واحدة من 7 مليون مصري لا تصل المياه إلى بيوتهم، ومن 20 مليون مدفونين أحياء في عشوائيات، ومن ملايين يصعب إحصاؤهم، صدقوا أن الثورة ستقصر المسافة الفاصلة بينهم وبين الأغنياء.

“نوارة” فتاة عشرينية، تعيش ممزقة بين نقيضين، نصف اليوم تقضيه في فيلا أحد رجال الأعمال ونائب ببرلمان ما قبل ثورة يناير 2011، الموجود بأحد المجمعات السكنية النائية، في عالم معزول عن المجتمع المصري بضجيجه، وزحامه، أما النصف الثاني، فيضيع جزء منه في وسائل مواصلات تتقاذفها من واحدة لأخرى؛ ميكروباص، وأتوبيس، وتوك توك، وجزء اَخر بين أروقة غرفة متهالكة، تسكنها مع جدتها “توحة” وعدد من الكتاكيت، ثم في رحلة شاقة سيرًا على الأقدام حتى تملأ جراكن المياه من صنبور عمومي.

الغرفة الضيقة، بائسة الملامح، تبقى ملاذًا للاحتماء من قساوة الشارع ومساحة تأويهما وقت النوم، وهي أيضًا مصدر رزق “توحة”، فعبر نافذتها، تبيع الفول والطعمية للجيران والمارة.

خروج مبكر من المدرسة .. عمالة بالمنازل .. زواج مع إيقاف التنفيذ ..أنوثة ضائعة وسط ركام الفقر

بإبداع مركز، رسمت المؤلفة والمخرجة “هالة خليل” شخصية “نوارة” (منة شلبي) بكافة تفاصيلها داخليًا وخارجيًا، فقد قدمت صورة شديدة الواقعية لفتاة تنتمى للطبقة الفقيرة أو ما أدنى، في ملامحها، وأحلامها، ونظراتها، وما يلفظ به لسانها.

free-2389917575923031448

فتاة ولدت في قبضة الفقر، أخرجتها أمها من المدرسة مبكرًا، فحُرِمَت من أبسط حقوقها، ثم أخذتها إلى عالم الخدمة في المنازل لتورثه لها، وسرعان ما تحول إلى عمل “نوارة” الذي تنفق من أجره على نفسها وجدتها توحة (رجاء حسين)، وتشتري منه مستلزمات بيت الزوجية الذي طالما حلمت به.

كما حُرِمت “نوارة” من التعليم، والعمل اللائق، والعيش الكريم، حُرِمت من الزواج، أو بالأحرى تزوجت مع إيقاف التنفيذ، كُتب كتابها قبل 5 سنوات من شاب “نوبي” يدعى “علي” (أمير صلاح الدين)، ولكن الظروف المادية القاسية حالت دون الزواج، فهو يملك ما يكفي حتى لتأجير غرفة.

ويمثل “‘علي” نموذج الشاب المصري المغلوب على أمره، يتمرد أحيانًا، ثم يعود إلى خنوعه للأمر الواقع سريعًا، يتمسك بشرقيته، وحينما يتحرر منها قليلًا ويقبل ما يجافي قواعدها، يكون إذعانًا لقهر الفقر وتجبر الحاجة.

الزواج القبلي ..  تقليد يستطيع “الذكر” وحده تجاوزه

فيلم-نواره

وفي شأن الزواج، لم تنس المؤلفة والمخرجة “هالة خليل”، تسليط الضوء على تمسك النوبيين بالزواج القبلي فيما بينهم، فنجد والدة “علي النوبي”، تشير إلى رفضها زواج ابنها من “نوارة” فى بادئ الأمر، لا لشئ إلا لأنها “جورباتيه” أي لا تنتمي إلى النوبيين.

وهنا تجدر الإشارة إلى تمييز من نوع اَخر، لم يعلن عنه الفيلم صراحةً، لكن يمكن استنباطه، فقبول الأسرة زواج “علي” بـ “نوارة”، يعود بشكل رئيس لكون الذكر النوبي يملك أريحية في ذلك عن الأنثى النوبية، وهو الحال نفسه بين القبائل الجنوبية التي مازالت تتمسك بالزواج القبلي.

ورغم الفقر .. تبقى الكادحة جميلة ولو لفح وجهها برد يناير

304

على عكس كثير من الأفلام العربية، التي تعتمد على أن القصة وحدها تكفي، أو أن البيئة المحيطة ستعوض مسألة انفلات بعض التفاصيل في مظهر الشخصية، تأتي “نوارة” محمولة بالكثير من التفاصيل الخارجية، تقنع بالحالة البائسة للفتاة، مثل العباءة السوداء التي تتشح بها، لأغراض عديدة منها؛ الحماية من عيون الناس في طريق طويل، والتدفئة من برد الشتاء، وستر المهترئ من ملابس تحتها.

حذاء صيفي كاشف لقدميها فى ظل غِلظة شتاء يناير، وبنطال منحولة أطرافه، ووجه يضنيه الفقر، وجسد هزيل أعيته معاناة متكررة في رحلة يومية لتعبئة جراكن المياه، وساعات تنقل بين المواصلات، وعمل شاق طوال النهار، وملامح لم تعرف طريقها مساحيق التجميل.

وعلى الرغم من كل تلك القسوة، فالابتسامة لا تفارق وجه “نوارة”، وإشعاع البهجة لا ينطفأ، تتمسك بالأمل مهما ضاق الحال، ومهما ضيَّق الفقر خناقه.

“الثورة” في عيون “نوارة” ونظرائها

لم تتوحد مشاعر من أُطلِقَ عليهم “حزب الكنبة” تجاه الثورة، فمنهم من اَمن بها،  ومنهم من  رفضها، وهناك من لم يحب أو يكره، مثل “نوارة”، فهي لا تتابع أخبار الثورة، ولا نتائجها على الصعيد السياسي فالأمر لا يشغلها، تلتقط أذنها فقط الأخبار التي تخص فئتها؛ وعود على ألسنة النخبة بأن الأولوية لهم، شعارات وصياح، ومحاكمات “صورية” تنبأ بأن الفقراء لهم نصيب من أموال جمة، ستعود تحت مسمى “الأموال المهربة من الخارج”.

003(1)

تنزعج “نوارة” من المتظاهرين إن عطلوا الطريق إلى كومباوند الأغنياء حيث “أكل عيشها”، وتهتف للثورة “عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية” بمجرد أن يفسحوا الطريق ليمر الميكروباص ويمضي في طريقه.

تثبت “نوارة” أن الفقراء لم يروا في الثورة سوى طوق نجاة من فقرهم المدقع، فى ظل وابل من الأحاديث عن استعادة أموال مهربة من قبل رجالات نظام مبارك، ووهم توزيع تلك الأموال، الذي صدره من أرادوا إلهاء الناس عن خطط إجهاض الثورة، وتفريغها من أهدافها الرئيسة.

وليست وحدها “نوارة” من صدق الوهم، بل النخبة أيضًا والإعلاميين، الذين انجرفوا نحو هذا النقاش، في اتجاه خسر فيه كل الحالمين بــ”التغيير”، وهذا ما يقدمه الفيلم في مشاهد تظهر فيها الإعلامية “دينا عبد الرحمن”، كمقدمة برنامج أفردت مساحات للتركيز على مسألة استعادة الأموال، ومشهد مسجل لإحدى حلقات “ريم ماجد” في برنامجها “بلدنا بالمصري”، وهي تناقش مع أحد الصحافيين، التطور في مسألة محاكمة مبارك ونجليه.

120161510321889هالة-خليل-،-نوارة-،-مهرجان-الاقصر-للسينما-،-منة-شلبى-،-اخبار-الفن-(10)

“الفقر ذل”، حقيقة يكشفها كلام “نوارة”، ونظراتها، وحتى صمتها، فعندما يسألها  “أسامة بيه” (محمود حميدة)، مالك الفيلا التي تعمل بها، “هل نزلتِ ميدان التحرير؟”

تيجبه بأنها لم تنزل سوى يوم التنحي – مثل كثير من المصريين يومها – وتستطرد “حسينا إننا حاجة كبيرة أوي .. بقى إحنا نقدر نشيل حسني مبارك”

“نوارة” التي شعرت في لحظة ما بالقوة بعد سقوط مبارك، هي نفسها، التي تقف خافضة الرأس أمام رجل الأعمال “أسامة بيه” وتخبره على استحياء أن  ما تتمناه من هذه الثورة، أن يتحسن حال “الغلابة” أمثالها.

رؤية “نوارة” للنظام ممثلًا في مبارك والحكومة كونهم “ظلموا الناس” ويستحقون الثورة عليهم، تتناقض مع تعاطفها مع “أسامة بيه” الذي يعد أحد رجالات هذا النظام، ومن كبار المفسدين في البلد، في حالة أقرب لمتلازمة ستوكهولم وتوحد الفرد مع المعتدي عليه ومنتهك حقوقه، فـعقل “نوارة” يأبى تصديق أن “أسامة” أحد المتسبيين فيما تعيشه من قهر وظلم.

“نورة” النسخة المصغرة من “نوارة”

628

بين أحداث الفيلم، يمر سريعًا فى الأتوبيس المتنقل داخل الكومباوند، لقاء بين “نوارة” وإحدى العاملات بفيلا مجاورة ومعها طفلة تدعى “نورة”.

ولعل الرابط بين الاسمين يكشف متصلًا مع الكلام الذي تبوح بها عاملة المنزل أن “نورة” أخرجتها أسرتها من المدرسة، وستبدأ رحلتها مع العمل بالخدمة في المنازل، وهو ما حدث مع “نوارة” في صباها.

تبتئس “نوارة” وقد أدركت أن مصيرها سيعاد مجددًا، والسبب واحد، وهو “الفقر”.

كيف تحول حلم الثورة إلى كابوس؟

المال حمى أصحابه .. والفقر سجن ضحاياه

بعد أن رحل أهل الفيلا، “أسامة بيه” وزوجته “شاهندة الغازولي” وابنتهما “خديجة”، هاربين إلى لندن، خوفًا من محاكمات متتابعة طالت رجال أعمال وشخصيات ارتبطت بالنظام المخلوع، عاشت “نوارة” لأيام داخلها، تحفظ الأمانة المتروكة لها، وتولد في الخواء علاقة قوية بينها وبين كلب خديجة، بعد علاقة حكمها الخوف من ناحية والتربص من ناحية أخرى، ليتكشف من خلالها أن الكلب في هذا المجمع السكني الفاخر، يملك إنسانية لا يملكها قاطنيه، فلم يحم أحد في هذا المكان المتسع “نوارة” من بطش من يرون أنفسهم “أسياد البلد” سواه، وهؤلاء ممثلين بوضوح في شخصية “حسن” شقيق “أسامة”.

ومن فرط القوة والغرور الذي بلغه، يرفض حتى دفاع حيوان مخلص عن صاحبه، ويرد عليه بـ”الرصاص” لأنه لا يرى نفسه سوى كما قال نصًا “إحنا أسياد البلد وهنفضل أسياد البلد” وهو الواقع المتحقق فعلًا وأخفقت الثورة في تغييره.

عند هذه النقطة تدرك “نوارة” أنها ليست أكثر من لعبة بيد أصحاب الفيلا، يمكن إسكاتها ببضع اَلافات لا تعنيهم ولكن بالنسبةً لها فضل كبير.

تقرر رفع المسؤولية عنها والرحيل عن المكان، ولكن الخروج الاَمن ليس لأمثال “نوارة”، فعليها أن تسدد فاتورة هروب الفاسدين والمفسدين، مرتين وليس مرة، الأولى بعنف طالها من قبل ذويهم، والثانية ببطش من بيده إنفاذ القانون، ذلك الذي لا يرى ولا يحاسب إلا الضعيف، فالسارق الأكبر هرب بملايينه أو ملياراته بعيدًا دون محاسبة، والخادمة الفقيرة التي حفظت أمانة البيت تدان وتحبس لأنها أخذت 20 ألفًا صدقت أنها هدية المدام “شاهندة” للزواج ربما أو لعلاج حماها المريض أو للبقاء في المنزل طيلة الغياب.

وينتهي الفيلم، بمشهد خروج سيارة الشرطة من الكومباوند، تقتاد نوارة إلى المحبس، ويلاحقها “علي”بدراجته البخارية المتهالكة، وتغلق بوابة المجمع السكني فى انتظار عودة سكانه الأثرياء من رحلة الهروب المُنَعَّم، بعد أن يسدد الفقراء ثمن الحلم المُحرم كاملًا، بالسجن أو من قوتهم، وأمنهم وحياتهم.

الأدوار النسائية:

توحة – الجدة

وهي شبيهة سيدات كثيرات من أبناء طبقتها، الذين تجنى عليهم الزمن، وقهرتهم السلطة.

تحلم “توحة” بأن تدخل المياه إلى الحمام الذي يتشاركون فيه مع عدد من ساكني العشوائية، ويسكنها خوف كبير من أن يباغتها الموت فجأة ولا تجد “نوارة” مياه لتغسلها، ومثل قطاع واسع من نساء مصر المتقدمات في العمر، تحتفظ بقدر من المال يكفي مصاريف دفنها، وترفض المساس به لأي حاجة من حاجات الدنيا.

“توحة” مسؤولة من “نوارة” وفي الوقت نفسه سندها حتى ولو بالكلمة فى ظل انعدام القدرة على الفعل.

شاهندة الغازولي

زوجة رجل الأعمال وصاحب الفيلا التي تعمل بها “نوارة”، وهي الشخصية الأكثر تخوفًا من الثورة وكُرهًا لها، ترى فيها غوغائية، ومحاولات عبثية لقلب الاَية وتغيير تركيبة المجتمع، تتعامل مع “نوارة” كونها الخادمة الأمينة، لكنها لا تعلو فوق مرتبة “خادمة”، يمكن امتصاص تمردها بـ20 ألف جنيهًا نظير البقاء فى المنزل وحمايته، مهما بلغت تكلفة ذلك.

629

خديجة

هذه الشخصية تكشف مدى عِظَم الفجوة، والاَلم القابع داخل “نوارة”، فهي فتاة في نفس عمرها تقريبًا، ولكن الرفاهية عنوان عريض في حياتها، أكبر مشاكلها مع الثورة، حرمانها من التنزه مع أصدقائها، بسبب خوف الأهل من البلطجية.

تقضي “خديجة” يومها بين السباحة والحاسوب أو مع كلبها، وفي المقابل تقضي “نوارة” أوقاتها، تنظف المكان حولها، تجيب طلبات “المدام” والدتها.

تختلس “نوارة” نظرات خاطفة تتأمل “خديجة” في حمام السباحة وكأنها تتمنى لو أن تكون مكانها، وهو ما تحققه في النهاية يوم تقرر فك الحصار الذي فرضته على نفسها في ظل هروب أهل البيت، وتركهم إياها في وجه المدفع.

استحواذ نسائي على صناعة الفيلم:

يعد “نوارة” عملًا نسائيًا بامتياز، سيطرت عليه المرأة أمام الكاميرا وخلفها، إلى جانب الشخصيات السينمائية، تجلت موهبة “هالة خليل” تأليفًا وإخراجًا، في عمل هو الأهم بين أفلامها الروائية الثلاثة.

الإبداع الذي قدمته “خليل” تكامل مع موسيقى “ليال وطفة” وملابس “ريم العدل”، ومونتاج “منى ربيع”، وديكور “هند حيدر”فى سيموفنية متناغمة.