تأخر تشخيص الإناث باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه (ADHD).. ما علاقته بالأدوار الجندرية والتنشئة الاجتماعية؟
عندما أدرجت الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين في الثمانينيات اضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه (ADHD) في الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM)، ثم أدخلته منظمة الصحة العالميـة في التسعينيات إلى التصنيف الدولي للأمراض (ICD)، بدا تعريف المرض قاصرًا على الأطفال الذين يتسمون بكثرة الحركة والاندفاع والعدوانية ويتجنبون باستمرار المهام التي تتطلب تركيزًا ذهنيًا لبعض الوقت، ومنذ ذلك الحين ظلت هذه المعايير التشخيصية أكثر بروزًا بين الذكور عن الإناث خاصةً في مرحلتي الطفولة والمراهقة، وتقول باتريشيا كوين، الباحثة في تأثير اضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه على حياة النساء والفتيات، إن الذكور حتى وقت قريب كانوا يتلقون تشخيص الإصابة بالاضطراب أكثر من الإناث بمعدل عشرة أضعاف.
علاوة على ذلك، يأتي تشخيص غالبية الإناث المصابات باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه في مرحلة عمرية متأخرة مقارنةً بالذكور مما يحرمهنّ من التعامل الدوائي المبكر، وتكشف مجموعة من الدراسات أن النسبة العالمية للأطفال الذين يتم تشخيصهم بالإصابة بالاضطراب مقابل الطفلات هي ۳ إلى ۱، بينما تكاد تتساوى النسبة فيما بعد مرحلة البلوغ، وقد توصلت دراسة نشرتها دورية ذا لانسيت الطبية (The Lancet) إلى أن احتمالية تلقي الإناث للتشخيص باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه في مرحلة الطفولة أقل بكثير من الذكور، ولذلك يقضين مرحلة أو مرحلتين من العمر من دون علاج دوائي مما يزيد من معاناتهن ويعمّق شعورهن بالشك في قدراتهن، إذ تؤكد الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين أنه في حال عدم التشخيص بالاضطراب رغم الإصابة به، تشعر الفتيات بأنهن مختلفات عن الأخريات والآخرين وأقل ذكاءً من غيرهم وأكثر كسلًا ممن حولهم، فيمارسن لوم النفس في كل مرة لا يستطعن فيها تحقيق النجاح المتوقع منهن لا سيما في الدراسة.
يمتد التمييز الجندري إلى تلقي العلاج الدوائي، إذ يبين ما يزيد عن عشرين بحثًا أن واحدة من كل أربع مراهقات مصابات باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه يتلقين وصفات دوائية مقارنة بنحو ثلاثة من كل أربعة ذكور في سن المراهقة.
هذه الفجوة الجندرية في التشخيص والعلاج باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه هي امتداد لإشكاليات كثيرة في التشخيص السريري عمومًا الذي يعتمد على بحث متحيز جندريًا على مدى التاريخين القديم والحديث، فيه الذكر هو المريض النموذجي لدراسة الحالة فسيولوجيًا وسيكولوجيًا وتعيين الأعراض وكشف الأمراض وتحديد مدى نجاعة علاجاتها، ومثلما كانت أعراض النوبات القلبية وأمراض المناعة الذاتية التي اجتمع عليها الأطباء لزمن طويل سببًا رئيسًا في حرمان نساء كثر من التشخيص المبكر والصحيح، فإن الأعراض الخاصة باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه التي توافق عليها الباحثات والباحثون وعمموها على كلا الجنسين، أفقدت العديد من النساء فرصة التشخيص المبكر وجعلت بعضهن يعشنّ حيواتهن كاملة من دون أن يعرفنّ أنهن مصابات به لأن تشخيص الإصابة بات مقرونًا باستيفاء المعايير التي تم تعيينها بمعزل عن البُعد الاجتماعي والسياق الثقافي وفي إطار يتجاهل الطبيعة البيولوجية للجسم الأنثوي.
إلقاء اللوم على «التستوستيرون» لتبرير الفجوة الجندرية في التشخيص
حاولت بعض الدراسات الربط بين شيوع الإصابة باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه بين الذكور بالكروموسومات والهرمونات، وتحديدًا هرمون التستوستيرون، استنادًا إلى الفكرة الشائعة عن ارتباط الهرمون الذكري بالتوتر والعدوانية والنشاط الزائد، وهو افتراض نمطي تقدح فيه العديد من الأبحاث العلمية، غير أن هذه الدراسات لم تتوصل إلى نتائج حاسمة بشأن علاقة التستوستيرون باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه، خاصةً مع وجود دراسات أخرى ترجح وجود تأثير أكبر لهرمون الإستروجين على الإناث المصابات باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه من تأثيره على غير المصابات به، فضلًا عن تتابع الأبحاث التي تجلي وجود آلاف المتغيرات في الجينوم الجسدي التي تتسبب في هذا الاضطراب الذي لا يمكن إرجاع الإصابة به إلى الهرمونات فقط.
تشير أخصائية علم النفس السريري الأمريكية إلين ليتمان إلى أن البيانات المتوفرة بشأن اضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه توضح أن الجنسين يعانيان من نمط الأعراض نفسه، والصعوبات الدراسية ذاتها، والأمراض المصاحبة نفسها، كما أن كلا الجنسين يستجيبان إلى الأدوية بالفعالية ذاتها، إلا أن ذلك لا يمثل الصورة الكاملة لأن النساء المصابات بهذا الاضطراب يعانين من عبء إضافي يتجسد في الأدوار والتوقعات الاجتماعية المُصنّفة حسب الجنس التي عادةً ما تقيد سلوكياتهن وتحجّم طرق تعبيرهن عن مشاعرهن، إلى جانب ميلهن أكثر نحو الشك في الذات، وتأثرهن بالتقلبات الهرمونية الشهرية على حد تعبيرها.
![]()
«أنا المشكلة ذاتها»: لوم النفس والاستسلام إلى الأمر الواقع
تجد كثير من النساء أن الامتثال إلى الأدوار والتوقعات الجندرية هو السبيل إلى القبول الاجتماعي، وتتطلب هذه التوقعات التقيد بنمط شخصية محدد يعتمد في تعزيزه على الوظائف التنفيذية للدماغ التي تشتمل على مجموعة مهارات عقلية تدعم القدرة على تجاهل المشتتات، والتحكم في الاندفاعات، وإدارة ردود الفعل، والتكيف مع الظروف المحيطة، والاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها لتطبيقها عمليًا.
تبدأ في مرحلة الطفولة عملية ضبط سلوك الإناث وتوجيههن نحو التنظيم وحسن الإصغاء واتباع التعليمات بدقة والسيطرة على الغضب الذي لا يزال التعبير عنه بأريحية من خواص الذكور، وبحسب إلين ليتمان أخصائية علم النفس السريري، فإن الإناث المصابات باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه يسعين مثل غيرهن إلى تلبية توقعات المجتمع إلا أنهن يجد صعوبة في ذلك بسبب بعض القصور في الوظائف التنفيذية للدماغ، فيقعن أسرى الشعور باليأس والفشل ويقنعن بأنهن غير مستحقات للدعم لأن المشكلة تكمن فيهن. كما تشدد إلين ليتمان على أن المصابات بالاضطراب أكثر عرضة من الذكور إلى إلقاء اللوم على أنفسهن عند مواجهة الصعوبات، وهن أيضًا أكثر عرضة للمعاناة من تدني احترام الذات والشعور بالخجل من أنفسهن، والمبالغة في ضبط النفس مع الإخفاق المتكرر.
في المنحى ذاته، تؤكد الباحثتان ميرا هولث وإيفا لانغفيك أن التوقعات الاجتماعية المرتبطة بجنس الفرد تلعب دورًا مهمًا في كيفية إدراك المصابات والمصابين باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه لأنفسهن/م، حيث تتطلب الأدوار الجندرية السائدة أن تُظهِر الفتيات سلوكيات وسمات مصنّفة مسبقًا كونها أنثوية، كالتعامل الجيد مع الآخرين، والتنظيم، والطاعة. أما إذا أظهرن سلوكيات مختلفة عن تلك وتتوافق كذلك مع أعراض اضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه كالاندفاع، والنشاط الزائد، وعدم التنظيم، يكن في مواجهة مستمرة مع الأحكام الاجتماعية السلبية، ومن ثم تحاول العديد منهن تجنب العقاب المجتمعي عن طريق تحمل مشقة إخفاء أعراض الاضطراب وبذل مجهود أكبر لقمعها.
بعض الأبحاث ترجح استجابة مختلفة، إذ تعتقد جوليا روكليدج، أستاذة علم النفس في جامعة كانتربري في نيوزيلندا، أن المصابات باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه ممن لا يتلقين التشخيص يكن أقل إقدامًا على بذل الجهد لإنجاز المهام الصعبة نتيجة شعورهن بالعجز عن تحقيق ما هو مرجو منهن، وهو ما تعتبره جوليا روكليدج السبب في زيادة نسبة الاكتئاب بين المصابات بالاضطراب وخضوعهن إلى العلاج النفسي في فترات مختلفة من حيواتهن.
تؤكد الرؤيتان رغم اختلافهما حقيقة واحدة وهي أن النساء المصابات باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه يعانين بشدة في مرحلتي الطفولة والمراهقة وفي بعض الأحيان تضاف إليهما مرحلة الشباب المبكر، إذ تدفع النساء ثمنًا هائلًا على مستوى الصحة النفسية والعصبية لسببين أساسيين؛ أولهما هو التوقعات الجندرية التي ترغمهن على التعامل مع الأعراض بوصفها انحراف فردي ومشكلة ذاتية يقع عليهن عبء التحكم فيها كاملًا حتى لا يتعرضن للإيذاء المعنوي أو المادي، وثانيهما هو التشخيص الطبي الذي يُهمِل المؤثرات المجتمعية في تحليله للأعراض الدالة على الإصابة بالاضطراب.
اتصالًا بذلك، توضح كاثلين نادو أخصائية علم النفس ومديرة مركز تشيسابيك للمصابات/ين باضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه الأمريكي أن تشخيص النساء بالاضطراب غالبًا لا يأتي إلا في أواخر الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات من العمر، لأن أكثر الطرق شيوعًا لتشخيص إصابة المرأة بهذا الاضطراب هو تشخيص أحد أبنائها، إذ تبدأ الأم حينها في البحث عن المرض وعلاماته، فتكتشف أن ثمة سمات مشتركة بينها وبين الابنة أو الابن المصابين بالاضطراب.
أصوات النساء الباحثات والمصابات تقود إلى إعادة تعريف الـADHD
اللافت في كثير من الأبحاث والدراسات التي اهتمت بفحص مسألة الفجوة الجندرية في تشخيص اضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه هو أن من يقف وراءها كن نساء، وأن معظم من تصدّروا البحث في فرضية وجود علاقة بين التنشئة الأسرية والاجتماعية وطرق تعبير المصابات بالاضطراب عن أنفسهن كن أيضًا نساء، ولعل أبحاثهنّ هي أحد الأسباب الرئيسة في إعادة النظر في تعريف الاضطراب نفسه، ومن هؤلاء أستاذة علم النفس الكندية جوليا روكليدج التي لاحظت أن اضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه يظهر على نحو مختلف لدى الإناث عن الذكور نتيجة التنشئة الاجتماعية التي يتلقينها.
أسفرت مراعاة المؤثرات المجتمعية والأدوار الجندرية في دراسة أعراض اضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه عن توسيع قائمة الأعراض، والتوصل إلى علامات إضافية تدل على إصابة الإناث بهذا الاضطراب مثل الشرود الذهني المتكرر المصاحب للأرق، واضطرابات الأكل، وتكرار سلوكيات معينة مثل شد الشعر ونتف الجلد وقضم الأظافر أو تقشير الجلد المحيط بالأظافر، والدخول في نوبات بكاء شديدة عند الانفعال أو الشعور بالغضب، والرهاب الاجتماعي، بالإضافة إلى السعي المستمر إلى الكمال مما يتسبب في ارتفاع مستوى القلق لديهن وسيطرة الشعور بالذنب عليهن.
من ناحية أخرى، فقد ساهمت التغطيات الإعلامية والأعمال الدرامية التي تعرضت إلى الاضطراب وكذلك تطبيقات التواصل الاجتماعي في زيادة الوعي به، لا سيما بعد توسيع التعريف ومراجعة معايير التشخيص، وقد بينت دراسة أجرتها مؤسسة (YouGov) أن عمليات البحث عبر الإنترنت عن مصطلح (ADHD) زادت على نحو ملحوظ في تسع عشرة دولة من أصل عشرين بين العامين ۲۰۱٩ و۲۰۲۳.
بالتوازي مع ذلك، سجلت العديد من الدول زيادة في التشخيص بالاضطراب بين النساء في خلال العقد الأخير، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تزداد فيها معدلات التشخيص والوصف الدوائي لاضطراب فرط النشاط وتشتت الانتباه بين النساء الأمريكيات في الفئة العمرية بين ۱۵ و٤٤ عامًا وفقًا لبيانات مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، ورغم أن المركز لم يقيّم الأسباب المحتملة لهذه الزيادة إلا أن بعض الباحثات والباحثين يعزون الأمر إلى التغيير الكبير الذي طرأ على الفهم العام للاضطراب منذ بداية العقد الثاني للألفية الثالثة.
*الصورة الرئيسة حاصلة رخصة الاستخدام من موقع Pixabay



by