أثناء الخوض في تحليل وضع المرأة المصرية والدفاع عن حقوقها والتوقف أمام الأسباب التى تسلبها حريتها، غالباً ما يتم التطرق إلي طبيعة “المجتمع الذكوري” الذي نعيش فيه. هذا المجتمع الذي تختل موازينه ويتحكم الرجل في المرأة.

الذكورية تبدأ من المنزل وتخرج إلى المجتمع وتكتمل بقوانين الدولة:

فما أكثر صور التمييز ضد المرأة والنظرة المجتمعية الدونية لها الدالة علي غياب المساواة بين الجنسين علي كافة الأصعدة، بدءاً من استمرار رغبة بعض الآباء في إنجاب ذكور “لحمل إسمهم”، و تفرقة بعض الآباء في المعاملة بين الأبناء الإناث والذكور – عمداً – أو عن غير وعى – عند إعطاء الذكور كل الحريات وتشديد الرقابة علي الإناث، فالأخ يتصرف كما يشاء ولا يشارك في أي نشاط منزلي أو حتى عائلي، مما يؤدي لإتجاه الذكور إلى السيطرة علي أخواتهن والتحكم في تصرفاتهن ويشعر الإناث أنهن في مرتبة أدنى. أضف إلى ذلك النظرة المترسخة عن المرأة كونها لا تتمتع بكيان إنساني كامل إلا إذا ارتبطت برجل، حيث أن المرأة مهما حققت من نجاحات و وصلت إلى أعلى المراتب لا يعتد بأي من ذلك كما يعطى أهمية إلي زواجها، فمكان المرأة الطبيعي ودورها الأساسي ينحصر داخل المنزل، وكافة الأنشطة التي تقوم بها خارجه تعد إضافية وغير ضرورية، إذ يرى العديد أن عمل المرأة هو المسبب الرئيسي لأزمة البطالة حين أقدمن النساء علي مزاحمة الرجال في الوظائف. ناهيك عن خلل المنظومة القيمية للمجتمع والتي تقصر مبادئ العفة والشرف علي المرأة، بينما لا يقع علي عاتق الرجل أي نوع من المسئولية أو المساءلة وله مطلق الحرية في إرتكاب كافة الأفعل المرفوضة اجتماعياً، ففي النهاية هو “رجل” ولا يعيبه شئ!

وهكذا علي سبيل المثال و ليس الحصر، القيم الاجتماعية و العادات و التقاليد ترسخ النظام الذكوري في المجتمع المصرى علىو جه الخصوص، و لكن لا يقتصر الأمر على ذلك بل يمتد للنظم القانونية التي تدعم هذا النظام. فقوانين الأحوال الشخصية تصب في مصلحة الرجل وتعمل علي تهميش حقوق المرأة، ومن أبرز القوانين التي تستغل ضد المرأة وتعمل علي إهدار حقوقها بل و ضياع حياتها قانون القتل دفاعاً عن الشرف الذي كبداية يمثل تمييزا صارخا ضد المرأة و كثيرا ما يستخدم كستار لتنفيذ أبشع أنواع العنف ضد المرأة مع ضمان الإفلات دون عقاب.

إذن هذه الأسباب مجتمعة، مضافاً إليها التفسيرات المغرضة والمغلوطة والمختلقة وفقاً للأهواء للنصوص الدينية، والتى أدت إلى انتهاك أغلب حقوق المرأة وممارسة كافة أشكال الاضطهاد والعنف ضدها سواء على الصعيد الأسرى، المجتمعى، السياسي، وعلى المستويات كافة، جنسي ونفسي وجسدى.

الواقع الصادم الذي نعيشه، ومستوى الفكر المتدني الذي وصلنا إليه يجعلنا نعود بتفكيرنا إلي الماضي ونستدعي التاريخ لنتساءل، هل كان دوماً الحال كما هو عليه الآن أم أن هناك تغيرات طرأت علي المنظومة القيمية للمجتمع؟

حينما كانت “المرأة” تحكم مصر

ماذا سيحدث لو بدلنا الأدوار وأخذت المرأة مكان الرجل في المجتمع؟ هل يمكن أن تتصور أن تكون المرأة هي عصب العائلة وصاحبة السلطات بها؟ هل تتصور أن يحمل الأبناء اسم الأم و ليس الأب؟ هل يمكن أن تتخيل أن مصر كانت تعيش يوماً بهذا النظام؟

نعم، هذا النظام ليس تخيلياً بل هو النظام الأمومي الذي شكل تاريخ المجتمعات الأولية، والذى تتمحور فيه السلطات حول الإناث، خاصة الأم، و تحتكر الأدوار القيادية السياسية والسلطة الأخلاقية، وهو ما يعادل السلطة الأبوية الآن.

أسلمت الجماعات قياداتها للأمهات، وذلك نظراً لخصائصها الإنسانية وقدراتها الخلاقة، فقد تم تقديس خصوبة المرأة في الإنجاب وإعتبارها هي سر الحياة، وأنتسب الأبناء إلى أمهاتهم، ولم يكونوا يرثون إلا من أمهاتهم. وتعززت مكانتها لدورها الاقتصادي المحوري، إذ كانت أول من اكتشف الزراعة أثناء اختصاصها بجمع الثمار بينما اقتصر دور الرجل علي الصيد.

والجدير بالذكر أن السلطة الموكلة للمرأة في المجتمع الأمومي كان تقديراً لها لا خنوعًا من الرجل. و يذكر التاريخ أن رجال المجتمع الأمومي كانوا أكثر فراسة وشهامة و رجولة من رجال العصر الذكوري.

ومن هنا ظلت المرأة تتمتع بهذه المكانة الخاصة في المجتمع المصري، وهو ما تجلى في العصر الفرعوني، حيث تمتعت المرأة يحقوق لم تحظى بها مثيلاتها في الحضارات الأخرى. كانت المرأة لها سلطة كبيرة علي إدارة البيت والحقل واختيار الزوج، وتربعت علي كرس الحكم و شاركت قي المراسم الكهنوتية في المعابد، وظهرت الآلهات الأم مثل “إيزيس” و “نوت” و “هاتور” و “سيخمت”، وأم الاَلهة “نيت” وتصور بأنها البقرة السماوية التى أنجبت السماء ومن ثم صنعت العالم بمغزلها، وهى التى ينسب لها قول “أنا ما كان وما هو كائن وما سوف يكون، وما من أحد بقادر أن يرفع عني برقعي”

كما عرفت مصر المرأة حاكمة قبل أن يُعرَف للعالم ملامح، وذلك من خلال عدة ملكات عرفهن التاريخ الفرعونى، أشهرهن “حتشبسوت” و “كليوباترا”.

مراحل التحول من مجتمع الأمومى لمجتمع ذكورى

ولكن سرعان ما تدهورت هذه المكانة، تأثراً في البداية بعلاقات الإنتاج، حيث تم تطوير وسائل الإنتاج واستغل الرجل قوته العضلية في إقصاء المرأة من الأعمال الإنتاجية لتتقلص مهامها وتنحصر في الأعمال المنزلية، ومع مرور الوقت ترسخت هذه النظرة مما أدى لانتقاص المرأة من قيمة نفسها، وذلك الطريق لإقصائها اجتماعياً.

توحيد الملك مينا للقطرين في القرن ال٣١ قبل الميلاد

يعد أهم مراحل هذا التحول الجذري، إذ تراجعت عبادة الإلهة “أيزيس” وازدهرت عبادة الإله حورس (ابنها) الذى كان رمزاً للحرب، والذي أصبح الإله الرسمي للدولة لما يجسده من قوة لا تمتلكها إيزيس. وزاد الاعتماد على هذه القوة مع تطور الإمبراطوريات الإغريقية والرومانية، حيث تفحش الغرور الذكوري وأصبح الإمبراطور هو ظل الإله علي الأرض.

مع الحضارتين المسيحية والإسلامية

ترسخت هذه الهيمنة الذكورية عندما زاد تحكم الرجل فى المرأة عند زواجه منها بناء على القوانين التي سنها لصالحه، وتراجعت كافة حقوقها السياسية والإجتماعية والإقتصادية. وفرض علي المرأة وهب نفسها لزوجها لإسعاده وإشباع رغباته، بينما للرجل الحق في أن يكون له علاقات جنسية بجانب الزواج لإشباع رغباته ونزواته، فظهرت بين صفوف المرأة الجاريات، وملكات اليمين اللواتى يجتمعن على وهب أنفسهن من أجل متعة الرجل.

وهكذا تحول المجتمع من نظام أمومي لنظام أبوي، ومع توالي الثقافات الوافدة خاصة مع العهد العثمانى، أضحى المجتمع المصرى مجتمعاً ذكورياً متوحشاً، لا تفتقد فيه المرأة كافة الحقوق فحسب بل تعاني ما هو أسوأ، تعانى من نظرة مجتمعية شرسة، تعمد على سلبها كافة حقوقها وتبرر أية أنواع عنف تمارس ضدها..فمتى يفيق المجتمع من سكرته؟