“صوت قوي، فيه رعشة سريعة، وعندها إحساس قوي.. وصوتها فيه زعامة، تمشى كأنها تأمرك، وأنت لا تعصي لها أمرًا.. ثم إن صوتها فصيح مبين.. تستطيع أن تمسك ورقًا وقلمًا وتكتب كل كلمة تقولها.. قادرة على إسكات جمهورها، لأنه لا يريد أن يفوته أي معني وأي لحن وأي أداء.. أي لا يريد أن يفوته شيء جميل”

هكذا تحدث عنها موسيقار الأجيال “محمد عبد الوهاب”، عن تلك “الست” التى أجلست الملايين لعقود حول الراديو مساء الخميس الأول من كل شهر، يضبطون موجات الأثير حتى يأنسوا بصوتها المعطر بمسك الحرية والقوة.

“فاطمة إبراهيم البلتاجى” التى عرفناها باسم “أم كلثوم” ولقبناها بـ”كوكب الشرق” ونصبناها “سيدة مصر الأولى” وكثيراً ما ذكرناها بـ”الست” إجلالاً وإكباراً لإنسانة وسيدة لا مثيل لها.

286017184611410

أول محطة فى قطار الإبداع والشهرة

يعتبر عام 1924 هو أولى محطات قطارها السائر على قضبان الفن، فيه تعرفت على نخبة من الشعراء والفنانيين بينهم أمير الشعراء “أحمد شوقى” و الموسيقي “محمد القصبجى” وكان لهما بالغ الأثر فى هذه المرحلة من حياتها، وقد سجلت واحد من ألحان “القصبجى” فى هذا العام ومن بعدها تولى تعليمها المقامات الموسيقية.

في نفس العام شنت “روز اليوسف” هجومًا شديدًا على “أم كلثوم” والملحنين المتعاملين معها ووصفتهم بالعامة غير المحترفين، مما دفع “الست” للبدء في إعداد فرقتها الخاصة بمساعدة القصبجي الذي قدم لها الدعم الفني والمعنوي، وأسس لها أول تخت شرقى يصاحبها فى حفلاتها و عزف لها العود ضمن أفراد التخت.

زارت فلسطين عام 1928 وغنت بالقدس ومن بعدها فى حيفا، وفاجئتها هناك سيدة حيفاوية بالصعود إلى المسرح ((مسرح الانشراح)) وهى فى شدة الإعجاب بصوتها الفخيم وقالت:أنت كوكب الشرق بأكمله ليأتى من هناك اللقب”

مونولوج يحقق أعلى مبيعات وطقطوقة من ألحانها

فى عام 1928 غنت “أم كلثوم” مونولوج “إن كنت أسامح و أنسى الأسية” الذى حققت أسطوانته فى ذلك الوقت أعلى مبيعات ومن ثم دوى اسم”أم كلثوم”.

وفى هذا العام أيضًا، قدمت “كوكب الشرق” طقطوقة لم تكتف فقط بوضع بصمتها الصوتية عليها بل قامت بتلحينها وكانت من كلمات الشاعر “أحمد رامى” واسمها ” على عينى الهجر”، وقد لحنت “أم كلثوم” فى نفس السنة أغنية “على عينى الهجر” لنفسها.

وطاردتها تهمة اسمها “مطربة العهد البائد”

على الرغم من تأييدها لثورة 1952 منذ اللحظة الأولى إلا أنها صدمت بقرار منع أغانيها من الإذاعة وعزلها من منصب نقيب الموسيقيين إلا أن القرار سرعان ما تم إلغائه من قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد علمه أن القرار اتخذ من قبل الضابط المشرف على الإذاعة بحجة أنها غنت للملك فاروق فى العصر البائد إلا أن “ناصر” وقتها رفض القرار وقال “إذن امنعوا أيضًا النيل لأنه من العصر البائد”.

ثقافتها سمعية.. مثل عبد الوهاب لا يقرأ الصحف .. وإنما يسمعون كثيرًا ومِنْ كثيرين ولا عبد الوهاب، ولا أم كلثوم، ولا عبد الحليم يشربون الخمر، ولا يدخنون، وكانت أم كلثوم لا تأكل الآيس كريم، حرصًا على حنجرتها

أنيس منصور يتحدث عنها..

1-(1)_201431124328

أم كلثوم ..المرأة التى حاربت فى صف موازٍ للجنود

على الرغم من الألم والأسى الذى عشش فى قلبها بعد نكسة 1967، إلا أنها رفضت الاستسلام للهزيمة، وظهر معدنها الصلب بل كانت أشد صلابة من كثرين فى هذا الوقت العصيب، ووقفت على جبهة أخرى لا تقل محورية عن جبهة الحرب، حاربت بصوتها الرنان ضد الضعف والانكسار الذى ضرب النفوس، وأقامت سلسة من الحفلات الغنائية التى تبرعت بأموالها للخزينة العامة المصرية وللمجهود الحربى وكانت البداية أربع حفلات في دلتا مصر بالإضافة إلى حفلات خارج مصر أبرزها حفل باريس على مسرح الأولمبياد في نوفمبر 1967 ثم تلتها حفلات في تونس وليبيا والمغرب ولبنان والسودان والكويت.

“فى أعقاب النكسة، خرجت أقاويل تنال منها وتقول: العرب خسروا الحرب بسبب أم كلثوم، فهي تفصلهم عن الواقع وتخدرهم بأغاني الحب والغرام والهيام والخصام وهي ردت على هذا القول “إن كنت السبب فأنا على استعداد لاعتزال الفن”

غنت لملكين ورئيس

“أم كلثوم” عاصرت فى شهرتها ملكَين، فؤاد وفاروق، وثلاثة رؤساء، محمد نجيب وعبد الناصر والسادات.

غنت للملك فؤاد فى حضوره وقالت:
أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعا ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا
وغنَت لفاروق فمنحها وسام صاحبة العصمة لتكون أول امرأة من أصول ريفية تحصل عليه، وهو ما دفع بعض الأميرات وكبار زوجات السياسيين والأغنياء بإعادة الوسام، لأنهن رأين ذلك تعدٍ عليهن وعلى مكانتهن وتم مساواتهن مع فلاحة.

526580186327919بعد الاعتداء على “جمال عبد الناصر” فى ميدان المنشية عام 1954، غنَّت له “يا جمال مثال الوطنية.. أجمل أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية”، وبعد ذلك بعام قام الشاعر بيرم التونسى بتغيير فى الكلمات لتتواءم مع تولى عبد الناصر الرئاسة، لتصبح “برياستك للجمهورية” بدلًا من “بسلامتك يوم المنشية”.
وغنت لناصر فى حياته وبعد مماته إذ غنت رثاء له أغنية باسم “رسالة إلى الزعيم” من تأليف نزار قبانى وألحان رياض السنباطى، لكنها لم تغن للسادات مطلقًا على الرغم من عدم وجود أى خلاف بينهما على الأقل ولو بشكل معلن والبعض أرجع ذلك لتدهور ظروفها الصحية فى الفترة من بداية السبعينيات وحتى وفاتها فى منتصف ذلك العقد.

دار أم كلثوم للخير

“دار أم كلثوم للخير” كان مشروعها للمساهمة فى مسح أحزان الوطن وتقديم المساعدات للفقراء، وفُتحت أمامها كل الأبواب فى عهد عبد الناصر، وفى زمن السادات، جاء تدشين السيدة “جيهان السادات” لمشروع “الوفاء والأمل”، وبناءً عليه انحازت كل أجهزة الدولة لمشروع “السادات” وأغلقت بلا مقدمات أو سبب واضح الأبواب فى وجه “أم كلثوم” وانتهت “دار أم كلثوم للخير”.

“لا يوجد من أتقن الغناء بالشعر والأدب مثلها، كان هناك من أتقن الغناء مثلها باللغة العربية الفصحى من الرجال مثل الفنان محمد عبد الوهاب، لكن من الإناث لا يوجد مثلها، حيث كانت درة عصرها”

الدكتور أحمد عكاشة

774192053126171

لم يكسرها مرض ولا وهن

لم تسلم “أم كلثوم” من المرض منذ الشباب وحتى الشيب، ففى الثلاثينات تعرضت لمشاكل صحية في الكبد والمرارة .
وفى أواخر الثلاثينيات، أوصى لها الأطباء بالعلاج في أحد البلدان التي توفر المياه المعدنية، ثم ظهرت مشاكل الغدة الدرقية فيما بعد، وعندها فزعت “ثومة” خوفًا على صوتها الذهبي وفكرت مرارًا فى الاعتزال حتى تحفظ ما حققتها من تاريخ ولا تصيبه بأى شرخ، إلا أن الإصرار الكامن داخلها والذى جعلها تحارب الظروف وتحارب الطبقية والاستهداف، هو ما أخرجها من حالة الاكتئاب التى تبعت إصابتها بذلك المرض، وعدلت عن قرارها واختارت المضى قدماً فى طريقها.

وما لا يعرفه البعض هو أن “أم كلثوم” كانت تعالج أيضًا من إلتهاب مزمن في العين وذلك أحد أسباب ارتدائها النظارة السوداء الشهيرة.
وقد تفاقم هذا المرض نتيجة للأضواء الباهرة فى الحفلات والسينما وكان ذلك سبباً رئيساً فى اعتزالها السينما.

وفي بداية 1971 تدهورت حالتها الصحية تدهورًا شديدًا وأصيبت مرارتها بإلتهاب شديد مما أدى لتأجيل جميع حفلاتها وفي شتاء هذا العام أصيبت أيضًا في الكلى.
ومع عودتها من جديد للمسرح والغناء تعرضت للإغماء أكثر من مرة ومع ذلك أبت الاستسلام وأصرت أن تتم حفلاً كاملاً وفعلت لكن المرض “غلاب” وغلبها هذه المرة وحرمها من معاودة الصعود على المسرح مجدداً وحُرِمَ العالم من “كوكب الشرق” فى فبراير 1975.

832688401220366

إلى أن نلتقى

“لم يجتمع المصريون والعرب على شئ مثلما اجتمعوا على صوتها، بمجرد أن تشدو وكأن السماء أرسلت نسائم السعادة تطوق أرواح مستمعيها وعلى الرغم من رحيلها ظل صوتها مسموعاً ولم يغب يوماً ولا حتى ساعة عن أذان المصريين والعرب”

ودع “الست” ملايين من عشاقها فى الشوارع فى جنازة مهيبة لم يناظرها فى هيبتها سوى جنازتى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والعندليب “عبد الحليم الحافظ”.