في ۳٦ دولة على الأقل، معظمها في إفريقيا، لا يزال أناس كثر يتعرضون للاضطهاد بتهمة ممارسة السحر الأسود، وتشكل النساء الغالبية العظمى ممن يطاردهم هذا الاتهام وسط قبول وحصانة مجتمعية، عززهما تاريخ طويل من التحيز ضد النساء أو بالأحرى كراهية النساء، وعضدتهما الكنيسة الكاثوليكية إبان القرون الوسطى، ثم ازدادا رسوخًا مع تمدد الاستعمار الأوروبي حول العالم.

 كانت ولا تزال النساء هن المتهم الأبرز فيما يسمّى بجرائم ممارسة السحر الأسود

المجتمعات القبلية لا تزال تصوّر النساء اللاتي يتمردن على المقبول مجتمعيًا والأرامل واللاتي لم ينجبن مسكونات بالشر الذي يتجسد في فعل السحر

غانا.. الدولة الوحيدة في العالم التي يوجد فيها مخيمات للنساء الملاحقات بمزاعم «ممارسة السحر»

مطادرة الساحرات.. أكثر من ٦۰ ألف امرأة في أوروبا تعرضن للتعذيب والقتل يين القرنين الخامس والسابع عشر بدعوى التحالف مع الشيطان

التوزيع النمطي للمهن والأعمال على أساس النوع جعل النساء أكثر عرضة للاتهام بممارسة السحر الأسود

مقطع صورته عدسة هاتف نقال في نهار صيفي قائظ خلال شهر يوليو من العام ۲۰۲۰، يظهر امرأة طاعنة في السن تتعرض للضرب والجلد أمام تجمع بشري كبير، ولا أحد يتقدم لنجدتها أو تخليصها مما سيفضي إلى موتها الحتمي، بل يبدو الجميع متصالحًا مع ما يجري.

ينتشر المقطع على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، فيتبين أن الجريمة وقعت في منطقة السافانا في غانا، وأن المرأة التي تعرضت للتعذيب حتى الموت هي سيدة تسعينية تدعى أكوا دينتيه اتهمها بعض جيرانها بأنها “ساحرة” تمارس السحر الأسود لتضر بجيرانها، فداهم بعضهم منزلها ثم اقتادوها إلى ساحة في وسط القرية ليشهد الجميع على الجريمة التي تحدث من حين لآخر بحق نساء غانيات من دون أن يواجه فاعلوها عقابًا في معظم الأحيان، وإن وقع العقاب يكون هينًا مثلما حدث مع من قتلن/وا أكوا دينتيه.

تعيش في غانا حاليًا عشرات النساء منبوذات في مخيمات بعد أن لفظتهن عائلاتهن وقراهن، لا يمكن لهن أن يتنقّلن أو يعملن أو يحصلنّ على العلاج إذا مرضن، وكثيرات ينتهي بهن الحال في عزلة حتى الموت بعد أن التصق بهن الاتهام المفبرك بممارسة السحر الأسود الذي تقف وراءه نوايا وأهداف خبيثة قد تصل إلى التسبب في قتل من حولهن. لكن هؤلاء النساء لم يكن الاتهام بممارسة السحر سوى ذريعة للخلاص من وجودهن، إذ يلجأ بعض الرجال إلى الزعم بأن زوجاتهن يمارسن السحر ليحق لهم أمام القبيلة تطليقهن والاستيلاء على حقوقهن سواء كانت أموالًا أو أراض أو ماشية، بينما يستخدم بعض الذكور الاتهام بممارسة السحر كمسوّغ للاستحواذ على أموال أو ممتلكات النساء اللاتي تجمعهم بهن صلة قرابة.

على بعد ۲۰۰۰ كيلو متر، تواجه الاتهام ذاته آلاف النساء والفتيات في إفريقيا الوسطى، ولكن لا يتوقف الأمر عند النبذ واللجوء إلى المخيمات، وإنما تواجه المتهمات زورًا بممارسة السحر الأسود في إفريقيا الوسطى عقوبات الرجم والجلد أو الإجبار على تناول مواد سامة وأحيانًا تصل العقوبات الوحشية إلى إشعال النار في أجسامهن أمام جمع من الناس، وفي أقل الأحوال سوءًا يواجهن محاكمات رسمية تستند إلى القانون الوطني الذي يفرض عقوبتي الغرامة والسجن الذي قد يصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة على من يمارسون ما يسمّى بـ«السحر الأسود» الذي يزعم المروجون له أنه نوع من السحر يؤدي إلى إصابة الناس بأمراض يصعُب العلاج منها أو الموت مباشرة.

تؤكد دراسة صادرة عن مؤسسة مدافعات/ون بلا حدود في العام ۲۰۲۲ أنه على الرغم من إمكانية اتهام أي شخص بممارسة السحر في إفريقيا الوسطى، فإن هذه الاتهامات غالبًا ما تستهدف النساء لا سيما غير المتزوجات، والأرامل، والمطلقات، واللاتي لم ينجبن، ويزداد استهداف أولئك اللاتي تجاوزت أعمارهن الخمسين عامًا ويعشن بمفردهن والنساء الفقيرات اللاتي يصعب أن يدافعن عن أنفسهن خاصةً في ظل النظم القبلية التي ترتكز إلى بنية هرمية ذكورية عشائرية وطبقية. كما أن اتهام النساء بممارسة السحر برز كأداة عنف جندري متصل بالنزاع المسلح الذي عرفته البلاد بين العامين ۲۰۱۳ و۲۰۱٨.

ووفقًا للدراسة، فقد شكلت النساء المتهمات في جرائم السحر نحو ٦۰ في المئة من المحتجزات في سجن بيمبو للنساء الموجود في العاصمة بانغي فيما بين العامين ۲۰۲۱ و۲۰۲۲. فضلًا عن ذلك، لا تستطيع النساء المتهمات بممارسة السحر أن يعدن إلى مجتمعاتهن بعد انقضاء فترة العقوبة وإطلاق سراحهن بسبب المخاطر التي ستلاقيهن عند العودة وعلى رأسها ملاحقتهن بالتعذيب الجسدي من الجيران والأقارب، مما يحرمهن من الأمنين الاجتماعي والاقتصادي على مدى المتبقي في حيواتهن.

أما في الكونغو الديمقراطية، فيجد الأطفال والطفلات الذين تعرضوا للاغتصاب أو ولدِوا خارج إطار الزواج أنفسهم منبوذين في قراهم ويطاردهم الناس كبارًا وصغارًا بلقب «بنات/ أبناء الساحرات»، فضلًا عن توجيه اتهامات بالجملة للشابات اللاتي يتوفى أزواجهن أيًا أن كان سبب الوفاة، بزعم أنهن استخدمن السحر الأسود ليتخلصن من أزواجهن من أجل الميراث أو الاستيلاء على ممتلكاتهم سواء كانت مالًا أو ماشية أو أراضي زراعية. ويروج كذلك المجتمع المحيط بهن إلى أنهن شابات متمردات يردن العيش خارج سلطة الزوج ولذا عزمن على قتل أزواجهن باستعمال السحر الأسود، وكثيرًا ما تتعرض الشابات اللواتي يتحدين الأعراف الاجتماعية باستقلالهن عن أسرهن واتخاذ قراراتهن منفردات إلى الوصم بأنهن مسكونات بالشر وأن الشيطان يرافقهن في كل خطوة وفعل، ومن ثم فأي مرض أو موت أو حوادث تلحق بأفراد من عائلاتهن أو جيرانهن تجعلهن متهمات بممارسة السحر الشرير.

الوضع لا يختلف كثيرًا في الهند حيث تتغلب في مناطق عديدة المعتقدات والأعراف الاجتماعية على التشريع، إذ وقعت في العام ۲۰۱۳ وحده نحو ۱٦۰ جريمة قتل على خلفية مزاعم بممارسة السحر الأسود الذي يسبب المرض المزمن أو الموت، وكان أغلب الضحايا من النساء لا سيما المنتميات إلى الأقليات العرقية والطبقات الأقل دخلًا والمهمشة اقتصاديًا. ويرجع استهداف النساء في هذه الفئة إلى التحيز الجندري المتقاطع مع التحيزات الطبقية والعرقية التي تجعلهن في أدنى درجات الهرم الاجتماعي وأكثر تعرضًا للإيذاء الذي لا يعقبه محاسبة أو إنصاف.

وبيد أن الاتهام المزعوم بممارسة السحر لإفساد المجتمع والإضرار بالناس كان ولا يزال يطال الجنسين، إلا أن حالة التأنيث لازمت هذا الاتهام منذ زمن بعيد، وواحدة من أولى الحوادث الموثقة في هذا الصدد تعود إلى القرن الخامس الميلادي في الإسكندرية عندما زعم متشددون أن عالمة الفلك والفيلسوفة هيباتيا تمارس السحر لتبعد الناس عن المسيحية وتدفعهم نحو عبادة الشيطان، ليعطوا أنفسهم الحق في تعذيبها وقتلها حرقًا، وقد وقعت الجريمة بمباركة من الأساقفة والبطريرك الذين أغضبهم التفاف الطلاب حول هيباتيا والهالة التي أحاطها بها العلماء بسبب نبوغها وجسارتها في التعبير عن آرائها بما فيها موقفها المعادي للكنيسة المسيحية ورجالها، بالإضافة إلى رغبة البطريرك كيرلس السكندري في التخلص منها بطريقة أو بأخرى بعد أن رأى في تمردها المصحوب بتبجيل واسع تهديدًا لنفوذه ومكانته في الإسكندرية بوصفه الأب الذي لا تُرَد له كلمة أو قرار.

لكن الاتهام بممارسة السحر تحوّل إلى وسيلة قمع ممنهج ضد النساء مع بزوغ القرن الخامس عشر في أوروبا، التي شهدت سطوة استثنائية للبابوية وتناميًا في الخطاب الكاثوليكي المعادي للنساء بوصفهن مصدر الخطيئة والشر، ومن ثم كان من اليسير أن تبتدع الكنيسة حملات تفتيش تتعقب من أسمتهن بالنساء المتشيطنات اللاتي يتحالفن مع الشيطان ويمارسن السحر الأسود لتدمير العالم، وبات الاتهام بممارسة السحر وسيلة اضطهاد وقمع تواجهها النساء اللاتي لا يرضى أصحاب السلطة عن أقوالهن أو أفعالهن، وقد استخدمت الكنيسة اثنين من علماء اللاهوت ورجال الكنيسة ليساهما في خلق صورة جامعة للنساء باعتبارهن أقرب إلى أن يرتكبن أفعال السحر الأسود من الرجال من خلال كتاب حمل اسم «مطرقة الساحرات» صدر باللاتينية في العام ١٤٨٦حاملًا عنوان  (Malleus Maleficarum)، قبل أن تتم ترجمته إلى أكثر من عشر لغات لاحقًا.

في الكتاب، يدّعى رجلا الكنيسة يعقوب شبرنجر وهينرش كريمر أن النساء قابلات لإغواء الشيطان أكثر من الرجال لكونهنّ مخلوقات فاسدة، وتشديدًا على هذه الفكرة يزعم شيرنجر وكريمر أن كلمة أنثى في اللاتينية (Femina) هي بالأصل جمع بين كلمتي إيمان (Fé) وناقص (minus)، أي أن الأنثى ناقصة الإيمان منذ خلقها على هذا النحو، ومن ثم فهي أكثر عرضة للإغواء الشيطاني. كما يجادل مؤلفا الكتاب الذي أصبح مرجعًا لجماعات التفتيش عن الساحرات في أوروبا بـأن كل أعمال الشيطنة التي ترتكبها النساء هي ناتجة عن شهوة لا يمكن إشباعها، وهو ما يجعلهن مستعدات لمعاشرة أي أحد حتى ولو كان الشيطان.

في القرنين السادس والسابع عشر في أوروبا شكلت النساء ما بين ٧٥ إلى ٨۰% من الآلاف الذين طالتهم اتهامات ممارسة السحر، وقد كشفت دراسات ومراجعات تاريخية لتلك الحقبة الزمنية أن غياب التناسب أو حتى التقارب في أعداد الرجال والنساء الذين خضعن للمحاكمات بدعوى ارتكاب أفعال السحر لم يكن عشوائيًا وإنما كان مقصودًا، إذ استهدفت المحاكمات النساء اللاتي تحدين الأعراف الاجتماعية السائدة أو عبّرن عن اعتراضهن على النظام الهرمي الذي كرست إليه الكنيسة الكاثوليكية، وهو النظام الذي جعل نساء الطبقة الفقيرة يواجهن أحكام الإعدام بتهمة ممارسة السحر أضعاف ما واجهتها نساء الطبقة الوسطى.

في مجلة «الجندر والتاريخ » نشرت فيليبا كارتر دراسة تجادل فيها بأن السلطة استغلت التقسيم الجندري للمهن السائدة آنذاك كمسوغ إضافي لتبرير تعقبها للنساء بتهمة ممارسة السحر الأسود، إذ كانت المهن المعتاد الاشتغال بها بين النساء، خاصةً نساء الطبقة الأقل دخلًا، تنحسر في الرعاية الصحية، ورعاية الطفلات والأطفال، والطهي، والعمل المنزلي المأجور، فإذا بلغ المرض أو الموت أحدًا تعاملن معه في إطار عملهن بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق الطعام أو الدواء، كان من السهل اتهامهن بممارسة السحر للخلاص من ذلك الشخص أو الانتقام من ذويه.

في دراستها، اعتمدت الأكاديمية الإنجليزية فليبيا كارتر على سجلات خاصة بمُنجّم إنجليزي اسمه ريتشارد نايبر عاش في مقاطعة باكينجهامشير جنوب شرق إنجلترا خلال العقدين الأوليين في القرن السابع، وتكشف الأكاديمية بجامعة كامبريدج أن من كانوا يترددون على هذا المُنجّم كانوا يذهبون إليه ليعالجهم من السحر الأسود الذي يشكّون في تعرضهم إليه على أيدي أحد الجيران أو أحد رفقاء في العمل، وكانوا إما يطلبون منه أن يعطيهم تأكيدًا من النجوم بشأن تعرضهم للسحر والأشخاص الذين تسببوا في إصابتهم به ليبلغوا عنهم فيخضعوا للمحاكمة، وإما يطلبون منه تمائم لحمايتهم من الأذى المحتمل.

انتقلت مطاردة الساحرات من أوروبا إلى أمريكا الشمالية مع تعاقب المستوطنين الأوروبيين من متبعي المذهب البيرويتاني البروستانتي (المذهب التطهري) الذين أعادوا إنتاج ماكينة الاضطهاد الذي عانوا منه في أوروبا من الكنيسة الكاثوليكية، فتهيأت البيئة في مستعمرة نيو إينجلاند لمطاردات مماثلة للتي حدثت في أوروبا بدعوى ممارسة السحر الأسود الرامي إلى إفساد المجتمع وتدميره، وتعود أولى حوادث تعقب النساء بتهمة السحر والشيطنة في المستعمرات الأمريكية إلى القرن السابع عشر، والتي قادت فيما بعد إلى أكبر حملة محاكمات منظمة ضد النساء بتهمة السحر الأسود في مستعمرات أمريكا الشمالية وعرفت باسم «ساحرات سالم»، وقد امتدت بين العامين ۱٦٩۲و۱٦٩۳ في مستعمرة خليج ماساتشوستس.

تذكر المؤرخة الأمريكية كارول كارلسن في كتابها «شيطان على هيئة امرأة: السحر في مستعمرة نيو إنجلاند» أن ثمة اعتقاد رسخ في المجتمع البروستانتي الأمريكي، وتحديدًا بين متبعي المذهب البيرويتاني بأن الساحرات هن من تحدين سيادة الله ونواميسه بتحديهن عمدًا للتراتبية الجندرية القارة في المجتمع التي تجعل الرجل على قمة الهرم الاجتماعي والعائلي. وقد اعتبرت هذه الجماعات الدينية تصريح النساء بمعارضتهن أو إظهار غضبهن إزاء القواعد الاجتماعية والدينية ليس مجرد عدوانية تجاه المجتمع، بل دليلًا على السحر، وبات الشجار المنزلي بين المرأة وزوجها أو أسرتها دليلًا تعتد به المحكمة في قضايا الاتهام بارتكاب أفعال السحر بزعم أن السخط والغضب هما نتاج للشر الذي يسيطر عليها، وأضحى الامتناع عن الذهاب إلى الكنيسة حجة للاعتداء على المرأة باعتبارها ساحرة تهدد الرجل نفسيًا وجسديًا وجنسيًا بمعاونة الشيطان. أما أهم علامة على الارتباط بين المرأة وممارسات السحر الأسود الشيطانية في نظر هذه الجماعات، فقد كانت رفضها القبول بمكانتها في النظام الاجتماعي لنيو إنجلاند الذي يتماشى مع التعاليم الكنسية في ذلك الوقت وفي مقدمتها أن «الرجل رأس المرأة ولذلك يجب على المرأة أن تخضع للرجل كما تخضع للرب.»

*الصورة الرئيسة والصور المرفقة بالمنشور حاصة على رخصة الاستخدام