج، هو مشهد العروس التي ترتدي فستانًا أبيضًا، وسط نسوة مبتهجات يتراقصن ويغنين.

لم تُظهِر الأم أو الأخوة أي شعور بالذنب تجاه الصغيرة، وتشاركت الأم وأختها “نجلا” في إعدادها للعرس، بغمر وجهها بمساحيق أخفت ملامحها البريئة، وتصفيف شعرها على نحو يضيف لعمرها الحقيقي سنوات عديدة.

ومع ذلك، باءت بالفشل كل محاولات الأسرة «الشكلية» لدمج الفتاة في حالة العرس والزواج، وبمجرد أن جاءتها صديقتها، ذهبت معها لتلعبا في الساحة القريبة من المنزل، واغتنمت الفرصة لبيع الخاتم الذي ألبسوها إياه زينةً لها كعروس، لتشتري بثمنه دمية.

تمسكت “نجوم” بالدمية كاَخر ما يربطها بطفولتها التي تُسلَب منها، وظلت تعانقها حتى بعد نقلها إلى بيت زوجها، حتى انقض عليها بكل وحشية لتنفصل عن دميتها ويتمزق كلاهما.

نساء يعضدن الانتهاك ضدهن والحجة “هذا قدرنا”

في لحظات بكاء “نجوم” بعد أن اقتادها والدها عنوة ليقدمها إلى الزوج، وكأنها قطعة اشتراها لابد أن يتسلمها على الفور، لم تكف الأم عن المضي قدمًا باتجاه إقناع الفتاة بطبيعية التنازل عن طفولتها، والحجة “يا بنتي هذا قدرنا .. وكلنا لازم نتزوج”، وحتى عندما تعود “نجوم” إلى أسرتها تستنجد بهم، تطالبها أمها بتقبل العيش، والتعامل مع انتهاكات من فُرِض عليها زوج كونها حقوق أصيلة له.

حالة التعايش مع انتهاك الطفلات جنسيًا وجسديًا، وتدميرهن نفسيًا، ظهرت بمزيد من الغلظة مع والدة الزوج، التي لا تجد غضاضة في زواج رجل ثلاثيني بطفلة لم تكمل العقد الأول من العمر، وينتابها اشمئزاز تجاه كل اعتراض أو محاولة تمرد من قبل الطفلة.

i-am-nojoom-age-10-and-divorcedيكشف الفيلم عن أن تعايش النساء مع العنف ضدهن سمة عامة، من خلال أغلب الشخصيات النسائية وليس الأم والحماة فقط، فزوجات الأب اللواتي جمعهن تحت سقف بيت واحد يتقبلن الوضع حتى لو كان يزعجهن، وعندما ضاقت به السبل دفعهن للشحاذة في الشوارع فانصعن للأمر، و أيضًا الأخت تقبلت بسكينة الزواج بمغتصبها، كل هؤلاء بينهن “نجوم” وحدها التي تمردت على ذلك الواقع المهادن للعنف وقررت الخروج من شرنقته واللجوء إلى القضاء مباشرةً للمطالبة بحقها في الخلاص من هذا المصير.

ويبقى الأمل حيًا

تمكنت “نجوم” من تغيير الحياة التي فرضوها عليها، باسم العادات، والعرف والخوف، وحصلت على حكم قضائي بطلاقها.

وبعد أن بتروا طفولتها، عادت تلملمها، متطلعة أن تعوض كل ما عانته سابقًا، فلم تعد تتشح بالسوداء وانصرفت عن ارتداء العباءة المهلهلة، طوقت نفسها بالألوان، وأطلقت شعرها ليتنفس الهواء بعد سنوات من دفنه تحت الغطاء، التحقت أخيرًا بالمدرسة لتبدأ رحلة بعنوان مختلف غير القمع والانتهاك والقهر.

نجوم بنت العاشرة

تفاصيل

  • أوضح الفيلم أن التغيير ممكن داخل المجتمع اليمني، فقد كشف أن  الفتيات في اليمن لا يقعن في نفس قالب المعاناة خاصة في العاصمة “صنعاء” بنات يستطعن الخروج للعب والالتحاق بالمدارس. (الفيلم منتج في عام 2014)
  • أظهر الفيلم من خلال مشهد المحاكمة أن القبلية في اليمن أقوى من القضاء وكلمتها هي العليا، وتجلى ذلك بوضوح عندما قال شيخ القبيلة – التي ينتمي إليها الزوج – إلى القاضي بكل تجرأ “بأي حق تتعدى على أحد أفراد قبيلتي وتحبسه؟!” ثم حسمه القضية لصالح “نجوم” بعد أن أمر الزوج بتطليقها داخل المحكمة، فاستجاب الأخير خاضعًا للأمر، منكس الرأس.
  • ظهرت في الفيلم الطفلة “نداء الأهدل” وهي فتاة يمنية ذاعت قصتها بعد أن سجلت مقطعًا بثته على موقع يوتيوب روت فيه قصتها وفرارها من أهلها بعد أن قرروا تزويجها قسرًا وهي في 11 من عمرها، لكن  المخرجة “خديجة السلامي” لم تخترها في دور يجسد معاناتها، ولكن أبرزتها كصديقة “نجوم” التي تحررها من طوق الخصر وقيد الرعوية، وتقودها إلى حيث الطفولة بالألوان وليس طفولة الرداء الأسود.
  •  بقياس الفيلم في ظل ظروفه فهو على مستوى جيد، لكن بقياسه كفيلم بصورة عامة، فربما بدا مباشرًا وتوجيهيًا وخاصة في المشاهد المصورة داخل المحكمة، وحتى في الأغنية التي جاءت بنهاية الفيلم بعنوان “لا للزواج المبكر”.

عروض مستمرة بالخارج .. وعرض وحيد بالداخل

“خديجة السلامي” تتسلم جائزة أفضل فيلم روائي – مهرجان دبي 2014

يعرض حاليًا فيلم “أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة” في السويد بـ12 دار عرض سينمائي في 8 مدن سويدية، وقد سبق عرضه في عدد من المهرجانات الدولية أبرزها مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته عام 2014، وحاز حينذاك بجائزة أفضل فيلم روائي طويل (المهر الطويل)، كما عُرِض بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الــ37 عام 2015 ضمن أفلام المسابقة الدولية، بالإضافة إلى مشاركته في مهرجان وهران للفيلم العربي بالجزائر العام الماضي، وإلى جانب ذلك عُرِض الفيلم بالأمم المتحدة في مارس الماضي، على هامشالدورة الــ60 للجنة وضع المرأة.

فيما لم يعرض الفيلم باليمن سوى مرة واحدة وعلى نطاق ضيق، إذ عرضته إحدى منظمات المجتمع المدني في مارس الماضي بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وكان العرض بدون علم المخرجة التي لا تستطيع دخول اليمن وعرض الفيلم فيها بسبب الحرب القائمة هناك.