رحلت رائدة سينما المرأة.. “سيدة القصر” ترحل بغتةً ليغيب “وجه القمر”
وما الرحيل إلا لهؤلاء الذين عاشوا بلا تاريخ، بلا بصمة، بلا حب زرعوه في القلوب لينبت أشجارًا باقية عاتية ضد رياح الزمن .. عندما نسمع خبر رحيل واحدة من أعظم من أنجبت مصر لابد أن نشكر التاريخ الذي يبرق ببصمتها فهو ما سيخفف اَلم الفراق، يتعين وقتها العودة إلى تراثنا المحفوظ الخالد الذى عنونه اسمها كثيرًا بلون الذهب.
خرجت “فاتن حمامة” من غرفة الحياة وأغلقت الباب، وقد تركت 105 فيلمًا من أهم أفلام السينما المصرية والعربية.
الإعلام ينتفض حزنًا على فراق”فنانة القرن”
طالعتنا وسائل الإعلام أمس بخبر وفاة فنانة القرن” فاتن حمامة” لتعود عقارب الزمن للوراء تتلون الشاشات بلون الزمن الذى جاءتنا منه الأبيض والأسود وهى فى القلب من خلال أعظم ما قدمت من أفلام سينمائية لن تتكرر فى إبداعها مرة أخرى.
رحلت “فاتن حمامة” عن عمر يناهر 84 عامًا إثر وعكة صحية مفاجئة داخل منزلها، وعلى الرغم من أن الخبر تم تداوله لمدة ساعات ما بين تكذيب وتصديق حتى تأكد الخبر وبدأت الشاشات تفرد مساحات للحديث عنها وبعض القنوات فتحت المجال للمداخلات الهاتفية من الفنانين والجمهور لتوجيه كلمة للراحلة.
الخبر انتقل من نطاق الإعلام العربي لنطاق الإعلام الدولى، لتصفها وكالة “أسوشيتيد برس” الأمريكية بعامود السينما فى الشرق الأوسط كما علقت على وفاتها قائلة أن مصر فقدت “نجمة العصر الذهبي للسينما العربية”
كما نعت صحيفة “هافينجتون بوست” الأمريكية رحيل “فاتن حمامة” ووصفتها بأنها السيدة الأولى للسينما العربية، ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، تقريرًا عن مشوار “سيدة الشاشة” ووصفتها فيه بأيقونة السينما المصرية.
من جانبها، وصفتها صحيفة “ديلي ميل” البريطانية بالـ “أسطورة”، واهتمت الصحيفة بالإشارة إلى كونها الحب الوحيد في حياة النجم العالمي “عمر الشريف”.
لما أطلت علينا كان “يوم سعيد”
عرفت”فاتن حمامة” طريقها للسينما قبل أن تبلغ عامها العاشر حينما اختارها المخرج محمد كريم للقيام بدور أمام الفنان “محمد عبد الوهاب” في فيلم “يوم سعيد”
وأتى اختيار ” كريم” لها بعد أن رأى صورة لها فى مجلة “الاثنين” عقب اختيارها أجمل طفلة فى مسابقة نظمتها المجلة.
أرسل”كريم” مندوبًا عنها للطفلة ووالدها للتفاوض معهما بشأن خوض تجربة التمثيل أمام موسيقار الأجيال فرحب والدها ولم يعترض أبدًا وبدأت من ذلك الحين رحلتها الطويلة مع السينما.
سألها “محمد كريم”: إيه رأيك تيجي تمثلي في السينما
ردت بجرأة وبدون تردد : «أيوه»
بدأت الرحلة ولا تدرى من فيهما نادى الاَخر.. السينما وفاتن حمامة
بعد 4 سنوات، وتحديدًا فى عام 1944 طلبها المخرج “محمد كريم” لمشاركة الفنان محمد عبد الوهاب مرة أخرى في فيلم “رصاصة في القلب”.
بعد ذلك الفيلم قدمت فيلمًا باسم”دنيا” مع راقية إبراهيم وأحمد سالم وسليمان نجيب ويعد هذا الفيلم الإنطلاقة الحقيقية لها فى عالم السينما، وعندها استشعر الفنان الكبير “يوسف وهبي” مدى ثقل موهبتها، فعرض عليها تمثيل دور ابنته في فيلم “ملاك الرحمة” وكان هذا الفيلم بداية إهتمام الوسط الفنى بها على نطاق أوسع، ومدخل لترديد اسمها خاصة على مستوى المخرجين، ومع صعودها الدرج، قررت الدراسة بالمعهد العالي للسينما لتبدأ دراستها به عام 1946.
بعد فيلم “دنيا” شاركت مرة أخرى الفنان يوسف وهبي في فيلم “كرسي الاعتراف” ثم قدمت مع المخرج حسن الإمام فيلم “اليتيمتين” ويقال أن هذا الفيلم دفع جمهوره للبكاء الحار بالسينمات وقت عرضه، كما قدمت فيلم “ست البيت” مع عماد حمدى وكان من تأليف أبو السعود الأبيارى فى ثانى تعامل بينه وبينها بعد “اليتيمتين”، وعرضت هذه الأفلام الثلاث خلال عام واحد وهو عام 1949 الذى يعد “عام الحظ لفاتن الصغيرة”، إذ أن هذه الأفلام حققت نجاحًا على الصعيد التجاري وشهدت السينما مولد نجمة جديدة بين نجمات الشباك.
بين واقعية صلاح أبو سيف وعبقرية يوسف شاهين
المخرج “صلاح أبو سيف” هو رائد السينما الواقعية في العالم العربي بدون منافس، وكانت فترة الخمسينات تزخر بأعماله المختلفة المذاق، وكان لفاتن حمامة حضور عميق الأثر في سينما “صلاح أبو سيف” بدأ مع فيلم ” لك يوم يا ظالم” عام 1952 والذي شارك في مهرجان كان السينمائي كما قدمت معه فيلماً من أهم الأفلام فى تاريخها وتاريخ السينما وهو “لا أنام” عام 1957 وعلى الرغم من فشله على الصعيد التجاري إلا أنه بقي أحد علامات السينما المصرية، وقدمت معه أيضًا فيلم “لا تطفئ الشمس”.
ورغم أهمية مرحلة صلاح أبو سيف فى مشوار فاتنة الشاشة، إلا أن يوسف شاهين كان له بصمة في تاريخها (لاينافسه فيها أحد)، فقدمت معه أول أفلامه “بابا أمين” عام 1950 وشاركها بطولته كمال الشناوى وحسين رياض ومارى منيب وبعده بعام اختارها لفيلم “ابن النيل” أمام شكرى سرحان.
كما قدمت مع “شاهين” أحد أشهر وأجمل أفلام السينما العربية “صراع فى الوادى” عام 1954 الذى نافس ضمن مسابقات مهرجان كان، بالإضافة إلى فيلم “صراع فى الميناء” الذى أنتج بعد عامين من “صراع فى الوادى”،وكليهما كان أمام الممثل العالمى “عمر الشريف” الذى كان وقتذاك يتحسس خطواته الأولى فى عالم السينما، وهنا يتبين لنا أن”يوسف شاهين” لم يكن فقط ذا أثر عميق فى مشوارها الفنى لكن أيضًا كان له أثر بالغ الأهمية في حياتها العاطفية إذ أنه كان من اختار “عمر الشريف” للتمثيل أمامها فى فيلم “صراع في الوادى ” الذى انطلقت منه أشهر قصة حب في تاريخ السينما بينها وبين عمر الشريف.
“الفن يماثل الحب فى كونه غير قابل للتفسير”
رابندراناث طاغور
رائدة سينما المرأة
كان تنميط المرأة فى السينما خلال النصف الأول من القرن الماضى أمرًا شائعًا، اقتصرت الأدوار النسائية على أدوار الفتاة أو السيدة الأرستقراطية والفتاة الشقية المرحة أو الفتاة المغلوب على أمرها أو الشابة الباحثة عن الحبيب والزواج وكأن الزواج دون غيره هو المبتغى وطبعًا النساء الساقطات، إلا أنه فى حيز ضيق جدًا كان هناك من يرفعن لواء “المشكلة والبحث عن حلها” وتصدرت هذا المنحى”فاتن حمامة”، بل أن سينما المرأة يرجع كثيرون الفضل لها في إثرائها.
وبين الأفلام التي سلكت فيها هذا الطريق، “دعاء الكروان” الذي تعرض لقضية جرائم الشرف وفيلم “الحرام” الذي يعد أول الأفلام التي اقتحمت واقع عمال التراحيل بالريف وكيف يمكن أن تدفع الفلاحة ثمن الاغتصاب وحدها دون أن تفصح عنه خوفًا من العار على الرغم من أنها الضحية {وكانت “حمامة” قد أعلنت فى أكثر من لقاء صحافي أن هذين الفيلمين هما أكثر ما تفضل بين أفلامها}
والفيلم الباقى فى ذاكرة المئات وربما الاَلاف من النساء اللواتى عانين ذات المعاناة التى عبرت عنها بأصدق المشاعر والأقوال، فيلم ” أريد حلاً” الذى تعرض لقضايا الطلاق فى المحاكم التى يضيع معها العمر ويُفقَد معها الحق فى الحياة.
وعن أزمة الزيادة السكانية وتحديد النسل، قدمت فيلم “أفواه وأرانب” ومن خلاله أيضًا نقلت صورة واقعية لمعاناة المرأة مع الفقر وكيف يمكن أن تُجبَر على الزواج بسبب الحاجة للمال.
كما قدمت في “الخيط الرفيع” إشكالية إزدواجية المجتمع الذكورى فى معايير تقييمه للمرأة والرجل لنراها تدفع ثمن كونها أنثى لا يحق لها أن تختار طمس الماضى والبداية مرة، وتظل فى نظر الرجل أقل بكثير من ترتقى لمنزلة “الزوجة” على الرغم من أن الرجل لا يُحاسب على ماضيه وغير مطالب بطمسه بل على العكس هو فخره.
فى فيلم “إمبراطوية ميم” قدمت لنا نموذج الأم الأرملة التى تتحمل مسؤولية 6 أبناء تقع في الحيرة بين خياري الحب والأبناء لتختار فى النهاية الحب الأبقى مع أبنائها وتضحي بقصة حبها.
وغير تلك الأعمال، كانت في شتى ما قدمت نموذجًا واقعيًا للمرأة المصرية دون أي ابتذال لم تستسلم للتنميط المعهود، بنت جسرًا بينها وبين التقليدية، كسرت أسوار المسكوت عنه فى قضايا المرأة، لتبقى أول ما يرد للذهن كلما ربطنا بين السينما والمرأة.
وأخيرًا حتى لو رحلت “سيدة الشاشة”، هي باقية بتاريخ لن يمحى مهما مر من الزمن وحاضرة في القلوب بمكان حجزته ليس لأحد غيرها، وعصية على النسيان باسمها المحفور في الذاكرة.