التمييز على أساس النوع إذ يرتقي إلى الأبارتايد: المساعي النسوية لإدراج جريمة الفصل الجندري في القانون الدولي
تصنّف المادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الفصل العنصري أو (Apartheid) جريمةً من الجرائم ضد الإنسانية، ويأتي هذا المصطلح اشتقاقًا من كلمة (Apartness) في اللغة الأفريكانية (Afrikaans) المنتشرة في جنوب إفريقيا، وتعني الفصل بين عنصرين.
كثيرًا ما يشار إلى أن بداية تطبيق سياسات الفصل العنصري التي مارستها حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا كانت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، على خلفية تهاوي النفوذ البريطاني في العالم واضطرار حكومة المملكة المتحدة إلى رفع يدها تدريجيًا عن معظم مستعمراتها وتسليم مقاليد الحكم فيها إلى حكومات من الداخل. لكن في واقع الأمر، تعود جذور الفصل العنصري إلى ما قبل ذلك بعقود عديدة وتحديدًا منذ بدء توطين المواطنات والمواطنين الأوروبيين في جنوب إفريقيا، ويرجع استخدام مصطلح الفصل العنصري لأول مرة في إطار توصيف وتحليل الفصل بين المواطنات والمواطنين السود والمستعمرين البيض إلى العام ۱٩۲٩، حين استخدمها القس الجنوب إفريقي جان كريستوفر دو بليسيس في كلمة ألقاها أمام مؤتمر محلي يناقش ديناميات العلاقة بين السكان الأصليين للجزء الجنوبي من القارة والمستعمرين الأوروبيين.
استخدام مصطلح الفصل العنصري للتدليل على التمييز المؤسسي والاضطهاد المنهجي للأفراد والجماعات على أساس العرق أو الإثنية كما نعرفه اليوم، تبلور على مدى العقود في جنوب إفريقيا ليكون العنوان الذي يُعرّف القوانين والسياسات والممارسات التي كرست إلى تفوق العرق الأبيض فيما بين العامين ۱٩٤٩و۱٩٩۱، وكانت أداة بأيدي حكومة الأقلية لترسيخ هيمنة وسطوة ذوات وذوي الأصول الأوروبية على المواطنات والمواطنين الأصليين وكذلك المواطنات والمواطنين ذوي الأصول الهندية الذين كانت تنقلهم قسرًا سلطات الاستعمار البريطاني بين مستعمراتها في إفريقيا وآسيا.
في ظل هذا النظام لم يكن بإمكان المواطنات والمواطنين المنحدرين من أعراق غير أوروبية الاستفادة من كثير من الخدمات الاجتماعية، أو التواجد في الأماكن العامة المخصصة لذوات وذوي البشرة البيضاء، كما فرّقت الحكومة على أساس العرق في خدمات التعليم والنقل والرعاية الصحية، فكانت دائمًا النسخ الأقل جودة هي المتاحة للمواطنات والمواطنين من غير البيض. فضلًا عن أن الحق في الحركة والتنقل بحرية لم يكن مكفولًا لجميع من يعشن ويعيشون في جنوب إفريقيا، إذ كان ينبغي على المواطنات والمواطنين ذوي البشرة السوداء الحصول على تصريح قبل الانتقال من مدينة إلى أخرى.
تحوّل الفصل العنصري من مجرد مصطلح وصفي إلى تعبير قانوني يحدد جريمة من الجرائم ضد الإنسانية مع إصدار المعاهدة الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها في العام ۱٩٧۳ (لم تنضم إليها وقتها دولة جنوب إفريقيا)، ثم الإعلان عن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في العام ۱٩٩٨ ودخوله حيز التنفيذ في العام ۲۰۰۲. وتُمثّل هذه الوثائق القانونية الدولية في الوقت الحالي سندًا ترتكن إليه الجماعات المدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت سياسات الفصل العنصري الممنهجة التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة لما يزيد عن ٧۵ عامًا، إذ تستعملها هذه الجماعات والمنظمات للضغط على المجتمع الدولي والمحكمة الجنائية الدولية من أجل إصدار قرار يعترف بترسيخ الحكومة الإسرائيلية لنظام الفصل العنصري بحق الشعب الفلسطيني ويدينها بارتكاب جريمة ضد الإنسانية وفقًا لما هو منصوص عليه في القانون الجنائي الدولي.
وتتمثل بعض أبرز مظاهر جريمة الفصل العنصري في هيكلة التمييز والتفرقة بين مجموعات أو فئات بناءً على صفات معينة يمتلكها بعضها ويفتقدها بعض آخر، عن طريق شرعنة الفصل والحرمان في أماكن السكن، والعمل، والنقل، والتعليم، والرعاية الصحية، وحتى أماكن الترفيه لأن جماعة ما ترى في نفسها تفوقًا على الأخرى بسبب امتلاكها لصفة تعتبرها مميزة، ومن ثم تسعى إلى الحفاظ على التراتبية التي خلقتها عبر نظم قانونية واقتصادية وثقافية.
وفي ضوء هذه الملابسات المشمولة في التعريف الدولي كتجليات للفصل العنصري، فلا يبدو قصر الهويات التي يقع على أساسها جريمة الفصل على العرق والإثنية فقط أمرًا واقعيًا، بالنظر إلى نمط الحياة المرغمة عليه ملايين النساء في دول مختلفة، ويعانين في إثره من قوانين قمعية وسياسات اضطهادية تفرض حالة الفصل ذاتها ولكن على أساس هوية نوع الجنس بدلًا من العرق، حيث تعيش النساء في ظروف قهرية جذورها هي القيم الأبوية التي لا تسوّغ بل تفرض استلابهن وإخضاعهن بدعوى تفوق الرجل على المرأة، وهذا هو الوضع في إيران وأفغانستان وكما كان في السعودية حتى وقت قريب؛ وهو ما يثير تساؤلات حول الحاجة إلى إدراج نوع الجنس ضمن الهويات التي قد ترتكب الحكومات جرائم الفصل على أساسها، والجدوى التي من المرجح أن تتحقق إذا ما أضحى الفصل الجندري مصنفًا ضمن الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي على غرار الفصل العنصري.
النوع الاجتماعي وجريمة الفصل الممنهج على أساس الهوية
تعد الكاتبة النسوية الإيرانية مهناز أفخمي واحدة من أوائل الذين استخدموا مصطلح جريمة الفصل الحندري لوصف النظم القانونية والاقتصادية والثقافية القمعية التي تصوغها وترسخها الحكومات الأصولية الإسلامية في العديد من دول الجنوب العالمي لكي تعزل النساء عن المجال العام. وفي مقال أكاديمي نشرته في العام ۱٩٩٩ بعنوان «الفصل العنصري على أساس النوع وخطاب نسبية الحقوق في المجتمعات الإسلامية» ، تتحدث مهناز أفخمي عن صعود التيار الإسلامي الراديكالي في بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة وما ترتب عليه من تشكل أنظمة فصل على أساس النوع الاجتماعي تماثل نظام الفصل العنصري، مستشهدةً بواقع النساء في إيران منذ العام ۱٩٧٩، وفي أفغانستان إبان فترة حكم طالبان الأولى ما بين العامين ۱٩٩٩ و۲۰۰۱، وفي الجزائر في أعقاب وصول التيار الإسلامي المتشدد إلى الحكم ثم تورطه في صراع دموي في تسعينيات القرن الماضي.
لكن أستاذة القانون الجنوب إفريقية بينيلوبي أندروز هي التي يٌعزى إليها إعطاء مرئية أكبر لمفهوم نظام الفصل الممنهج على أساس النوع الاجتماعي، خاصةً أنها قد انخرطت في محاجة ذات أسانيد قوية حول ضرورة إعادة تعريف جريمة الفصل (Apartheid) في القانون الجنائي الدولي، لكي يضاف نوع الجنس إلى الهويات التي تُرتَكَب على أساسها الجريمة، وكانت باكورة مساعيها في هذا الشأن هي كتاب «من كيب تاون إلى كابول: إعادة التفكير في استراتيجيات السعي وراء حقوق النساء» الصادر في العام ۲۰۱۲، والذي يقدم تحليلًا معمقًا وشاملًا للتقارب بين سياسات وممارسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا من ناحية، والقوانين والقرارات التي تقمع النساء الأفغانيات وتقصيهن عن الحياة العامة تحت حكم طالبان (الأول) من ناحية أخرى، وقد جعلت بينلوبي أندروز من تحليلها قاعدة انطلقت منها في شرح أهمية إدخال مصطلح الفصل الجندري (Gender Apartheid) إلى المعاهدة الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، بما يمهد الطريق نحو اجتراح آليات محاسبة للنظم والحكومات التي ارتكبت في السابق أو لا تزال ترتكب هذه الجريمة بحق النساء والفتيات.
وبيد أن ما طرحته الأكاديمية النسوية الجنوب إفريقية عن ظروف الفصل القائم على النوع الاجتماعي في أفغانستان كانت تعني بفترة حكم حركة طالبان فيما بين العامين ۱٩٩٩ و۲۰۰۱، إلا أن جل ما تناولته عن حياة النساء والفتيات وقتها لا يختلف عن ما هو قائم في الوقت الراهن بعد استيلاء طالبان مرة أخرى على الحكم في العام ۲۰۲۱، فقد عكفت الحركة المتطرفة على مدى السنوات الثلاث الماضية على تكريس عزل النساء عن المجال العام وإخضاعهن بشكل تام لسيطرة الرجال، عبر قرارات متلاحقة تقوض فرصهن في الحصول على تعليم نظامي، ومراسيم تقضي بوقف عملهن في المنظمات الدولية وتحظر عليهن إدارة أي عمل تجاري بما في ذلك المراكز الطبية والمخابز وصالونات التجميل وتمنعهن من السفر من دون محرم (ذكر تربطهن به صلة قرابة من الدرجة الأولى)، بالإضافة إلى أوامر منع الاختلاط بين الجنسين في الأماكن والمواصلات العامة، وإلزام المقاهي في العديد من المدن بالامتناع عن خدمة أي امرأة إذا لم يكن برفقتها محرم، وقبل كل ذلك إرغام النساء والفتيات على تغطية أجسامهن بعباءات سوداء وإخفاء وجوههن خلف النقاب.
هذه الظروف التي تعيش تحت وطأتها النساء والفتيات في أفغانستان رغم أنها الأقسى في العالم، إلا أن المناخ الذي تعيش في كنفه جاراتهن في إيران ليس أفضل كثيرًا، فالفصل الجندري ينحسب أيضًا على حالة النساء الإيرانيات اللاتي انتفضن قبل عامين تحت شعار «النساء، الحياة، الحرية» في موجة احتجاجات عارمة ضد النظام الإيراني الذي أرسى على مدى أربعين عامًا دعائم سلطته الاستبدادية التي يأتي بين ركائزها الأساسية قمع النساء بواسطة ترسانة تشريعية تقونن الاعتداء عليهن بكل الصور الوحشية من جلد ورجم وإعدام، وتكرس إلى السيطرة على أجسامهن عبر إلزامهن بارتداء الحجاب وتجريم الإجهاض، فضلًا عن إبعادهن عن الفضاء العام عن طريق قوانين تفصل بين الجنسين في كثير من الأماكن العامة، وتعطي الزوج الحق في منع زوجته من الاشتغال بوظيفة معينة إذا اعتبرها تخالف قيم المجتمع أو تضر بسمعته، وتحظر سفر النساء من دون موافقة أولياء الأمر والوصاة من الذكور.
مسار التغيير: من الإطار النظري إلى النشاط العابر للحدود
على مدى الأعوام الـ۱۲ الماضية، بذلت الأكاديمية والناشطة النسوية الجنوب إفريقية بينيلوبي أندروز جهودًا حثيثة بغية حشد تأييد من منظمات دولية وهيئات أممية وشخصيات عامة لمسألة تصنيف اضطهاد النساء الممنهج وإبعادهن المشرعن بالقانون عن المجال العام كجريمة فصل جندري تندرج ضمن الجرائم المحددة في القانون الجنائي الدولي كجرائم ضد الإنسانية مثل الفصل العنصري والإبادة الجماعية والاستعباد الجنسي والإخفاء والترحيل القسريين. لكن بينلوبي أندروز ليست الوحيدة التي سلكت هذا المسار؛ فقد قدمت العديد من الأكاديميات والباحثات النسويات في دول الجنوب العالمي خلال العقدين الماضيين مقاربات تحليلية لجرائم الفصل الجندري التي ترتكبها النظم والحكومات ذات الأيديولوجيات الأبوية الأصولية، ومن بينهن الباحثة الجزائرية-الأمريكية كريمة بنون، وأستاذة القانون الإيرانية شيرين عبادي.
أما السنوات الثلاث الماضية، فقد شهدت انتقالًا من مرحلة التأطير النظري لجريمة الفصل الجندري إلى النشاط الاستراتيجي الرامي إلى تعظيم جهود الضغط والمناصرة، ويتجلى هذا في الحملة النسوية العابرة للحدود التي تحمل اسم أوقفوا الفصل الجندري اليوم (End Gender Apartheid Today)، وقد نجح تكتل الشخصيات والمنظمات النسوية الأفغانية والإيرانية الذي يقف وراء الحملة في حشد مزيد من الدعم لمطلب توسيع نطاق التعريف القانوني لجريمة الأبارتيد أو الفصل، ويتجسد ذلك في الأعداد المتزايدة للتوقيعات التي تحصدها العريضة التي أطلقتها الحملة للضغط على الدول الأعضاء بالأمم المتحدة من أجل إضافة مصطلح الفصل الجندري (Gender Apartheid) في مسودة معاهدة الجرائم ضد الإنسانية التي من المقرر أن تكون على أجندة التصويت أمام اللجنة السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة (اللجنة القانونية) قبل نهاية نوفمبر المقبل، لتحديد ما إذا كانت ستدخل مرحلة المفاوضات الرسمية أو تعود إلى الأدراج، علمًا بأن هذه المعاهدة إذا تجاوزت المراحل التالية ستكون أول صك دولي منذ إصدار نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يختص بالجرائم ضد الإنسانية ويعالج القصور الموجود في التعريفات والعقوبات الواردة في الوثيقة الصادرة قبل ۲٦ عامًا.
*جميع الصور المرفقة حاصلة على رخصة الاستخدام