تُذكِّرها دقات ساعة الحائط أن موعد رحلتها الطويلة قد اقترب، وأمامها الآن نصف ساعة أو أكثر قليلًا للاستعداد قبل التوجه إلى المطار. تُخرِج الملابس ومكواة الشعر من الخزانة، ثم تتجه نحو المرآة لتضع كريم الأساس كي تبدو بشرتها موحدة اللون وخالية من التصبغات. بعد أن تنتهي، تُوقِدُ مكواة الشعر وتنتظر بضع ثوانٍ حتى تبلغ درجة الحرارة التي تمكّنها من إخفاء تموجات شعرها وجعله منسابًا، لتثبته فيما بعد على شكل كعكة باستخدام دبابيس الشعر. ستشعر بالتأكيد بثقلٍ أعلى رأسها وسيلازمها ألم الصداع بعد وقت قصير، لكنها لا تستطيع أن تترك شعرها الطويل ينسدل، فالقواعد لا تسمح بذلك وهذه معايير المظهر التي تقرها شركة الطيران التي تعمل بها ضمن طاقم الضيافة الجوية.

بعد تصفيف شعرها، تلتقط أحمر الشفاه ذا الدرجة المحددة في دليل المظهر الخاص بالشركة لتلوّن به شفاها. وأخيرًا بعد أن تفرغ من ارتداء الزي الرسمي المكوّن من قميص وسترة وتنورة يصل طولها حتى الركبة، ترتدي حذاءً ذا كعب متوسط ثم تضع في حقيبتها حذاءً آخر كعبه أقصر قليلًا، ففي بعض الأحيان يوافق مراقب أو مراقبة الطائرة أن ترتدي المضيفات أحذيةً ذات كعب قصيـر بحلول منتصف الرحلة لتخفيف الألم الذي يصيب أقدامهن بعد ساعات من الحركة المستمرة بينما يرتدين أحذيةً ذات كعب متوسط أو عال.

هذه القواعد لا تعد فقط نموذجًا للمظهر الرسمي أو الأزياء الموحدة التي تختارها أماكن العمل للتسويق لعلاماتها التجارية، بل هي شروط ضبط صارمة لأجسام العاملات بالضيافة الجوية، تصوغها شركات الطيران لخدمة أغراضها الاستعراضية والتسويقية التي تتعامل مع الحضور الجسدي الأنثوي باعتباره عامل جذب رئيس لــ«المستهلك»، وهو التصور الذي لازم هذه الوظيفة على مدى تسعة عقود بعد أن حوّلتها شركات الطيران التجاري الغربية من وظيفة يحتكرها رجل الطبقة الوسطى البيضاء إلى عمل نسائي تضطلع به فئة معينة من النساء.

وبيد أن هذه المعايير تتباين بدرجة ما من شركة طيران إلى أخرى، فإن النسق العام لشروط العمل بالضيافة على الطائرات التجارية خاصة بالنسبة للنساء -اللاتي يمثلن النسبة الأكبر من أطقم الضيافة في شتى شركات الطيران حول العالم- يعكس تشبعًا بالقناعات النيوليبرالية والذكورية التي تتمثل في تسليع العاملات بالضيافة الجوية وإخضاع أجسامهن لمعايير الجمال التي شكلتها المركزية الأوروبية. كما يسهم هذا النسق أيضًا في التكريس إلى أن خدمات الضيافة هي مهمة أنثوية بالدرجة الأولى، ارتكازًا إلى التمثلات النمطية التي تعمّق لدى المضيفات أنفسهن تصورًا ذاتيًا بأنهن معروضات تابعة لشركة الطيران، وتدجنهن بأفكار تُقرِن عملهن بالطاعة والمطاوعة.

تصميم نموذج «مضيـفة الطيران»: يجتمع فيها صورتا المرأة المفضلتين للرجل الأبيض

خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم تكن الضيافة في الطيران التجاري وظيفة محايدة جندريًا، وإنما صممت شركات الطيران قالبًا أنثويًا لهذا العمل، وقدمت صورة للمضيفة باعتبارها رمزًا للأناقة والجاذبية التي تختص بها المرأة، البيضاء، الشابة، ممشوقة القوام، مما ساهم على مدى عقود في الترسيخ إلى أفضلية ملامح العرق الأبيض لا سيما إذا كانت الأنثى من يتمتع بها.

حددت العديد من شركات الطيران الكبرى على غرار يونايتد آير لاينز الأمريكية (United Airlines) والخطوط الأمريكية (American Airlines)، وشركة الطيران الفرنسية الوطنية (Air France) وشركة الخطوط الجوية البريطانية لما وراء البحار ( (British Oversees Airways حزمة من المواصفات لمن يحق لهن شغل وظيفة المضيفة الجوية، وعلى رأسها لون البشرة الفاتح، والجسم النحيل، والشعر القصير، بالإضافة إلى الامتناع عن الزواج والإنجاب خلال فترة التعاقد، علمًا بأن هذه الشركات لم تكن تسمح بتوظيف النساء اللاتي يستوفين شروط لون البشرة والوزن والطول إذا كانت أعمارهن تتجاوز ۳۲ – ۳۵ سنة أو في حال تبين للشركة أنهن متزوجات.

علاوة على ذلك، مارست الكثير من شركات الطيران، ليس في دول أمريكا الشمالية وأوروبا فحسب، ولكن أيضًا في العديد من دول جزر المحيط الهادئ وقارة آسيا ومنطقة شمال إفريقيا، استبعادًا منهجيًا بحق صاحبات البشرة الداكنة، مردّه الأيديولوجيا الذكورية والعنصرية التي شكلت البنية الثقافية الأساسية لمفهوم وظيفة الضيافة الجوية.

التحيزات العرقيـة لم تكن في معظم الوقت مُعلنة، وإنما كانت معروفة ومتفق عليها خلف الأبواب المغلقة، عدا في حالة شركات الطيران الأمريكية التي كانت صريحة في موقفها العنصري حتى نهاية الخمسينيات، إذ كان معلومًا من دون مواربة أن النساء السوداوات لا مكان لهن بين أطقم الضيافة الجوية على خطوط الطيران الأمريكية وفي مقدمتها: الخطوط المتحدة (United Airlines) والخطوط الأمريكية (American Airlines) وخطوط بان أمريكان العالمية (Pan American World Airways) وخطوط ترانس وورلد (Trans World Airlines). وقد استمر استبعاد النساء الملونات عمومًا والسوداوات خصوصًا من العمل بالضيافة الجوية حتى العام ۱٩۵٧، الذي تقدمت فيه روث كارول تايلور الممرضة الأمريكية من أصول إفريقية بشكوى رسمية ضد خطوط ترانس وورلد أمام لجنة ولاية نيويورك لمناهضة التمييز (NYSCAD) على خلفية امتناع الشركة عن تعيينها كمضيفة طيران كونها امرأة سوداء.

أضحت روث كارول تايلور بعد شهور قليلة من الواقعة أول مضيفة طيران سوداء في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد تعيينها في شركة الطيران الإقليمية خطوط موهاك (Mohawk Airlines)، إلا أن فترة عملها لم تتجاوز الستة أشهر بسبب اتخاذها قرار الزواج الذي كان وقتئذٍ ضمن العوامل المسببة لفسخ التعاقد مع المضيفات اللاتي عمدت الشركات في إعلاناتها إلى تصويرهن كنساء متاحات للركاب الرجال.

كانت شركات الطيران واضحة بشأن تأنيث وظيفة الضيافة الجوية من خلال اللغة المستخدمة في إعلانات التوظيف، والعناصر النصية والبصرية في الإعلانات والمقاطع الدعائية التي تمحورت حول ثنائية السلعة والمستهلك التي خندقت مضيفة الطيران في الخانة الأولى وأولفتها بطابع جنسي، بينما اختصرت الركاب في مستهلك ذكر، ما ينفقه من مال يمنحه أحقية في الخدمات بكل أنواعها.

يتجلى التقاطع بين التحيزات المبنية على أساس العرق والجنس وكذلك السن في الشروط الجسمانية والعمرية التي صارت شبه موحدة في الطيران التجاري الدولي مع منتصف الثلاثينيات، وقد لعبت الصحافة المطبوعة دورًا جوهريًا في إرساء ثقافة قبول وتقبّل إزاء هذه الشروط، من خلال الترويج إلى أن الضيافة الجوية ليست مجرد وظيفة، بل هي امتياز تستحقه فئة محددة من النساء.

في أحد أعداد جريدة نيويورك تايمز المنشورة في العام ۱٩۳٦، تعدد إحدى القصاصات المواصفات الجسديــة التي تُمكّن صاحبتها من نيل امتياز العمل كمضيفة جوية، ومن بينها الوزن بين ۱۰۰ إلى ۱۱٨ رطلًا (٤۵ إلى ۵۳ كيلوجرامًا)، والطول بين خمسة أقدام إلى خمسة أقدام وأربع بوصات (۱۵۲ إلى ۱٦٤ سنتيمترًا). كما تشير القصاصة إلى أن المضيفة الجوية ينبغي أن يكون عمرها بين ۲۰ و۲٦ عامًا، وعليها أن تتوقع الخضوع إلى فحص بدني أربع مرات خلال العام.

التشابك بين التحيزات الجندرية والعرقية والعُمرية توثقه أيضًا الإعلانات التي اشتملت على صور لنساء بيضاوات، شقراوات، ذوات قوام ممشوق، كنموذج لمضيفات الطيران اللاتي تريد الشركات الكبرى حول العالم ضمهن إلى طواقمها، ومن بين هذه الشركات كانت الخطوط الجوية الكندية الباسيفيكية (Canadian Pacific Air Lines) التي تأسست في العام ۱٩٤۲، وكانت تدرج ضمن برنامجها التدريبي للملتحقات حديثًا بأطقم الضيافة قسمًا لتعريفهن إلى درجات وأنواع مساحيق التجميل التي يجب أن يستعملنها أثناء عملهن، بما فيها كحل العين والماسكارا. كما تضمنت عقود الخطوط الجوية الكندية الباسيفيكية بنودًا تنص على التقاعد الإلزامي عند إتمام المضيفة سن الثلاثين، وتعتبر الزواج مسوغًا للفصل من العمل. بالإضافة إلى ذلك، كان الوقوف على الميزان قبل الصعود إلى الطائرة وجوبيًا للتأكد من الالتزام بالوزن المحدد بين ۵۰ إلى ۵۲ كيلو جرام، وفي حال خرج الوزن عن هذا الحيز يجري استبعاد المضيفة من الرحلة من دون تعويض مادي.

اعتبرت شركات الطيران جاذبية الجسم الأنثوي وفقًا للصورة المنطبعة في العقل الذكوري معيارًا أساسيًا في تحديد أهلية النساء للعمل كمضيفات، بما يخدم ويشبع تحديقة الرجل الجالس على مقعد الطائرة. وفي تصريحات سابقة لوكالة الأنباء الكندية، تكشف سينيكا دوكوفيتش، التي عملت كمضيفة جوية في فترة الستينيات والسبعينيات لدى شركة آير كندا، الشركة الأكبر في البلاد والناقل الوطني لها، أن لجنة الاختبار في المقابلة الأولى التي أجرتها لشغل الوظيفة طلبت منها أن ترتدي تنورة ثم تستدير بجسمها، في موقف وصفته بأولى تجاربها المباشرة مع التحيز الجنسي.

العنف الجنسي.. وباء يستوطن السماء

التسليع الجنسي للعاملات بالضيافة الجوية يتمثل بوضوح في أحد الإعلانات المطبوعة لشركة يونايتد آير لاينز، كانت قد أصدرته في العام ۱٩٦٧، ويظهر أعلاه صورة لمضيفة طيران شقراء ترحب بركاب الطائرة، وجميعهم من فئة رجال الأعمال الذين يبدون في أعمار تتجاوز الخمسين، بينما يظهر في أسفل الصورة النص التالي: «كل مضيفة طيران في يونايتد تعرف وجه ليلة الجمعة بمجرد أن تراه. إنه وجه رجل أعمال منهك قضى أسبوعًا شاقًا ويريد العودة إلى الديار. ربما يريد أن يتحدث وربما لا يريد. سنطعمه جيدًا؛ مشروبه المفضل، شريحة لحم ساخنة أو إستاكوزا مشوية، وربما دجاج الكورنيش…»، ويضيف الإعلان فقرة تشير إلى أن ثمة رعاية إضافية تقدمها مضيفة الطيران، تختلف من راكب إلى آخر، إلا أن جميع الركاب سيحصلون عليها، وهي لغة تغازل المخيال الذكوري الذي يقرن المرأة بالغواية، عن طريق استثارة أذهانهم لتصور أشكالًا أخرى من «خدمات الرعاية» تقوم بها مضيفة الطيران تتجاوز تقديم الوجبات والمشروبات.

في واقع الأمر، كان لمثل هذه الإشارات الضمنية المكثفة تأثيرها التراكمي والمركب في إذكاء شعور لدى الركاب وكذلك الطيارين ومساعديهم باستحقاق أجسام العاملات بالضيافة الجوية، ويتمظهر هذا الشعور في العنف الجنسي المستمر والمتكرر ضدهن، والذي تسجل شركات الطيران فشلًا ذريعًا في التعامل مع حوادثه، كما هي الحال على سبيل المثال في شركة آير فرانس (Air France)، التي كشف تقرير نشرته صحيفة ميديا بارت الفرنسية (Mediapart) في العام ۲۰۲۰، أن المضيفات بالشركة يعتقدن في انتشار ثقافة العنف الجنسي على نطاق واسع داخلها، وصرحت إحداهن للصحيفة بأن الرؤساء والأفراد المسؤولين عن طواقم الضيافة لا يتدخلون بأي شكل عندما يرون مشاهد التحرش الجنسي بل يتركونها تمر. وقد عبرت المضيفات، اللاتي أخفت الصحيفة هوياتهن، عن تخوفهن من أن يؤدي تقديم شكاوى رسمية إلى الشركة بخصوص هذه الحوادث إلى عدم تجديد التعاقد معهن.

قبل نشر هذا التقرير بعامين، نشرت رابطة مضيفات الطيران الأمريكية (AFA) نتائج استطلاع أجرته بشأن التحرش الجنسي بالمضيفات الجويات في ۲٩ شركة طيران أمريكية، وقد بينت النتائج أن ۳۵ في المئة من المضيفات تعرضن للتحرش الجنسي اللفظي من الركاب خلال العام ۲۰۱٧، وأكثر من ثلث هؤلاء المضيفات واجهن التحرش اللفظي على الأقل ثلاث مرات خلال العام ذاته، بينما تعرض ۱٨ في المئة ممن شاركن في الاستطلاع إلى التحرش الجنسي الجسدي من الركاب، وشملت حوادثه اللمس غير المرغوب فيه، وتحسس أجسامهن، ومحاصرتهن في زاوية بالطائرة للانفراد بهن.

ورغم ارتفاع المعدلات فإن سبعةً في المئة فقط ممن تعرضن لهذه الحوادث هن اللائي تقدمن بشكايات رسمية للإدارات. وتتسق هذه النسبة مع ما يكشفه الاستطلاع من قناعة لدى ما يقرب من ثلثي المضيفات بأن شركات الطيران ليس لديها إرادة جادة تجاه حماية العاملات أو محاسبة الركاب عند ارتكاب هذه الجرائم.

وفي سياق نيوليبرالي بحت تبدو القناعة التي تتبناها المضيفات الجويات تجاه شركاتهن منطقية وواقعية، لأن شركات الطيران ترتكز في تعاملها مع العاملات بالضيافة الجوية إلى عقود العمل المؤقتة، أي أنهن بالنسبة لهذه المؤسسات قابلات للاستبدال في أي وقت، ولهذا تفضّل الإدارات إنهاء التعاقد أو الامتناع عن التجديد، على الإقرار بوقوع حوادث العنف الجنسي أو التحقيق فيها واتخاذ إجراءات ضد مرتكبيها، خاصةً إذا كان مرتكب الجرم من المسافرين على طائراتها، فأكثر ما يهم هذه الشركات هو الحفاظ على عملائها وضمان ولائهم الذي يعني استمرار الأرباح وربما مضاعفتها. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، تجنح العديد من شركات الطيران إلى تجاهل ما يرتكبه الركاب من تحرشات لفظية وجسدية بحق العاملات بالضيافة الجوية، بينما يلجأ بعضها إلى طمر شكاياتهن تجنبًا لخسارة العملاء الحاليين أو المحتملين.

** الصورة الرئيســـة مصممة باستخدام برنامج DEEP AI