تحل هذا العام الذكرى الخمسين للعام الذي أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة عامًا دوليًا للنساء بعد توصية من لجنة الأمم المتحدة لوضع النساء (CSW)، وهي الخطوة التي ساهمت في تعضيد دور الأمم المتحدة في دمج بعض  المطالب التي ارتبطت بجماعات النسوية الليبرالية أكثر من غيرها في أجندة التنمية والسلام الأممية، وأبرزها مطالب تعزيز مشاركة النساء في النظم السياسية والاقتصادية إصلاحًا لها عوضًا عن إعادة هيكلتها مثلما تطالب النسوية الراديكالية أو الماركسية، وقد استطاعت هيئة الأمم المتحدة جعل هذه المطالب أهدافًا دولية أمام الحكومات، وبات يتعين على الأخيرة إدراجها ضمن خطط التنمية الوطنية التي غالبًا ما تعتمد دول الجنوب العالمي في تنفيذها على التمويل الخارجي وفي القلب منه التمويل الأممي.

أعلنت هيئة الأمم المتحدة بنهاية العام ۱٩٧۲ أن العام ۱٩٧۵ سيكون عامًا دوليًا للنساء، ليغدو الإعلان نقطة انطلاق لسلسلة من الفعاليات الأممية التي هدفت إلى جمع الحكومات الوطنية على طاولة نقاش مشترك لاجتراح خارطة عمل ترمي إلى تحسين أوضاع النساء وتضييق الفجوات بين الجنسين في مختلف المجالات، عن طريق التوافق حول آليات عملية لإنهاء التمييز ضد النساء خاصةً في التشريعات والسياسات الوطنية وتحجيم العنف المادي والمعنوي الذي يستهدفهن بسبب التحيزات الاجتماعية ضدهن.

بدأت نشاطات العام الدولي للنساء فعليًا مع انعقاد أول نسخة من النسخ الأربع للمؤتمر العالمي للنساء التي استضافتها دولة المكسيك في يونيو من العام ۱٩٧۵، بمشاركة وفود من ۱۳۳ دولة بالإضافة إلى ما يرتقي إلى خمس آلاف عضوة وعضو في منظمات مستقلة وغير حكومية، وقد انتهى المؤتمر بالإعلان عن حزمة من الأهداف قصيرة وطويلة المدى واعتماد خارطة عمل تضع قاعدةً للعمل الجماعي من أجل تنفيذ برامج ومبادرات خاصة على مدى عشر سنوات أطلقت عليها الأمم المتحدة العقد الدولي للنساء، وكان أكبر إنجاز تحقق في خلالها هو اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء (CEDAW) في العام ۱٩٧٩، وهي الاتفاقية التي قدمتها الهيئة للعالم بوصفها ميثاقًا دوليًا لحقوق النساء يوازي في أهميته التاريخية الإعلان العالمي لحقوق الإنسانـ/ة الصادر في العام ۱٩٤٨.

من أجل هذا، يمثل العام الدولي للنساء نقطة مفصلية في أجندة الأمم المتحدة تجاه قضايا العدالة والمساواة الجندرية، ولهذا أيضًا تبرز الحاجة بعد مرور خمس عقود إلى تقييم خطة العمل التي صدرت في ضوئه لتكون بوصلة نشاط الأمم المتحدة ومنظماتها من أجل توسيع رقعة الصكوك الدولية الخاصة بحقوق النساء وزيادة التمويل الوطني والدولي المخصص لتنفيذ الأهداف التي اشتملت عليها خطة العمل وتكرر ظهورها لاحقًا في وثائق أممية لاحقة.

وبيد أن أهداف خطة العمل كان من المزمع أن يجري العمل على تحقيقها خلال عشر سنوات، لا يزال الكثير منها عصيًا على التنفيذ وبعض ما تحقق منها يظل في منطقة الخطر قد يضيع في أي وقت، وهو ما يرتبط بإشكاليات عديدة، إلا أن ما يعنينا منها هنا هو نظام الأمم المتحدة الذي تصاغ وفقًا له معظم الصكوك الدولية، ومنها ما يختص بحقوق النساء والقضايا ذات الصلة.

خطة عمل العام الدولي للنساء.. مواطن القصور في اللغة والصياغة

عكست نصوص خطة عمل العام الدولي للنساء التحول في اهتمام وتركيز الأمم المتحدة نحو قضايا التنمية بعد أن كانت قضايا السياسة والأمن هي الأولوية حتى نهاية الستينيات، وقد ربطت الخطة في بنودها بين تحقيق التنمية وقدرة النساء على المشاركة المتساوية مع الرجال في السياسة والاقتصاد، كما تتبلور في خطة العمل مسؤولية الدول إزاء تمكين النساء من حقوقهن في التعليم والتدريب والعمل والصحة والسياسة والاقتصاد باعتبارها جزءًا من مسؤوليتها أمام المجتمع الدولي تجاه تعزيز حقوق الإنسانـ/ة. أما أبرز إشكاليات خطة العمل على مستوى الصياغة فتتجسد في استخدام عبارات فضفاضة في معظم البنود التي بدت أقرب إلى التوصيات العامة والشكلية وانحسرت فيها الجوانب التكتيكية الواضحة، فجاءت بعض بنودها على النحو التالي: «إدخال تغيير في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية بما يحقق المساواة الكاملة للنساء ويُمكّنهن من الوصول إلى جميع أنواع التنمية»، و«اتخاذ التدابير المناسبة لتعريف النساء بحقوقهن وتقديم المشورة لهن وتزويدهن بكل أنواع المساعدة»، و «من أجل توسيع نطاق الأدوار الاقتصادية للنساء، يُمكِن تطوير التعاونيات والصناعات الصغيرة وتشجيعها بالدعم اللازم من الحكومة.»

علاوة على ذلك، لم تعتمد خطة العمل على لغة الإلزام أو الطلب فقد كانت أقرب إلى وثيقة تخبر الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بما يُمكِن أن تفعله وما يُمكِن أن يتحقق إذا قامت بما توصي به الخطة، ويظهر ذلك في تكرر استخدام فعلي (Could) و(Can) اللذين يعبران عن الإمكانية فحسب، بالأخص في البنود التي تتناول مسائل تعديل أو استحداث التشريعات والسياسات أو إطلاق الحملات.

أولت خطة العمل أهمية كبرى إلى العمل الجماعي بين الدول لتحقيق السلام الدولي، مشددةً على أن ضمانته تأتي من الجهود المشتركة الرامية إلى القضاء على أشكال الهيمنة والقمع المتمثلة في الاستعمار والاستعمار الجديد، والإمبريالية، والتمييز والفصل العنصريين، والصهيونية. وفي هذا السياق، توضح الخطة أن السلام الدولي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا توافر للنساء الفرص الكاملة والمتساوية مع الرجال لمقاومة الهيمنة بشتى صنوفها، وفي مقدمتها فرص الوصول إلى مناصب صنع واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية.

لكن اللافت في هذه الجزئية هو أن خطة العمل لم تذكر الأبوية (Patriarchy) ضمن أشكال الهيمنة التي تحرم النساء من حقوقهن العادلة، ولم تشر كذلك إلى ضرورة العمل على استئصال هذه الثقافة التي تضعهن في صراع يومي مع ظروف وقوانين وثقافات متحيزة ضدهن، عِلمًا بأن كل الأشكال الأخرى التي ركزت عليها الخطة هي محصلة النظم الأبوية المستقرة وديمومتها مرهونة بثبات هذه النظم.

تجدر الإشارة إلى أن إضافة «الصهيونية» كحركة وأيدولوجية عنصرية واستعمارية ضمن أشكال القمع المذكورة في خطة العمل جاء بعد أن جرى التصويت عليها عقب احتجاج دولة الكيان الصهيوني إسرائيل، إلا أن عدد أصوات الدول المؤيدة لإدراجها في ذلك الوقت تجاوز عدد الدول التي صوتت ضد الأمر والدول التي امتنعت عن التصويت.

حقوق أقرتها خطة العمل وممانعتها لا تزال قوية

لم تنحصر مواد الخطة حول حقوق النساء في المجال العام، بل تطرقت كذلك إلى بعض الحقوق في المجال الخاص فقد نصت على أحقية النساء في الحماية عبر التشريعات والسياسات الوطنية في سياقات الأسرة النواة، أو الأسرة الممتدة، أو العلاقات الرضائية، في إشارة إلى مسؤولية الدول عن استحداث قوانين تضمن الحماية لهن من العنف المنزلي والمساواة في الحقوق بين الجنسين في إطار هذه العلاقات؛ ومع أن النص لم يلزم الدول وإنما أقر حقًا، فقد أعلنت العديد من الدول اعتراضها عليه مثل مصر التي سجلت تحفظها رسميًا على البند بأكمله مؤكدةً رفضها القاطع لمصطلح الشراكات الرضائية (Consensual Unions)، وما برحت الدولة المصرية تتمسك بهذا الموقف المعادي لتجريم العنف ضد النساء في إطار العلاقات الخاصة وتظل واحدة من 49 دولة ليس لديها قوانين ضد العنف المنزلي حتى وقتنا الحالي.

إضافة إلى ذلك، كان من بين الحقوق التي أقرتها خطة العمل ولا تزال محل رفض تلك المرتبطة بالصحة الجنسية والإنجابية التي تكتفي العديد من الدول بإقرار القليل منها بينما تمتنع عن الاعتراف بالكثير منها، وما من صك دولي صدر بعد خطة عمل العام الدولي استطاع أن يحدث تحولًا في هذه المواقف. وفي هذا المنحى، أشارت خطة العمل إلى أن الإجراءات والتدابير التي ستتخذها الدول لضمان المساواة بين النساء والرجال يجب ألا تغفل، بل تضمن الحق في تحديد الخيارات المتعلقة بالجسد، خاصةً الحق في الإنجاب من عدمه، والحرية في تحديد توقيتات الإنجاب وعدد البنات والأبناء، والوصول اليسير إلى المعلومات والوسائل اللازمة لضمان ذلك.

تضم حقوق الصحة الجنسية والإنجابية رعاية ما بعد الولادة، والإجهاض الآمن، ورعاية ما بعد الإجهاض، وتوفير وسائل وخدمات منع الحمل، وتوفير وسائل منع الحمل الطارئ، وإصدار تشريعات تضمن حق الطفلات والأطفال في التثقيف الجنسي، وتعزيز الحق في الوصول إلى فحوص فيروس نقص المناعة البشرية والحصول على الاستشارة والعلاج في حالة الإصابة به، ودعم القدرة على الوصول إلى لقاح فيروس الورم الحليمي البشري الناتج عن العدوى المنقولة عبر الاتصال الجنسي (HPV).

وبحسب بيانات صندوق الأمم المتحدة للسكان للعام ۲۰۲٤، فإن ما يقرب من نصف الدول ما انفك يقيد الوصول إلى وسائل منع الحمل، وما فتئت غالبية الدول تضع قيودًا على حق النساء في الإجهاض الآمن وبعضها يعتبر موافقة الزوج شرطًا وجوبيًا قبل إجرائه، وفي ۵٤ في المئة من هذه الدول يمكن توجيه اتهامات جنائية تصل إلى الحبس للنساء اللاتي يجهضن بالمخالفة للقوانين الوطنية أو المحلية. أما الثقيف الجنسي عن طريق التعليم المدرسي، فتظل معظم دول إفريقيا وآسيا وبعض دول أوروبا الشرقية تمانع إصدار تشريعات تعترف وتضمن هذا الحق. وفي هذه القائمة تحتل الدول الناطقة بالعربية مساحة عريضــة ولا يباريها في ثبات موقفها المتشدد منطقة أخرى.

بالطبع خطة عمل العام الدولي نوقشت وصدرت قبل نصف قرن، ولذا فمن غير العادل أن يجري تقييمها تبعًا للتوقعات والتطلعات الآنية، إلا أن ثمة شيء يتجاوز الزمن وهو المنظور والنظام الذي جاءت خطة العمل على أساسهما ويبقيان الأساس في الصكوك التالية للأمم المتحدة التي تتناول حقوق النساء والمساواة الجندرية، فلا تزال المساحات المتاحة لانخراط وتفاعل المنظمات المستقلة وغير الحكومية في وضع هذه الصكوك محدودة بينما تظل الأولوية والصوت الأعلى للحكومات التي في كثير من الأحيان لا تتبنى أفكارًا أو مواقف مؤيدة للمساواة والعدالة الجندرية، كما أن اللغة والصياغة في هذه الصكوك حالها حال تلك الخاصة بخطة العمل، تحتاج إلى أن تكون أكثر وضوحًا ومباشرة وأقل استهلاكًا وفتورًا، فضلًا عن أن كل هذه الوثائق لا تعطي للأمم المتحدة ومنظماتها الحق في وضع آليات مراجعة حازمة للمسارات التي تتخذها الدول لتنفيذ الأهداف.

** الصورة الرئيسة حاصلة على رخصة الاستخدام عبر موقع Wikimedia Commons