على الرغم من أن عدد الأفلام التى تدور حول شخصيات نسائية بشكل صريح، أو تتناول قضية نسائية أو ظاهرة سلبية تتعقب النساء، لا يزيد عن 15 فيلمًا تقريبًا من بين أكثر من 100 فيلمًا يشاركون فى مسابقات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فى نسخته الــ37، إلا أن أفلامًا أخرى لم تترك القضايا النسائية، دون مرور عليها، وحاولت ولو فى مساحة أضيق رفع اللثام عن خباياها، من بين تلك الأفلام فيلم “فى يوم” للمخرج كريم شعبان والذى يشارك فى مسابقة “اَفاق السينما العربية”، والذى عرض يومي الجمعة والسبت بالمسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية وسط حضور جماهيري كثيف.
الفيلم يدور حول 6 شخصيات مختلفة، نصفهم من الرجال والنصف الاَخر من النساء، تتباين أعمارهم وخلفياتهم، لكن تجمعهم مظلة اليأس، والرغبة فى الخلاص من مصر بما هى عليه الاَن من فساد، وظلم، وفوضى وقهر.
الشخصيات النسائية هن؛ أم مكلومة، وطبيبة فى مستشفى حكومي، وفتاة تعرضت للتحرش.
“في يوم” ليس فيلمًا صامتًا، ولكن الكلام فيه لا يدور فى مشاهد تجمع أبطاله بالصورة المعتادة، بل بسرد غير تقليدي، فلا يوجد حوار مباشر بين الشخوص، وإنما نسمع أصواتهم فى خلفية مشاهد يظهر فيها كل بطل على حدا، فى مكان يبوح بالكثير عن قصته، والحالة التى اجتمعت عليها كل شخصيات الفيلم وهى اليأس.
مصر لم تعد تُحتمَل .. لابد من الرحيل .. ضاع العيش ..فُقِدَت الكرامة .. ومات الأمل.. هذه هى الرسالة التى يمكن استخلاصها من فيلم لم يكن الكلام فيه كثيرًا، لكن الاَلم انتقل إلى المشاهدين كبيرًا.
الاَلم الذى يخلفه التحرش، ندركه من خلال الفتاة الجالسة على حافة فراشها فى حالة اضطراب، تتذكر موقفًا لا يمكننا رؤيته، لكن نسمع أصواتًا متداخلةً، صراخ فتاة، ورجال يدافعون عن اَخر يبدو أنه تعدى عليها، وصوت أحدهم يبرر التحرش بها بسبب مظهرها وشعرها.
تجدر الإشارة إلى أن الأصوات التى ظهرت فى الخلفية هى “أصوات من مقطع فيديو، صوره أعضاء مشروع بصي ، يوثق تعرض عضوتين منه، للتحرش فى أحد الشوارع، وكان تصويره، بهدف رصد ردود أفعال المارة على واقعة التحرش، التى جاء أغلبها يلوم الفتاة ويتهمها بأن مظهرها السبب، ويحمى المتحرش، ويفسح له المجال للهرب.
الواقعة وما خلفته من اَلم، لم تداويه والدة الفتاة، بل ضاعفته بإصرارها أن ما حدث لابد من تمريره، وتأكيدها أن ما حدث سيحدث مع كل الفتيات والسيدات، وهو أمر واقع لا مناص منه، والأفضل فى نظر الأم السكوت عنه، حتى لا يساء لها إن دافعت عن حقها، وتتحول من مجني عليها لجاني، وهو ما تخشى الأم أن يضيع فرصة ابنتها فى الزواج، لتكتشف الناجية من التحرش فى نهاية المطاف، أنها لو أرادت العيش فى مصر لابد أن تتعايش مع فروض المجتمع بأنه ليس للأنثى حق فى الكرامة ولا الأمان.
اَلم اَخر، وهو اَلم تأنيب الضمير، وأحلام تكسرت على سلالم المستشفى الحكومي، نتعرف على شخصية أخرى وقصة مختلفة، تبدأ بخطوات بطيئة، مسموعة الدقات، فى ممر ضيق ومهمل، حيث تسير شابة ترتدى “بالطو” أبيض اللون، نتعرف على قصتها، بنفس طريقة السرد، من خلال حوار فى الخلفية بينها وبين والدتها، ونبدأ حيث حلمها أن تختار وتقرر مصيرها، وتصيغ مستقبلها فى استقلالية تامة عن أسرتها، وتدريجيًا، نكتشف أن تطلعاتها سراب، فالطب فى مصر “وظيفة والسلام”، والرعاية الصحية “رفاهية غير مسموح بها، والضمير “لابد له من سبات عميق”، والبيروقراطية “أهم كثيرًا من حياة المرضى”، لتدرك الطبيبة الشابة أخيرًا، أنها لو أرادت العيش فى مصر لابد أن تتعايش مع فروض اللا إنسانية واللا احترام واللا اعتراف بحق الإنسان فى الصحة.
الشخصية النسائية الثالثة، تنقل لنا اَلمًا فى جوفه تجتمع اَلامًا وأوجاعًا أشد قسوة، بين فقد، وظلم، ودم، فهى الأم المتشحة بالسواد، تهندم ملابس ابنها، فى غرفته، التى تمتلئ ببقايا من علامات تذكر بثورة الــ25 من يناير، أكثرها بروزًا اللوحة البيضاء المكتوب عليها بالأحمر العريض “ارحل”.
فى الخلفية لا نسمع حوارًا بين اثنين أو مجموعة كما هو الحال مع الشخصيات الأخرى، لكن نسمع صوت الابن وهو يخاطب أمه، لنعرف أنه أحد شباب الأولتراس، ومن ثم من الذين شاركوا فى الثورة، بطهارة الشباب الراغب فى مستقبل أفضل، شهد على احتجاز أصدقائه لدى الشرطة بتهمة “الشغب” ودافع عنهم أمام أمه وأكد أنهم لن يخافوا ولن يتمكن أحد من إسكات أصواتهم، وأصر على الاستمرار فى الطريق، حتى كُتِبَت نهايته وراح دون ثمن، ولم يترك خلفه سوى ملابس وبعض الصور، ترقد الأم بينهم فى صمت، بعد أن فقدت الروح بقدانه، وقُتِل الأمل بداخلها بقتله، وأدركت أنها لو أرادت العيش فى مصر لابد أن تعيش ملتصقة بـــ”الحيط” لأنه لا حق لمن اختار غير ذلك.
تخرج الأم بعد فترة جلوس طويلة فى غرفة الابن،وتمر بجوار نتيجة حائط، أحدث تاريخ فيها 20 يناير، وإلى جانب النتيجة نرى جزءًا من ورقة مكتوب عليها يناير بخط كبير.
ينتهى الفيلم، بوصول شخصيات الفيلم بما فيهم هؤلاء النسوة، إلى مقابر، حاملين نعشًا، استعدادًا لدفنه لينتهى الفيلم تاركًا فى أذهاننا سؤالًا لن يبرح بسهولة “هل لم يعد هناك مكان للأمل فى مصر ولم يبق أمامنا سوى دفنه؟”