تستقطب قضية الهجرة من دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء إلى دول شمال القارة، سواء كمقصد دائم أو كمحطة عبور نحو أوروبا، اهتمام كثير من الباحثات والباحثين حول العالم، إلا أن معظم الإنتاج البحثي في هذا الشأن يُهمّش البٌعد الجندري للقضية ويتعامى عن تقاطع نوع الجنس مع لون البشرة الذي يجعل تجارب المهاجرات من جنوب القارة إلى شمالها أكثر تعقيدًا وقسوة.

تعد المغرب وتونس وليبيا الدول الأكثر استقبالًا للمهاجرات والمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تمثل هذه الدول بالنسبة لهم معبرًا إلى أوروبا وفي بعض الأحيان تكون هي الملجأ النهائي أملًا في الخلاص من القمع السياسي أو الفقر أو الصراع المسلح أو العنف المنزلي، وبحسب تقرير لمنظمة أنقذوا الطفلات/الأطفال الدولية (Save the Children) فإن منطقة شمال إفريقيا تضم أكبر عدد من المهاجرات والمهاجرين داخل القارة، والنسبة الأكبر منهم تتركز في الدول الثلاث، المغرب وتونس وليبيا، وتصل نسبة الفتيات والنساء بينهم إلى ٤۳ في المئة.

ويُبرِزُ التقرير ذاته أن واحدة من كل ثلاث فتيات هاجرن إلى شمال إفريقيا أفصحن إما عن تعرضهن لشكل من أشكال العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي بما فيها الاغتصاب والاعتداء الجنسي، وإما عن رؤيتهن لفتاة/امرأة مقربة منهن تتعرض لأحد أشكال العنف الجنسي خلال رحلة الهجرة.

أحد أبرز أسباب الهجرة من منطقتي غرب إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء إلى شمال القارة هو التطلع إلى فرص تعليم وعمل أفضل، لكن ذلك يضع المهاجرات في مواجهة مستمرة مع العنصرية والتنمر لا فقط بسبب هويتهن كمهاجرات وإنما كونهن مهاجرات سوداوات. ويسجل تقرير منظمة أنقذوا الطفلات/الأطفال شهادة شيكينا المهاجرة من أنغولا إلى المغرب التي أفادت بأن الطلاب والمعلمات والمعلمين يستهدفونها بالإهانات اللفظية والإساءات الجسدية.

التفوق الأبيض.. وباء ينخر شمال إفريقيا

العنف ضد المهاجرات القادمات من جنوب القارة إلى شمالها بسبب لون بشرتهن ونوعهن الاجتماعي، تؤكد تفشيه الصحافية والناشطة النسوية المغربية-الإسبانية مالينو غارثون في حوار أجرته مع جمعية حقوق النساء في التنمية (AWID) في العام ٢٠١٤، وقد أوضحت في خلاله أن التمييز الذي تتعرض له النساء المهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء في المغرب، تتباين درجته تبعًا للون البشرة والدين الذي يعتنقنه، مشيرةً إلى أن الأمر لا يتوقف عند العنف اللفظي إذ يطاردهن العنف الجنسي داخل مجتمع المهاجرين وخارجه.

وفقًا لمالينو غارثون، تضطر كثير من هؤلاء المهاجرات إلى العمل بالجنس التجاري المجرم قانونيًا في المغرب، نتيجة عدم قدرتهن على الحصول على عمل حتى في القطاع غير الرسمي. أما القليلات منهن اللاتي يجدن فرصًا للعمل بالقطاع غير الرسمي، وتحديدًا العمل المنزلي المأجور، فوضعهن شديد السوء حسب ما تكشفه الصحافية والكاتبة المغربية-الفرنسية زكية داوود التي تصف حالهن بما يشبه الاستعباد نتيجة تواصل معاناتهن مع الاستغلال والانتهاكات بالإضافة إلى ارتفاع احتمالية الاتجار بهن.

في مقالها «المغرب: مهاجرات/ مهاجرو إفريقيا جنوب الصحراء عالقون»، تقول زكية داوود إن المغرب وهو بلد مُصدّر للهجرة صار أيضًا مستقبلًا للهجرة، تنال فيه العنصرية من المهاجرات والمهاجرين ذوي البشرة السوداء، بعد تجاهل متعمد من مختلف الأطراف لما يتعرض له المواطنات والمواطنون المغاربة من ذوي البشرة السوداء من تمييز وعنف على أساس اللون على مدى سنوات طوال.

التمييز العنصري في شمال إفريقيا ورغم حالة الإنكار التي تحيط به من جانب معظم سكان هذا الجزء من القارة، يظل أزمةً متجذرة في البنية الاجتماعية والفكرية لدول المنطقة الست (مصر، ليبيا، تونس، المغرب، الجزائر، موريتانيا)، وتشير أستاذة الأنثروبولوجيا الهايتية جميما بيير في مقالها «العرق في إفريقيا اليوم: تعقيب» إلى أن اعتياد تقسيم القارة إلى شمال وجنوب كما لو كان أمرًا عاديًا بدلًا من وضعه محل تحقيق، يعوق أي محاولة لفهم إشكاليات العرق ويُسقِط الجميع في فخ العمى العرقي.

تجادل جميما بيير بأن انقسام القارة إلى شمال عربي أبيض وجنوب إفريقي أسود هو نتيجة لما كرس إليه الاستعمار الأوروبي عن أن الأشخاص ذوي البشرة البيضاء أو الأقرب إلى البيضاء في دول جنوب البحر المتوسط أقرب إلى أوروبا جغرافيًا وحضاريًا، مشددةً على أن الاستمرار في وصف شمال إفريقيا بأنها مختلفة حتمًا عن إفريقيا السوداء لا يعيد كتابة هذا التسلسل الهرمي فحسب، بل إنه يحول دون رؤية العنصرية بوصفها عملية ديناميكية، ويفوّت الفرصة على فهم منطقتي شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء كمساحات للإنتاج المستمر للعنصرية والتفوق الأبيض.

تتفق مع جميما بيير الأكاديمية التونسية آمال قرامي التي تعزي العنصرية ضد مهاجرات ومهاجري جنوب الصحراء في الدول الناطقة بالعربية عمومًا والموجودة في شمال إفريقيا خصوصًا، إلى تجريد الشمال من بُعده الإفريقي على يد النظام الاستعماري الأوروبي الذي عمد إلى تقسيم القارة وتصنيف شعوبها عرقيًا وإثنيًا وثقافيًا مستندًا إلى النظريات التي ابتدعها في الطب والبيولوجيا والإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم ليثبت مزاعمه عن تفوق صاحبات وأصحاب البشرة البيضاء على ذوات وذوي البشرة السوداء، مما رسخ لدى شعوب دول شمال إفريقيا التي تتحدث العربية ويدين معظمها بالإسلام، أنه لا صلة بينها وبين شعوب الجنوب وأنها الأعلى شأنًا في القارة.

ومثلما تتجذر العنصرية في الثقافة الاجتماعية في شمال إفريقيا، تبقى الذكوريـة ضاربة بجذورها في عمق البنى الثقافية مما يشرعن ممارسات وخطابات الكراهية والاستعلاء تجاه النساء وأصحاب البشرة السوداء خاصةً المهاجرات والمهاجرين القادمين من الجزء الجنوبي في القارة، إلا أن المهاجرات الإفريقيات ذوات البشرة السوداء يعانين من اضطهاد مضاعف ومستويات أعلى وأعقد من العنف بالمقارنة مع ما يجابهه نظرائهن الذكور بسبب التقاطع بين هويات: نوع الجنس والعرق واللون وأحيانًا الدين.

تنتقد آمال قرامي في تقديمها لكراس «المهاجرات الإفريقيات من جنوب الصحراء: في تقاطع الجندر والعنصر» تجاهل البحث النسوي في الدول الناطقة بالعربية للتقاطع بين النوع والعرق في تشكيل تجارب المهاجرات ذوات البشرة السوداء في دول شمال إفريقيا وكذلك دول الخليج والمشرق العربي، وعلى رأسها لبنان الذي تمثل المهاجرات الإفريقيات النسبة الأكبر من العاملات المنزليات فيه واللاتي يتعرضن إلى اضطهاد مركّب في ظل غياب أي شكل من أشكال الحماية القانونية. وتلفت آمال قرامي الأستاذة بجامعة منوبة التونسية إلى أن معظم المقاربات النسوية للتمييز والعنف الذي تواجهه المهاجرات السوداوات في هذه البلدان تركز على نوعهن الاجتماعي وهويتهن كنساء، وتتعامل معهن كما لو كن كتلة واحدة وتجاربهن متماثلة.

المهاجرات وأساطير الجسد الأنثوي الأسود

تكشف مالينو غارثون الناشطة النسوية وعضوة شبكة نمشي معًا من أجل الحقوق في مناطق الحدود (الاسم الرسمي: Caminando Fronteras Network) أن النساء المهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء إلى المغرب تطاردهن الإساءات اللفظية ويلاحقهن العنف الجنسي من جراء ثقافة متحيزة واستعلائية، كما أن العديد من المهاجرات القادمات من الكاميرون إلى الجزائر يتحولن إلى ضحايا للاستغلال الجنسي على أيدي شبكات الاتجار بالبشر بسبب الثقافة ذاتها.

وضع المهاجرات من جنوب الصحراء في تونس لا يقل سوءًا، وهو ما تؤكده الباحثة التونسية خولة الفرشيشي في مقالها «مهاجرات إفريقيا جنوب الصحراء وسياسات الشارع في مدينة صفاقس بين الاستغلال المضاعف والقدرة على المقاومة»، الذي تشير فيه إلى أن المهاجرات يصطدمن بعد وصولهن إلى تونس بواقع فيه «السواد» وصمة تتحكم في نظام المعاملات، وتوزيع فرص العيش والسكن والصحة، لتصبح إمكانات الاختيار شبه معدومة وأشكال المقاومة محدودة.

وبيد أن العنصريـة ضد المهاجرات والمهاجرين من جنوب الصحراء في شمال إفريقيا هي مشكلة قديمة جديدة، فقد ازدادت على نحو ملحوظ حملات العنف المنظم القائم على أساس العرق واللون في تونس منذ بداية العام ٢٠٢٣، بعد خطاب تحريضي من الرئيس التونسي قيس سعيد فتح الباب أمام اعتداءات فرديـة وهجمات بوليسية وصفتها منظمة العفو الدولية بغير المسبوقة. وتبعًا لمؤسسة المرأة من أجل المرأة السويدية (Kvinna till Kvinna)، فإن وضع المهاجرات الإفريقيات كان الأسوأ والأكثر هشاشة في ضوء تعرضهن خلال هذه الهجمات إلى التحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب والاعتداء الجسدي، ولم تسلم الحوامل منهن من كل هذا العنف.

العنف الجنسي ضد المهاجرات من جنوب الصحراء إلى تونس، لا يحدث في سياق تحكمه القوة والهيمنة الذكورية فقط، إذ يقول الباحث التونسي رضا كارم إن المهاجرات السوداوات يتحولن إلى أدوات لإمتاع الرجال البيض أو فضاءات لتفريغ الكبت والغضب أو وسائل للمقايضة، ويؤكد الباحث التونسي، بناءً على عدد من الشهادات التي جمعها، على تأثر العديد من الرجال التونسيين بالأساطير التي صاغها المستعمر الأوروبي حول الجسد الأنثوي الأسود، إذ عبّر بعضهم عن قناعته بأن النساء السوداوات لديهن فرط في الرغبة والنشاط الجنسيين، بينما أبدى آخرون اشمئزازهم من أجسادهن الداكنة لأنها لا تتوافق مع الجمال المعياري الذي يحتكره الجسد الأنثوي الأبيض.

الطريق إلى تغيير الواقع الحالي وتقويض العنف الذي يطال المهاجرات ذوات البشرة السوداء في الجزء الشمالي من قارتهن الإفريقية، يبدأ بالاعتراف بتاريخية وتجذر العنصرية في ذهنية سكان شمال القارة، ولا يمكن أن يخلو هذا المسار من خطاب نسوي تقاطعي يعني بالتداخل والتشابك بين مصادر القمع المختلفة حتى إذا كان أحدها أكثر بزوغًا من الآخر، لكي يكون مرجعيةً للخطوات العملية التي تتخذها الجماعات الفاعلة على الأرض من أجل حماية حقوق النساء اللاتي اخترن الهجرة أو اضطررن إليها بحثًا عن العدالة.