حكايات عنوانها «الوجع».. متعايشات مع الإيدز: المجتمع أقسى علينا من المرض
لماذا نشعر أن الجميع يريد أن يتخلص منا في محرقة كبيرة؟
الممرضة ألقت أوراق علاجي على الأرض خوفًا من أن تلمسني
أن تكوني امرأة مريضة بالإيدز في مصر، فأنتِ تحتاجين إثبات أنك عفيفة وشريفة
أخفيت إصابتي بالإيدز حتى أتمكن من ولادة ابنتي في المستشفى
مجتمع يميل إلى الأفكار البدوية الرجعية في أغلب الأوقات، التي تستهدف النساء بصفة عامة، ويزعم أنه حامي الشرف والأخلاق، وفي الوقت ذاته يعطي لنفسه جميع المبررات، لإباحة التحرش الجنسي والاغتصاب وشتى أشكال الانتهاك النفسي والبدني للنساء. هذا المجتمع المتدين “بطبعـــه” هو الذي ينبذ المتعايشات مع مرض الإيدز (متلازمة نقص المناعة المكتسبة)، ويلاحقهن باتهاماته القاسية، التي يعانين منها، عندما يتوجهن للكشف لدى أي طبيب، أو أثناء صرف روشتة دواء من الصيدلية، أو أمام ميكرفون وسيلة إعلامية، وإذا كان الوصم الاجتماعي هو أبرز ما يلاحق المتعايشين مع الإيدز، فإن النساء يدفعن ثمن ذلك الوصم مضاعفًا في مجتمعنا، ويواجهن يوميًا عشرات الأسئلة المستترة والواضحة، التي تطالبهن بإجابات تثبت براءتهن وعفتهن. لذلك كان من الواجب علينا، أن نخلق مساحة حرة لهؤلاء المناضلات من أجل استمرار الحياة وحتى يحافظن على أسرهن. نتعرف إلى قصصهن وكيف يغالبن الواقع ويتجاوزن التحديات.
“بطلت أحضن ولادي .. كنت خايفة ألمس أو اطبطب عليهم .. كنت بخاف اَكل معاهم ..كانت أصعب لحظات حياتي بعد اكتشافي إصابتي بالإيدز، كأن الحياة توقفت فجأة عن الحركة”
بهذه الكلمات بدأت “مريم” (اسم مستعار) -42 سنة، حكايتها عن الإصابة بالفيروس، بعد لحظات من الصمت عادت خلالها بذاكرتها إلى الوراء لأكثر من 13 سنة، يلمؤها الاَلم والصبر والإيمان، وتتابع “لم اكتشف المرض إلا بعد وفاة زوجي، الذي كان يعمل نقاشًا في إحدى الدول العربية، بغية تحسين ظروف الأسرة المعيشية.”
تصمت قليلًا، ثم تواصل “كان يتعاطى المخدرات، لو كان يعلم إصابته بالفيروس بكل تأكيد، لم يكن ليؤذيني أنا والأولاد”، وتوضح أن زوجها عانى في الفترة الأخيرة من عمره، من إرهاق مستمر وارتفاع في درجة الحرارة وانخفاض حاد في الوزن، وكان الأطباء يعالجونه باعتباره مصابًا بالجفاف، حتى تدهورت حالته في آخر شهرين ومات في مستشفى الصدر.”
تضيف “زوجي مات ولم يعرف بإصابته بالإيدز، واكتشفت الأمر أثناء استخراجي تصريح الدفن، وعندها نصحني أحد الأطباء بإجراء تحاليل لي وللأولاد أيضًا، فأضحى الحزن على وفاة زوجي مضاعفًا، وأصبحت الدموع ممزوجة بالأسى على فراق الزوج، وخوف من فراق آخرين وهم أولادي مروة التي لم تتجاوز التاسعة، وأحمد الذي يبلغ من العمر 11 عامًا.”
تستطرد قائلة “ساعدني في تلك المحنة، الأسرة التي كنت “أعمل” لديها، كانوا متفهمين لحكايتي، بل وحجزوا لي موعدًا لإجراء التحاليل أنا وأولادي، كان الأمر شديد الصعوبة، وتملكني الخوف بعد رفض المعمل تسليمي التحاليل مباشرة، وبعد أن طلبوا مني الذهاب إلى معامل وزارة الصحة المركزية، عندها تأكدت أن أحدًا من ثلاثتنا يحمل المرض، وكم تمنيت أن أكون أنا وليس أولادي!”
جاءت النتيجة مخيبة للآمال، وظهرت نتائج التحاليل، تفيد بأن الأم والابن يحملان المرض، بينما الابنة سليمة، اكتشفت “مريم” أنها تحمل الفيروس منذ أكثر من 11 سنةً (هي عمر ابنها).
تمكنت “مريم” من تجاوز اَلامها بعد جلسات طويلة من الدعم النفسي والمشورة، فضلًا عن دعم أمها وشقيقاتها.
“أن تكوني أمًا مصابة بالإيدز صعب ولكن الأصعب هو أن يكون ابنك يعاني من المرض نفسه” تقول مريم، وتتابع “أخبرت مدرسته بأنه مريض قلب، حتى يكون هناك اهتمام ورعاية في حال أصابه الإعياء فجأة، ليتصلوا بي مباشرة.”
وتؤكد “مريم” أنها لا تجرؤ على إخبار إدارة المدرسة بمرضه الحقيقي، لأن ذلك قد يعرضه للفصل، فضلًا عن العنف والنبذ الذي سيعانيه.
تتحدث “مريم” عن محاولاتها لتوعية الصبي، من خلال نصحها له، بشأن الجروح، وضرورة أن يغسل يديه سريعًا وألا يلمس أصدقاءه، كما تشدد عليه، أن يكون حريصًا حتى لا يتعرض لنزلات برد، مؤكدةً أنه يتعامل بنضج أكبر من سنه مع الأمر، ويخشى على شقيقته ويطلب منها أن تجري لها التحاليل اللازمة، حتى يتأكد من سلامتها.”
تنفجر “مريم” في وصلة بكاء وتتوقف عن الكلام، ثم تعود بعد دقائق، وتقول “لا أبكي من المرض، بل من نظرة الناس للمتعايش مع الإيدز، نحن لا نجد سوى “الاحتقار والقرف”، نرى في عيونهم عشرات الأسئلة التي تجول بخواطرهم، أغلبها تلقي رصاصات الاتهام في قلب السمعة والشرف والأخلاق، إلى جانب سوء المعاملة من بعض أفراد التمريض والأطباء، خاصة في استقبال أي مستشفى”
وتردف قائلة “أتذكر ذات مرة أن حرارتي ارتفعت في مقابل هبوط في ضغطي، وعندما ذهبت إلى إحدى المستشفيات، فوجئت بصراخ الممرضة في زميلها، وهي تقول”خلي بالك عندها إيدز”، لا أفهم ما علاقة قياس الضغط بما فعلته الممرضة.”
وعن أحلام “مريم”، تلخصها في “أتمنى أن يرحمنا الجميع مجتمع وممرضون وأطباء، يكفي ما نعانيه من اَلم، نريد أن نعيش حياة طبيعية، وأن نكون على أجندة اهتمامات الدولة.” وتختتم بتساؤل “لماذا نشعر أن الجميع يريد التخلص منا في محرقة كبيرة؟”
“لم أتخيل بعد سماعي خبر إصابتي أنا وزوجي بالإيدز سوى ذلك المشهد الذي يأتي في الأفلام، حجرة العزل التي تنتظرنا، كانت الصدمة أكبر مما نحتمل خاصة بعد أن اكتشفنا إصابتنا بالفيروس، بسبب الابن بعد تدهور حالته الصحية، وتحولت حياتنا وقتها إلى غرفة عزل معنوية في ظل ظلام قاتم”
هكذا تتذكر “نادية” (اسم مستعار) – 37 سنةً ومتعايشة مع الإيدز منذ 13 سنةً – الأيام الأولى من اكتشاف مرضها.
ترفض “نادية” بإباء وثقة الإفصاح عن أسباب إصابة زوجها بالفيروس “لا أبحث عن الماضي ولم يكن يهمني السبب، الرجل تعرض لحادث خارج مصر، وإصابتنا بالفيروس أصبحت حقيقة وأمر واقع لن يتغير.”
وعن التعامل مع الحياة الجديدة، وملازمة ضيف دائم مخيف ومتوحش، تقول “تحملت أنا وزوجي الأمر بمفردنا، وقررنا ألا نُعلم أحدًا من عائلتنا وأقاربنا، وكان قرارنا واضحًا، وهو أن نعبر هذه الأزمة بهدوء وقوة، خاصة بعد وفاة الابن بعد تدهور حالته الصحية، إلى أن أضاءت السماء ببارقة نور، وهي ابنتي “نهي”، التي ولدت متعافية وسليمة لا تحمل الفيروس.”
لم تكن ولادة “نهي” أمرًا سهلًا، والغرفة المظلمة للعزل التي تخيلتها عقب اكتشاف إصابتها بالمرض، واجهتها بالفعل مع رفض مستشفيات وزارة الصحة استقبالها وإجراء عملية الولادة لها. “استطيع تذكر مدى بشاعة الأطباء عندما طردوني من المستشفى، ورفضوا إجراء عملية الولادة، خوفًا من انتقال العدوى، على الرغم من أن أي جراحة وأي طبيب، المفترض أنه مدرب على اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية اللازمة للحماية من انتقال الفيروسات.”
لم تستسلم “نادية” ولا زوجها عن الدفاع عن حقهما، وقررا التوجه إلى المستشفيات الخاصة ودفع مزيد من المال، ولا مانع من حيلة صغيرة من أجل الولادة، وتحكي “قلت للطبيب أنني مريضة بفيروس سي، وعلى الرغم من أن ذلك الفيروس أخطر مما أحمله، ويستلزم احتياطات أكثر وقائية، يظل ذكر الإيدز مخيفًا ومرعبًا للأطباء والتمريض أكثر من فيروس سي.”
وتواصل “لم تكن لتتم الولادة سوى بتلك الكذبة، ونحن كمرضي غير مذنبين، فالأطباء هم الذين أوصلونا إلى هذه المرحلة، هم الذين دفعوهم لكراهية الحياة.”
من أزمة ولادة ابنتها، انتقلت “نادية” للحديث عن أزمتها النفسية بسبب الوصم الذي يحاصر المتعايشين مع الإيدز بشكل عام، وتؤكد – بناءً على خلفيتها كباحثة ميدانية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المهتمة بقضايا المتعايشين- أن المتعايشة السيدة تعاني من الوصم أكثر من الرجل، وكل التمييز الذي يقع على المرأة – غير المريضة – في ظل مجتمع شرقي ذكوري تعاني منه المتعايشة أضعافًا مضاعفة.
وتستطرد “المرأة تخاف على السمعة وتخشى نظرة المجتمع الدونية، خاصة أن أول إتهام يأتي في أذهان الاَخرين هو أن المريضة تعمل بالدعارة، ومن ثم أصيبت بالمرض، وتظل المتعايشة في صراع دائم مع الاَخرين والأطباء والمجتمع، وكأنه بات وجوبيًا أن تقدم شهادة تثبت أنها عفيفة وشريفة.”
لم تهزم كل هذه المشكلات “نادية” خاصة بعد وفاة الزوج منذ سنتين، لتصبح وحيدة مسؤولة بشكل تام عن أبنائها، ولا تملك معاشًا لتحمل نفقات الأسرة، وتقول “قررت أن استيقظ كل صباح، وأردد أنني شخص عادي متعايش مع المرض، وشخص يريد أن ينجح ويعمل ويقف بجوار أطفاله حتى يصلوا إلى بر الأمان، أنا أجمع بين عملين، الأول كباحثة ميدانية لدعم المتعايشين مع الإيدز والثاني بالخياطة، ويمتد عملي إلى 10 ساعات يوميًا، ولا يشعر الأبناء بمرضي إطلاقًا فهم يجدوني بصحة جيدة ونشاط غير منقطع .”
بهذه الكلمات المليئة بالحماس والإصرار تضيف “هذه هي الصورة التي نرغب أن يسلط الإعلام الضوء عليها، وعليه أن يتوقف عن إظهار مريض الإيدز ضعيفًا هزيلًا.”
وتختتم “مش عايزين حد يطبطب علينا، ولا نريد تعاطفًا من أحد، نحن نريد صورة إيجابية من الإعلام عن المتعايشين، نريد حقوقنا في علاج ومستشفيات تستقبلنا دون نبذ وطرد فقط.”
أجريت التحاليل، تمنيت أن تكون النتيجة سلبية، وأن أكون سليمة غير مصابة به، ولكن النتائج خذلتني وبعد أن كنت أجري تحاليلًا إجرائية قبل سفري للعمل بالخارج، انقلبت حياتي رأسًا على عقب وشعرت بالتيه والفقد “
تصف “هدي” (اسم مستعار) البالغة من العمر 36 سنةً، مشاعرها بعد اكتشاف إصابتها منذ 10 سنوات، وتكشف أن خوفها لم يكن من الصورة الكئيبة عن المرض، التي تُرسخ إلى أن حياة الشخص انتهت وعليه الاستعداد للموت، بل كانت تخشى من قهر المجتمع ونظرته السلبية للأنثى المصابة بالإيدز، وتقول “المتعايشة تعاني أكثر من الرجل، فهي موصومة باتهامات كثيرة، متهمة في عيون الجميع.”
وتضيف”لم يكن خوفي من الموت بقدر خوفي من سجن الناس وأحكامهم القاسية، مرت الشهور والسنين، ومع حضوري للاجتماعات مع المتعايشين، شعرت أنني لست وحدي، وانتظمت على العلاج بشكل جيد، فضلًا عن الدعم الذي وجدته من أسرتي، كان كافيًا لتجاوز المحنة في هدوء وصبر، ثم تزوجت أحد زملائي من المتعايشين، وكنا سندًا حقيقيًا لبعضنا البعض في هذه الحياة، وتجاوزنا مرضنا واَلامنا من أجل استكمال الحياة، حتى اكتشفت حملي.”
تردف قائلة “الحمل كان خبرًا سعيدًا، وبالفعل تابعت جميع مراحل الحمل لحماية الجنين من الإصابة، ولكن عندما جاءت الولادة، تهرب الجميع من إنقاذ حياتي، وذهبت إلى مستشفى خاص، ولم أصرح بأنني مريضة إيدز حتى أنجب ابني”
أزمة أخرى واجهت المولود، وتوضح “هدى” أنه قد ولد سليمًا، ولكن يحتاج بعض الأدوية الوقائية، وكان المتوفر، منتهي الصلاحية، واضطرت أن تعطيه إياها، وتقول “لم يكن أمامي بديل سوى ما يصل ثمنه إلى أربعة اَلاف جنيهًا، ولكن حمدًا لله أنقذه الله وعمره الاَن خمس سنوات.”
عن أصعب المواقف التي تعرضت لها كمتعايشة مع الايدز، تحكي “أتذكر أنه في مستشفى حميات العباسية، كانوا يطلبون من مرضى الإيدز أن “يمسحوا” الحجرات، فضلًا عن نظرات الذل والإهانة التي كانت تملأ عيون الممرضين وبعض الأطباء، وذات مرة في مستشفى حميات إمبابة، قالت لي إحدى الممرضات “مينفعش تمسكي الظرف بأيدك” وكنت وقتها أريد أن أمسك ظرف التحاليل والإشاعات الخاص بزوجي.”
وعن حياتها بعد وفاة الزوج، تكشف “هدى” أنها تنفق على معيشتها، من معاشه الذي لا يزيد عن 650 جنيهًا، لا تكفي إيجار الشقة وتربية الابن، لافتةً إلى أنه لا يوجد صاحب عمل، يريد أن يوفر فرصة عمل لمتعايشة مع الإيدز، مشيرةً إلى أن جلسات الدعم التي تقدمها لمتعايشات مع إحدي الجمعيات الاهلية لا تكفي مصاريف المواصلات، فالجلسة يكون عائدها 30 جنيهًا فقط، وتطالب “هدى” الوزارات المعنية والجمعيات الأهلية المعنية بحقوق المرأة، بتوفير قروض للمتعايشات من أجل مشروعات صغرى، حتى يتمكن من الإنفاق على أسرهن.
أما عن مطالب المتعايشات، تقول “نريد حقنا في الصحة والعلاج فهو نص دستوري، لماذا لا يطبق على أرض الواقع، نريد مستشفيات تجري كافة أشكال الجراحات وعمليات الولادة للمتعايشات ومرضي الإيدز بصفة عامة، ونتمنى أن يكون هناك عقوبة قانونية رادعة للأطباء والممرضين الذين يرفضون تقديم الخدمة الصحية لمريض الإيدز، وأن تكون هناك جهات سريعة تحقق في شكاوى مرضى الإيدز، وأبرزها تفعيل دور نقابة الأطباء في هذا الشأن.”