أرتيميسيا جينتلسكي ولوحة «يهوديت وهولوفيرنوس»: حين توشج الشغف الفني مع التمرد على البطريركية فولد احتجاج عابر للزمن
في غرفة مظلمة تُحكِمُ امرأتان قبضتهما على رجل مستلقٍ على فراشه، جسده مدرجٌ في غطاءٍ أبيض وعيناه مفتوحتان على مصراعيهما. تُثبِّته إحداهما بقوة رغم مقاومته، بينما تضغط الثانية بإحدى يديها على رأسه لتوقفه عن تحريكها وبيدها الأخرى تغرس السيف في رقبته فيتدفق منها الدم الذي يُخضِّب الفراش من حوله.
هذه تفاصيل واحدة من أبرز لوحات الفن الباروكي الذي عرفته أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر وهي لوحة «يهوديت تذبح هولوفيرنوس» لأرتيميسيا جينتلسكي، التي تحاكي مشهدًا من سفر يهوديت، أحد أسفار العهد القديم، الذي يتناول قصة شابة يهودية تدعى يهوديت استطاعت أن تنقذ أهل قريتها من الموت قهرًا وعطشًا بعد أن نجحت بمساعدة خادمتها في التخلص من الملك الآشوري هولوفيرنوس الذي حاصر بلدتها ومنع عنها الزاد والماء لكي يستسلم أهلها له ويتخلوا عن دينهم.
ارتبطت صورة يهوديت في المخيال الجمعي الغربي بالإيمان والشجاعة، فهي لم تقتل الملك فسادًا وإنما قتلته لتنقذ قومها من بطشه وتمنع عن بلدتها تدميرًا وشيكًا، وقد عزمت على ذلك بإلهام من الإله الذي أيدها بالحكمة وحماها ومكّنها من الانتصار، ولهذا ظل مشهد القتل رغم دمويته ذا دلالات إيجابية لدى المجتمع الكاثوليكي في أوروبا.
ليست هذه اللوحة الوحيدة التي تحاكي مشهد قتل يهوديت لهولوفيرنوس، إلا أنها تظل الأكثر تجسيدًا لمشاعر الغضب والتحدي لدى يهوديت، وهي الأبلغ تعبيرًا عن حالة التضامن بينها وبين خادمتها التي أفقدت الملك المتجبر قوته؛ وكلها تفاصيل لا نجدها على سبيل المثال في لوحة الفنان الإيطالي كارافاجيو «يهوديت تقطع رأس هولوفيرنوس» التي أنجزها خلال السنوات الأولى من القرن السابع عشر، وتبدو فيها يهوديت فتاة بملامح باهتة، لا تعكس حركة جسدها إرادة حاسمة للتخلص من الملك إذ توجِّه نظرها صوب المُتلّقيات والمُتلقين، بينما تظهر خادمتها امرأة متقدمة في العمر أقرب إلى أن تكون متفرجة على المشهد، على خلاف صورتها في لوحة «يهوديت تذبح هولوفيرنوس» التي نفذتها الفنانة الإيطالية أرتيميسيا جينتلسكي، حيث تبرز رفيقة يهوديت وخادمتها كعنصر فاعل ومؤثر في الحدث.
تفيض لوحة «يهوديت تذبح هولوفيرنوس» بالغضب ويثقلها إصرار بطلتها على تغيير النهاية المحتمة والانتصار على المعتدي الجائر، وهي أحاسيس لازمت صاحبة اللوحة أرتيميسيا جينتلسكي، التي صورت يهوديت بملامحها الشخصية لتغدو اللوحة بورتريه ذاتي يضمر دلالات ورسائل عما كان يعتلج بنفسها عندما همت بتجسيد هذه اللحظة بدمويتها وسوداويتها.
أنجزت أرتيميسيا لوحة قتل يهوديت لهولوفيرنوس مرتين، فقد شرعت في رسم النسخة الأولى وهي في السابعة عشرة وقتما كانت تعيش في روما مع والدها ومعلمها الفنان الإيطالي أوراتسيو جينتلسكي، وذلك على الأرجح بين العامين ۱٦۱۱ و۱٦۱۲، أما النسخة الثانية التي كانت طفيفة الاختلاف عن الأولى فأنجزتها بعد انتقالها إلى فلورنسا في العام ۱٦۲۰.
وبيد أن أرتيميسيا بدأت رسم النسخة الأولى في روما فإنها لم تنته منها هناك بل في فلورنسا، وقد ترافقت فترة عملها على النسخة الأولى مع واحدةً من أقسى مراحل حياتها على الصعيدين النفسي والاجتماعي، حينما كانت مضطرة لمواجهة مغتصبها في محاكمة استمرت لسبعة شهور، ومع أنها الشاكية في القضية فقد خضعت لأحد أشكال التعذيب المعروفة وقتئذٍ في أوروبا، إذ وضعت المحكمة براغٍ حول أطرافها لتضمن قولها للحقيقة، وهي مسامير لولبية شاع استخدامها آنذاك كأداة تعذيب شديدة الإيلام لانتزاع الاعترافات من المتهمين بارتكاب الجرائم. ويرجع استخدام المحاكم الأوروبية لهذا الشكل من التعذيب مع المُبلّغات عن جرائم العنف الجنسي ضدهن إلى تكريس النظام البطريركي إلى أن الكذب والغواية من صفات المرأة، ومن ثم صار السائد هو التعامل بكثير من الشك والارتياب مع اتهامات النساء للرجال بارتكاب جرائم الاغتصاب.
التفت المسامير حول أصابع أرتيميسيا طيلة الجلسات التي أدلت في خلالها بشهادتها، بينما لم تفرِض المحكمة الأمر نفسه على المغتصب أغوستينو تاسي أحد أشهر الرساميين الإيطاليين وقتئذٍ.
تعرّضت أرتيميسيا التي كانت في السابعة عشرة حينها إلى العديد من أشكال الإيذاء النفسي والجسدي في أثناء المحاكمة، ومنها الخضوع إلى اختبار العذريـة للتأكد من صدقية روايتها عن الاغتصاب، وإرغامها على الإدلاء بشهادتها التفصيلية حول الاعتداء الجنسي في قاعة المحكمة التي كانت تضج بالحاضرين وبينهم صحافيين يتبارون في نقل ما يدور في الجلسات.
تُجلِي بعض الوثائق الخاصة بهذه المحاكمة التي يحتفظ بها الأرشيف الوطني في روما (Archivio di Stato) تَعامُل كل الأطراف، بما فيها أرتيميسيا، مع الاغتصاب لا بوصفه اعتداءً على جسمها وجريمة بحقها، وإنما كانتهاك لـ «شرفها» وشرف والدها الذي كان همه الأول هو الانتقام من أغوستينو تاسي، خاصةً أن العلاقة بين الرجلين كانت تشهد توترًا متناميًا قبل الجريمة من جراء خلافات فنية ومالية.
أدين تاسي في النهاية بالاغتصاب لكنه لم يقبع يومًا وراء القضبان، ففي ذلك الزمن كان القضاء يعتبر الاعتداء الجنسي على المرأة انتهاكًا لملكية خاصة لرجل ما، يستوجب ترضية مالكها إما بالزواج أو بدفع فدية لمن له الوصاية سواء كان الأب أو الأخ أو حتى الزوج في حال كانت متزوجة. ولكن حتى هذين الخيارين لم يُطبّق أي منهما على تاسي، فقد تبين أمام المحكمة أنه متزوج من امرأة أخرى ومن ثم قررت المحكمة نفيه خارج روما، ومع ذلك لم يتجاوز الحكم كونه مخطوطًا من مخطوطات المحاكم، إذ رفض تاسي الامتثال إلى القرار ومكث في المدينة ولم يطله عقاب من أي نوع.
على الجانب الآخر، أضحت أرتيميسيا نموذجًا للمرأة المنحرفة التي لطخت سمعة عائلتها فانفض الناس من حولها وقرر والدها منفردًا أن يعقد اتفاقًا مع فنان شاب يعيش في مدينة فلورنسا مقابل أن يتزوج ابنته التي صارت عبئًا اجتماعيًا عليه، فخرجت أرتيميسيا من روما رغمًا عنها بعد تزويجها من ذلك الشاب الذي يدعى بييرانتونيو ستياتيسي، حيث انتقلت إلى فلورنسا وعاشت هناك ست سنوات إلى أن انفصلت عنه وعادت إلى روما، قبل أن تنقل إقامتها وعملها إلى البندقية وأخيرًا إلى نابولي.
لم تختر أرتيميسيا الانتقال إلى فلورنسا أو الزواج إلا أنها اختارت ألا تستسلم وأن تكون فعل مقاومة مستمر، فلا تخلت عن أحلامها ولا انزوت بعيدًا خوفًا من الوصم وإنما جعلت من الغضب الذي ولّده الخذلان والقهر قوة دافعة نحو المقاومة الصامتة التي لهجت بها العديد من لوحاتها وفي مقدمتها لوحة يهوديت وهولوفيرنوس، التي انتهت كثير من محاولات فك شفيراتها إلى أن أرتيميسيا لم تكتف بتجسيد نفسها في هيئة يهوديت، بل رسمت الملك الآشوري المتسلط الفاسق في صورة أغوستينو تاسي، ليصبح المشهد استحضارًا لعقاب لم ينله الأخير وتأسيسًا لانتصار كان من الممكن أن يتحقق لو غاب عن المشهد المؤيدون للمعتدي ولو وجدت أرتيميسيا المساندة والتضامن مثلما وجدتهما يهوديت في خادمتها.
لوحة أخرى خرجت فيها أرتيميسيا عن النسق الذكوري السائد وقتذاك في تصوير فناني هذا العصر لمشهد من قصة سوسانة والشيخان المدرجة في سفر دانيال، إذ كان تجسيد هذا المشهد يتم عبر عدسـة تتلذذ بالتلصص على جسم سوسانة العاري التي عادةً ما تظهر غافلة عن المتلصصين أو تنظر إليهما مشدوهة إثر صدمتها. وفي بعض الأحيان كان الرسامون يصورون سوسانة تتعرض إلى اعتداء جنسي، ففي إحدى اللوحات يمسك أحد الرجلين بثدييها وفي لوحات أخرى يحاول أحدهما نزع الشرشف الذي تحاول أن تغطي به جسمها.
في المقابل، قدمت أرتيميسيا نسختها لهذا المشهد في العام ۱٦۱۰، وفيها ظهرت سوسانة تلتفت إلى الرجلين وهي ترفع يديها نحوهما كما لو كانت تحاول إبعادهما، وفي الوقت ذاته تدير وجهها بعيدًا عنهما حتى لا يتمكنا من معرفتها وتهديدها.
بعد الزواج والانتقال إلى فلورنسا اكتشفت أرتيميسيا أن ثمة فرصة للاستقلال الفني عن والدها الذي كان يقيدها فنيًا وحركيًا باتت متاحة، فقررت أن تؤسس مرسمًا خاصًا بها في المنزل الذي عاشت فيه مع زوجها، وبدأت ترسم على لوحات قماشية كبيرة، وتتواصل مباشرة مع الرعاة لتسويق أعمالها. كما أن الزواج في ذلك العصر كان يعطي نساء الطبقات المتوسطة والعليا في أوروبا فرصـًا لا تتاح قبله ومنها حضور المناسبات الاجتماعية التي تضم نخبة المجتمع من أدباء وفنانين وفلاسفة بحرية أكبر، فاجتمعت أرتيميسيا مع أناس مثل الفيلسوف الإيطالي غاليليو والرسام والنحات ميكيلانجيلو بوناروتي، وباتت تحاورهم وتناقشهم وتستمع إلى آرائهم وتمخضها، مما ساهم في تعميق فهمها لأمور شتى في الحياة وصقل قدراتها على التعبير عن أفكارها ومشاعرها بالفرشاة والألوان.
في العام ۱٦۱٦، أصبحت أرتيميسيا جينتلسكي أول عضوة في أكاديمية فلورنسا للفنون الجميلة التي تعد، إلى جانب كونها نقابة للرسامين النشطين في فلورنسا، أحد أعرق مؤسسات تعليم فن الرسم والعلوم ذات الصلة في الولايات الباباوية، وقد انضمت إليها أرتيميسيا بعد أن استأثر بعضويتها الرجال لأكثر من نصف قرن، وتوازى ذلك مع زيادة الاعتراف الفني والنقدي بأعمالها وأسلوبها، الذي تحدت به القواعد التقليدية واعتمدت فيه على منظور مختلف يتواشج فيه الشغف والتمرد.
* الصورة الرئيسة وجميع الصورة المرفقة حاصلة على رخصة الاستخدام من موقع Wikimedia Commons