وسط أجواء معبأة بالضباب، لا تعيق الرؤية فحسب وإنما تضيق التنفس بغبارها، يعاني كل باحث عن حق، من إساءة، وتشويه، وتعقب، فقط لأنه ارتبط عملًا أو نشاطًا أو حتى إيمانًا بــكلمة “حقوق” سواء كانت حقوق الإنسان أو حقوق المرأة، أو  حقوق العمال، أو حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، كل هذا لابد أن يلحق باسمك تهم من عينة العمالة والخيانة.

هذه الأجواء التي يلعب قطاع واسع من الإعلام مرئيًا ومطبوعًا ومسموعًا، دورًا كبيرًا في تأجيج صراعاتها، باتت مخيفة وقد تكون معطلة لكثيرين من الناشطين والمهتمين بهذه المجالات، خاصة من الشباب الذي اتجه إلى هذه المجالات بعد ما أن أودعت ثورة 25 يناير داخله رغبة في حماية المواطنين، والدفاع عن حقوق الأفراد طالما كانت “غير متحققة”.

لم يكن الإعلام وحده المتسبب فيما اَلت إليه الأمور، وإنما تضافرت عوامل وعناصر مختلفة، لتخلق هذه الحالة، ومن بين أبرز العوامل، ما أثير عن التمويل الأجنبي الذي تتلقاه عدد من منظمات المجتمع المدني، وتستغله في أغراض تعادي مصالح الوطن، وتحرض ضده بحسب ما يُروَج له.

وفي هذا السياق تحديدًا، نعود إلى العام 2011، في شهر يوليو عندما أمر مجلس الوزراء وزير العدل بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق للنظر في التمويل الأجنبي الذي تحصل عليه منظمات المجتمع المدني، وتحديد ما إذا كانت تلك المنظمات مسجلة بموجب القانون المصري، وقد أُدرِجَ التقرير في سبتمبر 2011 كجزء من الأدلة المقدمة من النيابة بحق المنظمات في القضية رقم 173 والتي عرفت إعلاميًا بــ”قضية التمويل الأجنبي للمنظمات”

وفي يونيو 2013، حكمت إحدى محاكم الجنايات بالقاهرة على 43 من العاملين المصريين والأجانب في بعض المنظمات الأجنبية بالسجن لمدد تتراوح بين سنة و5 سنوات، وكانت معظم الأحكام غيابية، أما العاملين المصريين الذين ظلوا داخل البلاد فقد حصلوا على أحكام بالسجن لمدة عام واحد مع وقف التنفيذ.

قبل أسابيع قليلة، عادت القضية للواجهة مرةً أخرى، وفُتِحَت مجددًا بعد ورود معلومات جديدة بحسب ما أعلنت الجهات الرسمية.

وأُضِيفَ للمنظمات الواردة في القضية، عدد اَخر، وفوجئ عاملات وعاملون بهذه الجهات بمنعهم من السفر، واستدعائهم للمثول أمام جهات التحقيق، وسط تضارب أنباء وغياب الوضوح في تداول المعلومات.

من بين أبرز المنظمات التي تم استدعاء أعضائها للتحقيق، “نظرة للدراسات النسوية” التي أثار خبر التحقيق مع أعضائها جدلًا وحراكًا على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة لأنها تأتي في قائمة الأكثر نشاطًا على صعيد العمل الاجتماعي النسوي، وقد قدمت دعمًا بصور مختلفة لكثير من الناشطات الشابات في مجال الدفاع عن حقوق النساء على مستوى الجمهورية.

24425_549177868446374_455960205_n

إعلان التحقيق مع “نظرة”، أثار حفيظة الناشطات والناشطين في المجال الحقوقي النسوي، معتبرين إياه استهداف يرمي إلى التضييق على الحركة النسوية، ومنهم من تضامن بالتدوين باستخدام هاشتاج #متضامن/ة_مع_نظرة، ومنهم من لجأ إلى البيانات الصحافية مثل الذي صدر عن مجموعات؛ جنوبية حرة، وأنثى، ودورك، وبنت النيل، و Femi Hub، وهناك من صاحبوا “مزن حسن” مديرة المنظمة إلى مكان جهة التحقيق.

أيضًا كان مركز النديم واستهدافه مثيرًا للسخط، لما له من باع في دعم وتأهيل الناجين من العنف والتعذيب.

لهذه الملاحقات المتتابعة، أثرها على دوائر مختلفة، الأوسع منها هي الدولة ككل، والأضيق قليلًا المجتمع المدني، والدائرة الأهم هي الشباب وخاصة الناشطات اللواتي فتحت ثورة يناير أمامهن الباب للانخراط في العمل العام، ومحاولة التغيير مجتمعيًا فيما يتعلق بالثقافة الجمعية تجاه النساء.

مدافعتان شابتان، زادتهما الثورة أملًا في التغيير وغمرتهما نشاطًا، هما نهال زغلول وسالي ذهني، تتحدثان عن رؤيتهما لهذه الهجمة ضد المجال الحقوقي بشكل عام وتأثيره عليهما.

نهال زغلول

“نهال زغلول” مدير مؤسسة بصمة الجديدة (حركة بصمة سابقًا) والتي أسستها في أعقاب ثورة يناير 2011، بهدف مواجهة تصاعد الإرهاب الجنسي الممارس ضد النساء سواء في المظاهرات التي اجتاحت مصر خلال السنوات السابقة أو خارج هذا النطاق في حياتنا اليومية، وتعلق “زغلول” على مسألة اتهام المنظمات بتلقي تمويلات من الخارج، قائلة “إنه أمر معروف وموجود في كافة دول العالم ليس حكرًا أو أمرًا مستحدثاً بمصر، فالمنظمات قد تحصل على تمويل من الدولة التابعة لها أو من أي منظمات دولية.”

وتضيف “في مصر من المفترض أن تمول وزارة التضامن الاجتماعي منظمات المجتمع المدني، إلا إن مايحدث أن الكيان يتقدم بطلب للحصول على الدعم، فيجد القائمون عليه أن الأمر يتطلب وقتًا طويلًا وقد يحصلون عليه، ولكن ليس بانتظام، وفي أحيان كثيرة تنتظر المؤسسات لسنوات، ولا تحصل علي أي دعم، وبالتالي يتعرض نشاطها إلى التدهور وربما تصل إلى الإغلاق.”

وتشير “نهال زغلول” إلى أن الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها مصر في الوقت الراهن، ربما لا تسمح بالحصول على الدعم، موضحة أن  الدعم المقدم من جهات خارجية ليس بالضرورة أن يكون أموالًا، وتقول “في أوقات كثيرة ينحصر الدعم على تنظيم ورش عمل أو فرص تدريبية لأعضاء المؤسسة حول المجال المختصصة به.”

وعن الخوف من الاستمرار في العمل بالمجال الحقوقي النسوي، بعد هذه الهجمة، تؤكد “زغلول” أنها لم تفكر  إطلاقًا في العودة عن الطريق الذي اختارته، وتستطرد قائلة “الحل الأمثل هو تكاتف المجتمع المدني والدولة أيضًا، خاصة أن نشاط مؤسسات المجتمع المدني يعود بالنفع عل المجتمع بأكمله.”

وعن تأثير الاَراء السياسية لقيادات منظمات المجتمع المدني على مستقبل مؤسساتهم، تقول “إن امنتاع قيادات وممثلي منظمات المجمتمع المدني عن الإدلاء باَرائهم السياسية لن يحل الأزمة، لأن المجتمع المدني يدخل في صميم عمله، الضغط علي الدولة والإدلاء  بالرأي بشأن ما يدور في المجتمع من قضايا مختلفة سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، من منطلق أنهم متواصلون مع كافة فئات الشعب.”

وتختتم “نهال زغلول” حديثها قائلة “تهميش المجتمع المدني وتحجيمه يضر المجتمع ككل، فهناك عدد من الدول العالم المتقدم يضع المجتمع المدني ضمن أجندته ويستعين بخبراته لحل كافة المشكلات.”

سالي ذهني

أما “سالي ذهني”، الناشطة الحقوقية والمدافعة عن حقوق النساء، وهي أحد أبرز الوجوه الشابة النشطة في هذا المجال، فعلاوة على نشاطها في مجال مكافحة التحرش الجنسي، كانت عضوة بحركة بهية يا مصر، وشاركت في عروض لمشروع بصي الذي يتخذ من الحكي وسيلة لتوثيق معاناة النساء.

تتساءل “ما التهم الموجهة إلى هذه المنظمات؟” مشددةً على أنها وغيرها من المواطنين المصريين لا يعرفون ما التهم، مشيرةً إلى أن تمويل منظمات المجتمع المدني، أمر معروف في العالم بأسره، ويأتي بطرق معلومة وليست سرية وبالتعاون مع دول ومنظمات يعلمها الجميع والدولة شخصيًا لديها تعاملات معها.”

وتتابع “ذهني” “تأثير غلق هذه المنظمات وتحديدًا المهتمة بتأهيل النساء المعنفات كبير، نظرًا لغياب دور مؤسسات مماثلة من قبل الدولة، في ظل عدم امتلاك الدولة لأي إحصائيات بشأن نسب النساء اللواتي يتعرضن للعنف من المجتمع أو الأسرة وخلافه.”

وعن أزمة استهداف النشطاء بسبب اَرائهم السياسية، تشدد “سالي ذهني” على أن الاَراء السياسية ليست تهمة وإذا أدلى شخص باَراء تخالف القانون والدستور، فالطبيعي أن يُعاقب الشخص وليس المؤسسة التابع أو الممثل لها.”