«دينا».. الاغتراب عن الريف لم يشفع لها أمام وحش اسمه «الختان»
أشجار صفصاف تتدلى فروعها المرصعة بزهور صفراء صغيرة، تتراص على جانبي فناء المدرسة، المتوهج في حر الظهيرة.
تحت ظلالها تجلس “دينا”، تتلحف بالسماء الزرقاء الصافية، وصفاء قلبها الممتلئ دفئًا وبراءةً.
كانت صبية في عينيها تشرق شمس النهار، وفوق راحتيها ينام حلم أخضر، يداعب النسيم ضفائرها المنسدلة بلون الليل على كتفيها، فتطاير معه، يراقصها كموجة بحر، ويسدلها على بشرتها السمراء سمار النيل.
في المدرسة رتلنا الحلم أغنيةً، وارتدينا الأمل تميمةً للوصول، تجاورنا في حجرة الدراسة التي كانت تلملم شتات هويات أطفال مغتربة، جمعهم القدر في تلك المدينة البعيدة، هذا من أصول فلسطينية، وذلك من قبائل بدوية، وذاك من سكان رفح المحليين، وآخرون من القاهرة والاسكندرية والصعيد وأغلب محافظات مصر، في تلك المدائن البعيدة، التي يرفل ساكنوها بالغربة، تهرع القلوب بحثًا عن الدفء والألفة، وتبتهل عندما تجد ذاك الحس الإنساني المفعم بمشاعر الأخوة.
وهكذا كنا صنوان (أنا ودينا)، امتزج النبض بالنبض، أحاديث طفولية حكيناها، أطلقنا قدمينا لتسابق الريح، ركضنا حول أشجار البرتقال، وتفتحت رئتينا الصغيرتين لتستنشق أريج أزهاره.
غنينا مع العصافير، ولذنا كما لاذت الطيور المهاجرة ببركة الماء في محمية (الأحراش)، وضحكنا ونحن نقطف أزهار اللوز، ونزرعها في انعكاسات وجوهنا فوق صفحات الماء.. كنا نحن والبحر أبجدية عاشقة للحرية، اعتنقناها وطن نخشى عليه من الاغتيال.
تسألني: هل للبحر حدود؟
فأجيبها : البحار طليقة إلا في هذه المدينة، فأجنحتها مقصوصة، وحدودها موضوعة عند (الدبور) تلك السفينة الحربية الإسرائيلية، التي تقف كخنجر مسموم يقسم وحدة البحر.. يغمرنا الصمت، البحر يحتضن الشمس وقت المغيب، وبريق أعيننا يحتضن الحياة .
ذات يوم غابت “دينا” وامتزجت بعدها الأيام بطعم الغياب.
سألتُ عنها العصافير، أرسلتُ لها مع النسيم خطابات لم تصلها.
ملامح الفقد تتشكل في وجداني، برد يسري في شراييني، وتراكمات الثلوج تراقص أطياف وحدتي، وتزيد غربتي غربة على غربة.
غابت الشمس في عيني، وباتت أنفاس المدينة لاهثة، والغمام يحجب الأشجار، ويسلب الزهور أريجها، هو وحده ذاك الكلب الهجين الشبيه بــ”ابن اَوى” في أذنيه الطويلتين، وذيله الممتلئ الطويل، يسير في المدينة كأنه مليكها، يعوي في الليل بصوت ذئب، والجدران تئن تحت زحفات الورنات شبيهة السحالي، والضباب يتكاثر يحجب ضوء القمر.
وذات مساء سمعتُ وَالِدَيَّ يتهامسان.
والدي: دينا مريضة تلازم الفراش
والدتي: ماذا بها؟!
والدي: أجروا لها عملية ختان.
والدتي: كيف يفعلان هذا؟ فوالدها ضابط طبيب، ووالدتها على مستوى راقٍ من التعليم.
والدي: إنهما أبناء ريف
ذابت الكلمات في فلك الصمت، واكتست الوجوه بملامح الدهشة.
في الريف سطوة الموروث سحر يأسر العقول، ويسلب ملكات التفكير، ليتبع الإنسان العادات والتقاليد كظلها الذي لا يتمرد عليها، لترافقه ويرافقها مهما ابتعد، وتغيرت عليه الأماكن.
ذهبنا لزيارة “دينا”، في ذلك البيت الذي تسكنه، المكون من طابق واحد مبني على الطراز العربي، يحيطه سور بداخله حديقة صغيرة.
نزلنا من سيارة والدي العسكرية الزرقاء، التي كانت تصطحبنا عادةً في تنقلاتنا، في تلك المدينة الخالية من أي مواصلات داخلية، والتي فرض فيها على الغرباء في مثل أحوالنا أن يعيشوا في قوقعة خوفًا من أن تطاردهم أشباح الخطر.
طرقت والدتي الباب، ففتحت والدة “دينا”، واستقبلتنا بحرارة، جلسنا معها في الحديقة حيث العناقيد المتدلية من شجرة العنب، وكانت الحديقة بمثابة غرفة الاستقبال في تلك النوعية من البيوت.
سألتها: ماذا بــ”دينا”؟
قالت : مريضة، مريضة وفقط .
(وفي عينيها إصرار أن طفولتي لا تحتمل تعريفي بمدلولات هذه الأشياء، لكنهم على الرغم من هذا، يبيحون لأنفسهم أن يجتثون براءة الطفولة، ويزرعون في أجسادهم الآلام بدافع الموروث)
قلت لها: أيمكنني رؤيتها.
فمدت يدها إلى يدي، واصطحبتني إلى غرفتها .
“دينا” طريحة على فراشها، وردةً ذابلة، عصفور قصوا جناحيه ومنعوه عن الطيران، ترك الشحوب بصماته على ملامحها، واستوطن الاَلم قلبها الأخضر فأرداه شريدًا .. تصلبت الكلمات على شفتيّ، وبصعوبة بدأت استجمع قوايّ، مددتُ يدي إلى يدها .. احتضنتها برفقٍ، استشعرتها باردةً كقطع ثلج، وابتلعنا الصمت.
“دينا” عينيها قصيدة بتول، يحلو للطهر الترحال فيها؛ فلماذا رؤوا فيها خطيئة، وألقوها بحجرٍ، والخطيئة كائنة في أفكارهم البائسة، والحجر الأول مردود في متن الحق لها .