كل تمرد نسوي هيستريـا: آخرها إيران.. حينما تقرر الأنظمة الأبويــة إعلان مقاومة النساء اضطرابًا نفسيًا
في نوفمبر الماضي، أعلنت السلطات الإيرانية على لسان مهري طالبي دارستاني مديرة قسم النساء والأسرة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن خطة الحكومة لتأسيس عيادة علاج نفسي وسلوكي في العاصمة طهران مخصصة للنساء والفتيات اللاتي يرفضن ارتداء الحجاب الإلزامي المنصوص عليه قانونيًا منذ الثمانينيات.
وفي إعلانها عن القرار، قالت عضوة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن هذه الخطوة تأتي في إطار تنفيذ خارطة طريق تهدف إلى تعزيز «الكرامة والحياء والعفة» بين النساء الإيرانيات، وقد جاء الإعلان متصلًا بحدث لم يكن قد مر عليه سوى أيام قليلة، وهو نقل طالبة في جامعة آزاد إلى مركز طبي للأمراض النفسية والعقلية بعد أن خلعت حجابها وتجردت من ملابسها عدا تلك الداخلية وتجولت على هذا النحو في أنحاء الجامعة، احتجاجًا على مضايقتها وتهديدها من عناصر قوات الباسيج التابعة للمرشد الأعلى الإيراني بسبب ما اعتبروه عدم امتثال لقواعد النمط الصارم للباس المرأة.
قبل نقلها عنوةً إلى مركز لعلاج الأمراض النفسية والعقلية، تعرضت الطالبة الجامعية لاعتداءات جسدية على أيدي أفراد من قوات الأمن استدعتهم الجامعة لإلقاء القبض عليها قبل أن يقتادوها إلى مكان غير معلوم ويحتجزوها داخله، وقد ظل الغموض يكتنف وضع الطالبة وسط حملة ضغط قوية من المتضامنات والمتضامنين معها ومطالبات متواصلة من مؤسسات حقوقية دولية بالكشف عن مكانها والإفراج عنها.
بعد عدة أيام، خرجت السلطات بإعلان رسمي تزعم فيه بأنه قد تبين إصابة الطالبة التي مارست الاحتجاج باضطراب نفسي قادها إلى التصرف على هذا النحو ومن ثم جرى نقلها إلى مركز للطب النفسي كي تخضع للعلاج.
وقعت هذه الحادثة بينما يطبق الغضب النسوي الآفاق، إذ تشهد إيران خلال السنوات الأخيرة تصاعدًا في الاحتجاج ضد القانون التعسفي الذي يلزم النساء بارتداء الحجاب ويجبرهن على التقيد بقواعد حازمة تمنعهن من كشف أي جزء من الشعر وتحظر ارتداء ملابس تحدد شكل الجسم حتى لو كانت تغطيه بالكامل، وقد بلغ الاحتجاج ذروته في سبتمبر من العام ۲۰۲۲ في أعقاب مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني داخل مقر احتجاز لشرطة الأخلاق، بعد القبض عليها بذريعة كسـر قواعد اللباس الإلزامي.
وبيد أن النظام الإيراني استطاع أن يقمع الانتفاضة التي عمت أنحاء البلاد وقتئذٍ، فإنه لم يتمكن من إيقاف الاحتجاجات الفردية ضد الحجاب الإجباري وآخرها ما جرى في جامعة آزاد بالعاصمة طهران، إلا أن المؤسسات التابعة للنظام باتت تتعامل مؤخرًا مع هذه الاحتجاجات باستخدام وسيلة قمع ضمتها حديثًا إلى وسائل القمع التي اعتادت استخدامها على مدى أكثر من أربعين عامًا لإحباط مقاومة النساء، فبعد أن كان الاعتماد مُركّزًا على التوقيف وفرض الغرامة إلى الاحتجاز والسجن وصولًا إلى الجلد، ازداد خلال العامين الأخيرين الادعاء بأن المحتجات يعانين من اضطرابات تستوجب عزلهن في مستشفيات للأمراض النفسية والعقلية.
ويأتي ذلك في محاولة من السلطات الإيرانية لتجاوز إخفاق طرق القمع التي اعتادت على استعمالها، في أن تخمد مقاومة النساء المستمرة للنظامين السياسي والاجتماعي الذين ينتهكان حقوقهن الأصيلة في التحكم بأجسامهن واتخاذ القرارات المرتبطة بها، وقد بررت السلطات قرارها بإنشاء عيادة خاصة لإخضاع النساء اللاتي يخرقن قانون الحجاب الإلزامي لما أسمته علاجًا نفسيًا، بالترويج عبر وسائل الإعلام التابعة لها إلى أن تمرد هؤلاء النساء هو مجرد عرض من أعراض إما اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع وإما الاضطراب الهستيري، مما يستدعي خضوعهن لعلاج نفسي لما يشكلنه من خطورة على المجتمع.
وقد تنامى التعويل على حجة اضطرابات الشخصية والجموح العقلي كأداة لتشويه المحتجات وتبرير العنف ضدهن بعد المظاهرات واسعة النطاق التي اجتاحت البلاد عقب مقتل مهسا أميني، وكانت المحكمة الإيرانية قد أصدرت في العام ۲۰۲۳ قرارات تلزم عدد من الممثلات السينمائيات مثل أفسانه بايقان وآزاده صمدي وليلى بولوكات بالذهاب أسبوعيًا إلى مركز للصحة النفسية بعد أن وصفهن القضاة بعدم المتزنات نفسيًا على خلفية ظهورهن علانية من دون حجاب في خضم احتجاجات «النساء، والحياة، والحريـة» في العام ۲۰۲۲، كما أرغمتهن القرارات القضائية على استخراج شهادات طبية رسمية تثبت خضوعهن للعلاج والتأهيل النفسي. وفي العام نفسه، زجت عناصر أمنية برؤيا زاكري ذات الـ۳۱ عامًا في مستشفى الرازي للأمراض العقلية شمال إيران بعد احتجاجها على الحجاب الإلزامي في مدينة تبريز، حيث توسطت الشارع المغتص بالمارة ونزعت الغطاء عن رأسها ثم هتفت بصوت عالٍ «الموت للخامئني»، وقد زعمت وقتها وسائل الإعلام التي تديرها الحكومة أن رؤيا تعاني من اضطراب عقلي، سمته بعضها بالانفصام في الشخصية استنادًا إلى ما ذكرته التقارير الصادرة عن جهات طبية تابعة للأمن بشأن إصابتها بالهلوسة والأوهام، ومن ثم أصدر القاضي قرارًا بنقلها إلى مشفى للأمراض النفسية والعقلية.
ولكن رغم تزايد استخدام هذه الاستراتيجية ضد المحتجات على قانون اللباس الإلزامي، فإن النظام الإيراني لم يتخل في الوقت ذاته عن وسائله القمعية الأخرى، بل إنه لا يزال يعمل على تشديدها، فقد دخل القانون الذي يحمل اسم قانون الحجاب والعفة حيز التنفيذ في سبتمبر الماضي، وبموجبه أصبحت كل امرأة لا تمتثل إلى قواعد اللباس الإلزامي معرّضة للسجن عشر سنوات.
مع تكرر استخدام الحكومة الإيرانية لذريعة الاضطرابات النفسية لقمع المحتجات وإرهاب من يدعمنهن والحيلولة دون توسع دائرة التضامن مع النساء اللاتي يقاومن السلطة التي انتزعت حقهن في تقرير مصائرهن، اتخذت عدد من جمعيات الطب النفسي في إيران موقفًا معارضًا إزاء ما اعتبرته تلاعبًا بالطب النفسي لأغراض سياسية، وفي المنحى ذاته أكدت الناشطة والمعالجة النفسية الإيرانية مديس توكلي في حديث لإذاعة أوروبا الحرة (Radio Free Europe/Radio Liberty) إن السلطات تتعمد استخدام حجة المرض النفسي لخدمة مصالحها لأنها تدرك أن الأمراض النفسية ما انفكت من التابوهات في بلد مثل إيران، ولذا ترتكن إلى المزاعم المرتبطة بالصحة العقلية لإثارة التعاطف الشعبي معها وتبرير انتهاكاتها بحق النساء.
وفي واقع الحال، فإن تفسير مديس توكلي لدوافع السلطات الإيرانية لسلك هذا المسلك ينسحب على العديد من الوقائع التاريخية التي استخدمت خلالها أنظمة وحكومات كل ما هو متاح أمامها من وسائل إعلامية وهياكل إدارية وتشريعية لتصوير النساء اللاتي يشققن العصا ويشكل تمردهن خطرًا على سيرورتها بفاقدات العقل اللائي يضمرن كراهية وعداء تجاه المجتمع ويردن تدميره.
فقدت عقلها: الاضطراب النفسي كتشخيص مُعلّب لقمع النساء
استغلال التحليل النفسي وتحويله إلى أداة قمع بحق النساء ليس شيئًا جديدًا أو أمرًا غير شائع، فقد فعلت ذلك نظم اجتماعية وسياسية عديدة، إذ كان الزعم بأن المرأة التي تتحدى نواميس المجتمع تعاني اضطرابًا نفسيًا أو عقليًا وسيلة عقاب وعزل وتشويه، إلا أن هذا الأسلوب القمعي بدأ تقليدًا غربيًا يستهدف نساء الطبقتين الوسطى والعليا من ذوات البشرة البيضاء في أوروبا، اللاتي تمردن على الوضع الاجتماعي والسياسي والقانوني الذي كان يعزلهن عن الحياة العامة ويحرمهن من المشاركة في صناعة واتخاذ القرارات والتشريعات التي تتحكم في حيواتهن، وتشير الصحافية البريطانية فيكي إيجليكوسكي-برود إلى أن أحد أشهر الأساطير التي ارتبطت بالناشطات اللاتي انخرطن في الحراك النسوي في بريطانيا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي معاناتهن من اضطرابات نفسية أو عقلية، ووفقًا لها فإن تلك الفكرة عملت على ترسيخها الصحافة التي كانت تتحكم فيها الحكومة البريطانية. وقد لاحقت هذه الفكرة النساء اللاتي كن يعبرن عن غضبهن من إنكار الحكومة لحقوقهن بجسارة في الشوارع، ومن بين أسماء عديدة طالتها أوصاف الجنون والاعتلال العقلي، كانت التبعات شديدة على البريطانيتين إيملي دافيسون وإيميلين بانكورست، فالأولى نبذها مجتمعها وتعرضت للتعذيب في السجن من رجالاته الذين تعاملوا معها كامرأة هيستيرية مجنونة (Hysterical Lunatic)، وعمد القصر البريطاني والحكومة إلى لصق هذا الوصف بها عند وفاتها التي جاءت إثر دهس حصان الملك جورج الخامس لها عندما حاولت إيقافه في احتجاج مباشر أمام حاكم البلاد على حرمان النساء من ممارسة حقوقهن السياسية. أما إيميلين بانكورست فقد طاردتها اتهامات الجنون والفساد الأخلاقي وعداء المجتمع حتى خارج بريطانيا، فعندما علم بعض الأمريكيين بنيتها أن تزور الولايات المتحدة استشاطوا غضبًا إلى الحد الذي دفع أحد سكان مدينة نيويورك إلى إرسال خطاب إلى الرئيس ودرو ويلسون يطالبه بعدم السماح بدخولها واصفًا إياها بإحدى أكثر النساء بشاعة على الإطلاق، وحينما وصلت بالفعل إلى الأراضي الأمريكية قرر المسؤولون ترحيلها بحجة فساد أخلاقها، ليهلل العشرات للقرار ويرسل بعضهم خطابات تأييد وشكر للمسؤولين عنه.
التحليل النفسي كدرع للسلطة الأبوية
نجح تغلغل الثقافة الاجتماعية الكارهة للنساء في كل مجالات الحياة في أن يُحوّل تصورات نمطية إلى تشخيصات طبية، كما هو الحال مع الهستيريا الذي رسخ فلاسفة في العصور الكلاسيكية اليونانية ثم علماء أوروبيون في العصر الحديث إلى أنه اضطراب يصيب النساء حصرًا، والسبب فيه هو الرحم الذي يعني في اللغة اللاتينية hystericus، وهي الكلمة التي جاءت منها تسمية التشخيص الذي ربط بين هذا العضو والطريقة التي تُعبّر بها المرأة عن مشاعرها خاصةً الغضب والحزن. ومع أن الجمعية الأمريكية للطب النفسي حذفت الهستيريا من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية في العام ١٩٨۰، فإن بعض المجتمعات لا تزال تعترف به كمرض نفسي كي تبرر قمع النساء سواء كان بادعاء الإصابة به صراحةً، أو الاكتفاء بعنوان الاضطراب مرفقًا بالأعراض التي طالما اقترنت بالهستيريا مثلما حدث مع العديد من النساء المحتجات على الحجاب الإجباري في إيران.
الغالبية العظمى من الفرضيات والنظريات التي صاغها المحللون النفسيون بشأن اضطراب الهستيريا وأعراضه وأسبابه، وفي مقدمتهم سيجموند صاحب أشهر نص مكتوب حول الهستيريا وهو «جزء من تحليل حالة هيستريا: حالة دورا»، تُجلي الأثر الكبير والعميق للثقافة الاجتماعية الذكوريـة على إنتاجهم حول هذا الموضوع، ووفقًا لأستاذ التاريخ مارك ميكال فإن التاريخ الطبي لتشخيص ما يسمّى باضطراب الهستيريا حتى نهاية القرن التاسع العشر يتألف من كتابات عن النسـاء قدمها علماء وباحثون رجال فقط.
وفي كتابها «مرض الأنثى: المرأة والجنون والثقافة الإنجليزية: ١٨٣٠-١٩۸٠»، توضح إلين شوولتر أن النساء (تحديدًا نساء الطبقة الوسطى البيضاوات) كان يلاحقهن النعت بالاختلال العقلي إبان العصر الفيكتوري الذي يمتد بين العامين ١٨٣٧ و١٩۰١، إذا لم يلتزمن بالقالب النمطي للمرأة الأوروبية الذي يشمل إظهار الحياء والرغبة في أن يكن أمهات والبقاء في المنزل لرعاية أسرهن، وتلفت الأديبة الأمريكية إلى أن النساء اللاتي كن يخالفن هذه التوقعات الاجتماعية بإبدائهن عدم التحمس إلى الزواج والإنجاب، أو إصرارهن على العمل خارج المنزل، أو تأييدهن ودفاعهن عن حقهن في الاشتغال بالسياسة وانتزاع حق الانتخاب، غالبًا ما كان يصنفهن القطاع الأعرض من المجتمع الطبي حينها كمصابات بالاضطرابات العصبية، وعلى رأسها الهستيريا، وكثير من هؤلاء النساء كان ينتهي بهن الحال معزولات في مصحات عقلية إذا لم يقررن بالتخلي عن القناعات والأفكار التي تتعارض مع أدوار النوع الاجتماعي التي يفرضها المجتمع للحفاظ على التراتبية بين الجنسين.
تكشف كذلك الباحثة الأمريكية دايانا شولتز أن إضفاء الصفة المرضية على عقول وأجسام النساء هو استراتيجية كرست إليها الهياكل الأبوية في الماضي ولا تزال تفعل في الحاضر، إلا أن تشخيص الإصابة بالهستيريا في السابق كان غالبًا ما يجبرهن على الخضوع لما يسمّى علاج الراحة (The Rest Cure) أو بالأحرى العزل الذي يؤدي في النهاية بالنساء إلى فقدان القدرة على التواصل الاجتماعي والتصرف وأحيانًا ينتهي بهن غير قادرات على القراءة والكتابة نتيجة إقصائهن عن المجتمع وإقناعهن بأنهن غير طبيعيات، وتوضح الباحثة الأمريكية أن الاختلاف في الوقت الحاضر يتمثل في العواقب اللاحقة على تشخيص النساء بأنهن مصابات بالهستيريا، التي تعتبرها أكثر خطورة نظرًا إلى أنها تجعلهن عرضة للتمييز في المجال العام لا سيما أماكن العمل وتسوغ العنف الذكوري ضدهن.
تعرفنا بنوك الذاكرة الطويلة إلى حقيقة لا مراء فيها وهي أن الركون إلى ذرائع الاختلال العقلي وعزل النساء بحجة الجنون لن يوقف نضالهن من أجل انتزاع حقوقهن المسلوبة، فقد تتغير حركة المنحنى وتتأثر سرعته بهذه المثبطات، لكنها لن تتمكن من وضع نهايـة له، ومما تحفظه الذاكرة كلمـة ألقتها الناشطة النسوية البريطانية إيميلين بانكورست قبل سنوات معدودة من الاعتراف الرسمي بحقوق البريطانيات السياسية، وقد تحدثت في جزء منها عن وسمها ورفيقاتها بالجنون فقالت «ماذا يمكننا أن نفعل سوى مواصلة هذه المعركة بأنفسنا؟، أريد منكن/م ألا تنظروا إلى هذه الأعمال باعتبارها أعمالًا فردية تقوم بها نساء مصابات بالهستيريا، بل أريد أن تروا أننا نفذها وفقًا لخطة محددة، وننفذها بنية محددة ولهدف محدد، ولا يمكن وقف هذه الأعمال إلا بطريقة واحدة، ألا وهي إعطائنا حق الانتخاب.»