تستعد الأمم المتحدة ومنظماتها لا سيما منظمة الأمم المتحدة للنساء (UN Women) لإحياء الذكرى الثلاثين للمؤتمر العالمي الرابع للنساء الذي شهد اعتماد إعلان ومنهاج عمل بيجين (BDPA)، الذي كان بمثابة خطة عمل دولية تضع الحكومات أمام مسؤولية تمكين النساء من الحقوق الإنسانية كاملة وحظر انتهاكها، من خلال خارطة طريق تشمل تعديل القوانين والتخلص من التشريعات التمييزية واستحداث تشريعات بديلة ووضع سياسات غايتها هي بلوغ العدالة والمساواة الجندرية. ومن المزمع أن تركّز اجتماعات الأمم المتحدة السنوية بشأن وضع النساء في مارس المقبل (CSW69)، على تقييم أداء الحكومات خلال العقود الثلاثة الماضية فيما يتعلق بتنفيذ الالتزامات الواردة في إعلان ومنهاج عمل بيجين، بالتوازي مع استعراض التحديات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تعرقل عملية التنفيذ وتُعطّل تحقيق الأهداف الجوهرية لهذا الصك الأممي.

وقد طالبت اللجنة المعنية بوضع النساء، في سياق استعدادها للدورة التاسعة والستين للاجتماعات السنوية لوضع النساء، حكومات الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بتقديم مراجعات شاملة للتقدم المحرز فيما يخص إعلان ومنهاج عمل بيجين وكذلك العوائق التي حالت دون تحقيق أهدافه بشأن المساواة بين الجنسين في الحقوق والفرص والوصول إلى الموارد والمشاركة في التنمية المجتمعية، إلى جانب تعزيز استقلاليتهن الاقتصادية والجسدية، لا سيما فيما يتعلق بالقرارات المتعلقة بالصحة الإنجابية. وقد قدمت حتى الآن عشرين دولة عربية مراجعاتها الوطنية بشأن التقدم الذي حققته في هذا الشأن على مدى ثلاثة عقود وخططها المستقبلية لتسريع وتيرة العمل والنشاط نحو تنفيذ أهداف إعلان ومنهاج عمل بيجين.

أكثر من مجرد أرقام: دلائل الفشل في تحقيق أهداف إعلان بيجين

بغض النظر عن ما تتناوله مراجعات الحكومات الوطنية حول مدى التزامها بالمضي قدمًا نحو تحقيق أهداف إعلان ومنهاج عمل بيجين، وتأكيدها الذي يتجدد كل خمس سنوات على صحة المسار الذي تتخذه دولها للوفاء بتعهداتها التي توافقت عليها في العام ۱٩٩۵، تكشف الشواهد وما توثقه تقارير المنظمات الدولية والإقليمية في شتى المجالات استمرار تقنين التمييز ضد النساء فضلًا عن الوضع الكارثي للعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي يستهدفهن في المجالين الخاص والعام، إذ تُظهِرُ بيانات للبنك الدولي نشرها في العام ۲۰۲٤ أن التشريعات المعمول بها حاليًا في ۱٩۰ دولة لا تساوي بين الجنسين في الحقوق، بل تعطي النساء ما يُقدّر بــ ٦٤% من الحقوق التي يتمتع بها الرجال، ويوضح كذلك مؤشر المساواة الجندرية أنه لا يوجد دولة واحدة حتى الآن توفر فرصـًا متساوية للنساء والرجال بما في ذلك الدول ذات الاقتصادات الكبرى.

كما تجلي بيانات البنك الدولي أنه حتى مع تمرير تشريعات تنص على المساواة الجندرية، قلما يتبع ذلك اتخاذ إجراءات تضمن التطبيق؛ فعلى سبيل المثال يبين تقرير النساء والعمل والقانون للعام ۲۰۲٤ أن هناك نحو ٩٨ دولة سنّت تشريعات تلزم مؤسسات العمل بالمساواة بين الجنسين في الأجر عن العمل ذي القيمة المتساوية، إلا أن ۳۵ دولة منها فقط اعتمدت تدابير الشفافية لتكون بوصلتها تجاه تقليص التمييز في الأجور ومعالجة الفروق العشوائية في الأجور. علاوة على ذلك، لا تزال ملايين النساء المتزوجات في ۱٨ دولة غير قادرات بموجب القوانين الوطنية على شغل أي وظيفة من دون موافقة أزواجهن على ذلك.

غير أن الـ۱٨٩ دولة التي تبنت إعلان بيجين الذي يضع على عاتقها مسؤولية حماية استقلالية النساء الاقتصادية من خلال تمكينهن من جميع الموارد والفرص والخدمات المتاحة مثلما تنص المادة ۲٦ منه، لم تنجح في الوفاء بهذا الالتزام وهو ما يتصل بالإخفاق في تنفيذ نص آخر يختص بالعمل من أجل القضاء على جميع أشكال العنف والتمييز ضد النساء، ومن بينها التحرش الجنسي الذي تُظهِرُ دراسة صادرة عن مركز العالم لتحليل السياسات أن ٦٧% من البلدان ليس لديها قوانين تتعاطى معه، و۵٩% من الدول لا توجب على أصحاب الأعمال تعيين إجراءات لمنع التحرش الجنسي قبل وقوعه، والأسوأ من ذلك هو أن ربع دول العالم لا تمتلك قوانين تجرم التحرش الجنسي في أماكن العمل من الأساس، ونصف الدول ليس في جعبتها التشريعية أو الإجرائية ما يحظر الانتقام من العاملات اللاتي يبلغن عن التحرش أو الابتزاز الجنسي في العمل.

من ناحية أخرى، فقد ساهم عدم إدراك الحكومات على مدى عقود طوال للتأثير المباشر للعنف المنزلي على المشاركة الاقتصادية للنساء في تحويل هدف المساواة الجندرية إلى أمر صعب المنال، ولا تزال حتى الآن أكثر من ٤۰ دولة تمانع تمرير قوانين تحمي النساء من العنف المنزلي الذي يؤدي إلى أضرار جسدية ونفسية، تؤثر سلبًا على إنتاجيتهن في العمل، وتدفعهن إلى زيادة التغيب عن العمل مما يجعلهن أكثر عرضة لفقدان وظائفهن.

تزويج القاصرات أيضًا أحد أكثر أشكال العنف القائم على النوع التي تطيح بحقوق الفتيات في الصحة الجنسية والإنجابية والتعليم والعمل من بعد ذلك، وهو أحد الأزمات المحورية التي تطيل بقاء الفجوة بين الجنسين التي يهدف إعلان ومنهاج عمل بيجين إلى القضاء عليها. وطبقًا إلى تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، هناك 640 مليون فتاة وامرأة على قيد الحياة اليوم تزوجن قبل أن يبلغن ۱٨ عامًا، ويعيش ما يقرب من ٤۵% منهن في جنوب آسيا و۲۰% في إفريقيا جنوب الصحراء، وهما المنطقتان اللتان تتواجد فيهما معظم الدول التي لا تحظر تزويج القاصرات، إذ تسمح به بعضها وبعض آخر يبيحه في حالة موافقة القضاة.

يعترف كذلك تقرير لسكرتارية منظمة الصحة العالمية صدر في العام ۲۰۱٤ بأن التقدم فيما يتعلق بأهداف منهاج عمل بيجين في مجال صحة النساء يتسم بالبطء، وتحديدًا في مسائل الصحة الجنسية والإنجابية، والعنف القائم على النوع، والتغذية، والأمراض المنقولة جنسيًا.

وراء الفشل.. وعود منكوثة ومحاسبة غائبة

في العام ۲۰۱۰، كتبت ليندا تار ويلان الخبيرة الأمريكية في مجال القيادة النسائية وأحد أعضاء الوفد الأمريكي الرسمي إلى المؤتمر العالمي الرابع للنساء الذي انتهي باعتماد إعلان ومنهاج عمل بيجين، مقالًا تؤكد فيه أن الاهتمام الذي بدى خلال المؤتمر بمسألة المساواة الجندرية في التعليم، وقد ترجمته المادة رقم ۳۰ من الإعلان التي نصت على ضمان المساواة بين النساء والرجال في الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، أسفر عن قدر كبير من النشاط في العديد من البلدان من أجل تضييق الفجوة الجندرية في التعليم، لا سيما التعليم الابتدائي، وبيد أنها اعترفت بأن هدف المساواة الجندرية في التعليم يظل الوصول إليه بعيدًا، فقد اعتبرت الخبيرة الأمريكية أن الجهود التي قامت بها العديد من الدول لتعضيد فرص النساء في التعليم أدت إلى تقدم كبير.

وعطفًا على هذا، فإن ثمة تساؤل يفرض نفسه في ضوء الإخفاق الواضح في تحقيق أهداف إعلان ومنهاج عمل بيجين بعد ثلاثة عقود من اعتماده، عن ما إذا كانت الإرادة السياسية الجادة قد توافرت قبل حتى أن تبدأ مرحلة التنفيذ أي خلال عملية صياغة البنود وعلاقة ذلك بالأولويات السياسية لدى الدول التي تبنته، خاصةً أن أكثر من ٩٦% من حكومات الدول التي تبنت إعلان ومنهاج عمل بيجين كان يقودها رجال إما عبر منصب رئيس البلاد أو رئيس الوزراء، ويبرز في الوقت ذاته تساؤل حول ما إن كان ينبغي على الدول إعادة هيكلة أو إحلال أجنداتها القائمة بشأن عمليات التنفيذ.

تحت عنوان «خيانة بيجين: النساء حول العالم يؤكدن فشل الحكومات في تحويل إعلان بيجين إلى نشاط على الأرض»، أصدرت منظمة النساء للبيئة والتنمية (WEDO) تقريرًا في العام ۲۰۰۵ تربط فيه بين النهج المجزأ الذي تتبناه الحكومات في تنفيذ ما جاء بمنهاج العمل والفشل في تحقيق أهدافه، وقد أفاد التقرير بأن اتخاذ هذا النهج القائم على الوعود لا يمكن أن يحقق التحول الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تقوم عليه رؤية وتعهدات إعلان بيجين.

كشف كذلك التقرير أن أحد أهم الإشكاليات التي تحول دون تحقيق أهداف الإعلان هي القيود الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تفرضها عشرات الدول على المنظمات النسوية غير الحكومية وجماعات الضغط المستقلة، التي أقرن الإعلان في مادته رقم ۲۰ نجاح تنفيذ منهاج عمل بيجين بمسألة التزام الحكومات باحترام استقلالها وحقها في متابعة تنفيذ منهاج العمل وتقييمه.

يضمن وجود منظمات نسوية قادرة على العمل باستقلالية زيادة الضغط على الحكومات وتحميلها المسؤولية عن التزاماتها تجاه الصكوك الدولية، وهذا ما أكدت عليه جيتا راو جوبتا الرئيسة السابقة للمركز الدولي لبحوث النساء (ICRW) التي شاركت في الإعداد للمؤتمر العالمي الرابع للنساء في بيجين. وقد شددت جيتا راو جوبتا في تصريحات سابقة للموقع الخاص بمؤسسة الأمم المتحدة غير الربحية (United Nations Foundation) على أن تنفيذ منهاج عمل بيجين يحتاج إلى مجتمع مدني قوي ومنظم، لافتةً إلى الدور المهم الذي يلعبه تمويل مؤسسات المجتمع المدني المستقلة حتى تتمكن من الوقوف في وجه الارتدادات العنيفة التي تتعرض لها حقوق النساء، كالتي تحدث مع الحقوق الإنجابية في السنوات الأخيرة.

في السياق ذاته، تمثل مشكلة التضييق على منظمات المجتمع المدني عائقًا أمام الوصول إلى بيانات دقيقة حول التمييز والعنف القائمين على النوع الاجتماعي، إذ تغدو في مثل هذه الأجواء الحكومة والمؤسسات ذات الصلة هي المصدر الوحيد حول المشكلات والحلول المُتبّعَة لمواجهتها، ويصعب حينها التحقق من مدى صحتها أو مقارنتها ببيانات مجمعة من مصادر أخرى لتحديد مدى واقعيتها، مما يُضعِف احتمالية تنمية الاتجاهات الإيجابية نحو التغيير المنهجي وتعديل الاتجاهات السلبية التي تعوقه أو تعطّله.

إضافة إلى ذلك، تأتي الطبيعة غير الملزمة لإعلان منهاج عمل بيجين كأحد أهم وأبرز الإشكاليات التي أبقت بنوده مجرد تطلعات على الورق، إذ لا يوجد أي إطار يُمكّن الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها من المراقبة المباشرة لما تقوم به الحكومات لتنفيذ المنصوص عليه في منهاج العمل، فضلًا عن غياب أطر رسمية للمساءلة لأن ما جاء في كل من الإعلان ومنهاج العمل هو مبادئ توجيهية وإرشادية ليس أكثر، ولا يوجد نظام لإخضاع الحكومات لمساءلة متعددة الأبعاد. كما أنه رغم وجود آلية محددة لكي تقدم الحكومات مراجعات شاملة بشأن التقدم المحرز في تنفيذ منهاج عمل بيجين، فإنها تظل أمرًا طوعيًا لا يحق لهيئة الأمم المتحدة إلزام الدول على تقديمها بشكل دوري.