يشار إلى العقد الثاني من الألفية الثالثة بوصفه البداية الفعلية للموجة النسوية الرابعة، ليس فقط في الشمال العالمي، بل كذلك في الجنوب، بعد أن تنامى بقوة اعتماد الحركات النسوية في نشاطها على المنصات الإلكترونية، وذلك في إطار التمدد السريع للناشطية الرقمية خاصةً مع تحول مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما فيسبوك وتويتر، إلى ركن من أركان الحياة اليومية للأفراد.

ورغم أن بوادر الناشطية النسوية الرقمية تعود إلى السنوات الأولى من الألفية الثالثة، فإن ما يميز العقد الثاني عن الأول هو الانتقال من النشاط الفردي والمبادرات الشخصية ذات الطابع النسوي إلى النشاط الجماعي المنظم، إذ اتسمت مرحلة ما قبل عام ۲۰۱۰/۲۰۱۱ باستغلال المساحات الرقمية المتاحة عبر المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن وجهة نظر نسوية، أو فتح نقاشات محدودة النطاق حول أوضاع النساء في مجتمعاتهن، أو أرشفة الإنتاج النسوي الورقي المبعثر في خزائن المكتبات وأقبية المؤسسات، أو نشر أعمال مكتوبة وأحيانًا بحثية عن المشكلات والأزمات المعاصرة؛ كل ذلك في بيئة تخلو – إلى حد كبير- من عراقيل الرقابة على المضمون، وإشكاليات التمويل، وقيود الحدود الجغرافية.

أما السنوات التالية لـ ۲۰۱۰/۲۰۱۱، فقد تمثلت مظاهر النشاط النسوي الجماعي عبر الفضاءات الرقمية في أشكال تتوازى مع تلك التي تجري على أرض الواقع، ويأتي على رأسها الاحتجاجات الإلكترونية التي غالبًا ما يكون الوسم (الهشتاغ) هو عنوانها ومحركها، ويغدو الوسم في هذه الحالة مثل «الميدان» في الفضاء الواقعي الذي تقصده المحتجات من مختلف الاتجاهات المؤدية إليه، وفيه تصدح أصواتهن بالغضب، وترتفع في جنباته لافتات مدون عليها عبارات ورسوم ساخطة وأحيانًا ساخرة، بينما تستقبل الوسوم تغريدات وتدوينات وصور ومقاطع وكذلك رسوم هزلية، وكلما ازداد التفاعل مع هذه المنشورات وتضاعف تداول الوسم، تعدى تأثير الاحتجاج عتبة الواقع الافتراضي إلى الواقع الفعلي.

منذ بداية العقد الثاني أيضًا، تعاظم لجوء الناشطات والجماعات النسوية إلى العرائض الإلكترونية كوسيلة احتجاج بديلة للعرائض الورقية، نظرًا لما يمكنهن تحقيقه بواسطتها، إذ صار من اليسير أن يجمعن آلاف التوقيعات على العريضة الواحدة من دون أن يتحملن مشقة التنقل من مدينة إلى أخرى أو بلد إلى آخر، ومن دون أن يضعن أنفسهن في مهب مضايقات الأفراد العاديين، أو الشرطيين، أو وكالات إنفاذ «القانون.»

أعطت هذه المساحات الافتراضية، التي لم يكن للرقباء وقتها سيطرة محكمة عليها، مذياعًا بعيد المدى لكثير من الأصوات التي تعرّضت على مدار عقود طوال إلى التهميش والتجاهل في الفضاء النسوي الواقعي سواء على المستويات المحلية والوطنية أو الدولية، مثل أصوات من هن خارج مركز الدولة أي العواصم أو المدن الرئيسة، ونساء الطبقة العاملة، والنساء المنتميات للشعوب الأصلية، وكذلك النساء الكويريات، إذ غدت تجاربهن مرئية بدرجة لم تكن ممكنة خارج  الفضاء الافتراضي، ومكنتهن ضبابية الحدود على هذا الفضاء من التنسيق والتشبيك مع المجموعات النسوية ذات القناعات والأهداف المماثلة في أي مكان كانت.

أصوات تتجاوز عتمة الهامش ودوائر نضال تتشابك

سمحت تطبيقات التواصل الاجتماعي بخلق مساحات للنساء اللاتي طالما تعرضن للتهميش بسبب وجودهن خارج المركز في بلدانهن، مثلما هو حال الحركة النسوية المصرية التي اتسمت بانحسار نشاطها وخطابها داخل المركز المتمثل في العاصمة القاهرة، إلى أن اندلعت ثورة يناير في العام ۲۰۱۱ التي حاذتها انتفاضة حقوقية ونسوية ضد العنف الجنسي واستهداف أجسام النساء في المجال العام.

وفي أعقاب الثورة، انغمست في الحراك النسوي نساء من محافظات بعيدة عن المركز، بما فيها محافظات الصعيد التي طالما عزل الخطاب المركزي أصوات نسائها، وذلك عن طريق الشبكات الافتراضية التي أتاحت لهن الوصول برؤيتهن ومشاكلهن ومطالبهن إلى قطاعات واسعة في الداخل المصري، عبر حملات إلكترونية تهدف إلى نقل صورة واقعية عن المشكلات التي تطال النساء بسبب خصوصية جغرافية وديموغرافية.

اللافت في معظم هذه التجارب هو أن النشاط الرقمي سبق النشاط على الأرض، على عكس ما كان متعارفًا عليه خلال السنوات القليلة السابقة على ثورة العام ۲۰۱۱، عندما كان الحراك على أرض الواقع هو ما يحل أولًا.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تجربة النساء الأصليات في كندا واستغلالهن للفضاء الإلكتروني لتحريك الماء الراكد فيما يخص معاناتهن طويلة الأمد من العنف المزدوج، خاصةً عندما قررت في العام ۲۰۱۵ ناشطات ومنظمات معنية بالدفاع عن حقوق نساء الشعوب الأصلية إطلاق حملة إلكترونية عنوانها هو وسم (#MMIWG) الذي يختصر مسمّى (النساء والفتيات الأصليات المفقودات والمقتولات)، وهدفها هو إدراج قضية العنف القائم على النوع والعرق ضد النساء الأصليات، ضمن قائمة القضايا ذات الأولوية في الانتخابات التشريعية التي كانت تستعد البلاد لعقدها في خريف ذلك العام.

اختارت الحركة آنئذٍ موقع تويتر ليكون الحاضن للاحتجاج الإلكتروني الذي ركز على تواطئ الحكومة الكندية، وطالب الأحزاب المتنافسة في الانتخابات بالتعهد في حالة الفوز بالإعلان عن تحقيق وطني في مقتل واختفاء المئات من النساء الأصليات على مدى العقود الأربعة الماضية، وقد حققت الحملة انتشارًا واسعًا وصلت أصداؤه إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني فيها النساء الأصليات من المشكلة ذاتها، وبلغت الحملة ضالتها مع إعلان زعيم الحزب الليبرالي جاستن ترودو عقب توليه رئاسة الحكومة، عن تدشين تحقيق رسمي في اختطاف وقتل ما يقرب من ۱۲۰۰ امرأة من السكان الأصليين في كندا منذ ثمانينيات القرن العشرين. وقد صدر التقرير النهائي للتحقيق في منتصف العام ۲۰۱٩، وتبعه إطلاق خطة عمل وطنية للتصدي إلى العنف الموجه ضد النساء الأصليات.

استلهام طرق المقاومة يمضي في اتجاهين لا اتجاه واحد

فتح الفضاء الرقمي منفذًا لانتقال العديد من تجارب المقاومة النسوية في الجنوب العالمي إلى الشمال على عكس مسار التدفق في الفضاء الواقعي الذي عادةً ما كان يتحرك من الشمال إلى الجنوب في اتجاه واحد، وواحدة من أبرز هذه التجارب هي الخاصة بالنشيد النسوي التشيلي (el violador en tu camino) أو المغتصب في طريقكِ، الذي انتقل بوصفه أداة احتجاج نسوي من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو نشيد صاغته وأدته المجموعة النسوية التشيلية (LASTESIS) أمام المحكمة العليا التشيلية في الـ ۲۵ من نوفمبر في العام ۲۰۱٩، تزامنًا مع اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد النساء، وقد حرصت المجموعة على توثيق هذا الاحتجاج ونشره عبر قناتها على موقع الفيديو يوتيوب بالإضافة إلى حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ليحظى العرض بآلاف المشاهدات في غضون ساعات معدودة، وتتلقفه مجموعات نسوية في أمريكا اللاتينية لتعيد تأديته مصحوبًا بالاستعراض ذاته في بلدان كالمكسيك والأرجنتين.

الانتشار تجاوز حدود أمريكا اللاتينية بفضل الفضاء الرقمي، إذ ظهرت عروض أخرى له في الولايات المتحدة ودول أوروبية عدة، حيث أدته ناشطات نسويات يتحدثن الإسبانية في مدن مثل لندن، وبرلين، وباريس، بالإضافة إلى نيويورك التي أدت فيها الناشطات النشيد بالإسبانية والإنجليزية معًا أمام مبنى المحكمة التي كانت تشهد آنئذٍ انعقاد جلسات محاكمة المنتج الأمريكي هارفي واينستين، الذي كانت شهادات العديد من العاملات بصناعة السينما الأمريكية ضده في صحيفتي نيويورك تايمز ونيويوركر هي وقود حراك (#Metoo) أو أنا أيضًا الذي انطلق في أكتوبر من العام ۲۰۱٧ عبر منصة تويتر، ثم شق مجراه نحو بقية تطبيقات التواصل الاجتماعي وانتقل من الولايات المتحدة الأمريكية إلى دول أخرى، في واحد من أهم تجليات النسوية الشبكية (Networked Feminism) خلال السنوات الأخيرة.

لم يكن المشترك في كل الوقفات الاحتجاجية التي شملت عروضًا لنشيد المغتصب في طريقكِ، هو فقط الالتزام بطريقة الأداء نفسها، بل أيضًا حرص هذه المجموعات على توثيق العروض ونشرها عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي كي تصل إلى أكبر عدد ممكن من الأفراد والجماعات والكيانات، وهو ما لعب دورًا في الانتقال السريع والواسع للنشيد ليصبح في غضون أسابيع قليلة ظاهرة عالمية.

السبب الرئيس في ذيوع هذه الأنشودة وتحولها إلى طريقة احتجاج عابرة للحدود على العنف الجنسي ضد النساء، هو كلماتها التي تلخص بدقة وجرأة تجارب النساء الشخصية والجماعية في مجتمع تسوده ثقافة الاغتصاب، وتغض فيه السلطة ومؤسساتها الطرف عن الجرائم التي تستهدف النساء، وفي بعض الأحيان تكون هي مرتكبها.

الكلمــات:

الأبوية هي القاضي الذي يحكم علينا لأننا ولدنا

وعقابنا هو العنف الذي لا تراه

إنه قتل النساء، إنه الإفلات من العقاب لمن يقتلنا

إنه الاختفاء، إنه الاغتصاب

لم يكن خطأي، أو أين كنت، أو كيف كانت ملابسي

المغتصب هو أنت، المغتصب هو أنت

إنها الشرطة، والقضاة، والدولة، والحاكم

الدولة القمعية مغتصب مفتول العضلات

المنفذ – شبه – الوحيد للناشطية النسوية في ظروف القمع

في حوار مع منصة (Rest of World) أو باقي العالم الأمريكية، تقول الصحافية والناشطة النسوية الصينية لوو بين، إن الشيء الذي تختص به الحركة النسوية في الصين هو أن كل نشاطها تقريبًا يحدث على الإنترنت.

بدأ النشاط النسوي الرقمي في الصين خلال السنوات الأولى من الألفية الثالثة في ظل قيود صارمة من الحزب الشيوعي الحاكم، ولذا احتكر معظم النشاط اتحاد كل نساء الصين (All China Women Federation) التابع للحزب والنظام الحاكم بالإضافة إلى عدد قليل من المنظمات التي تتبنى خطابًا مماثلًا للاتحاد والحزب الشيوعي، وقد تركز في نشر إنتاج معرفي وتثقيفي حول قضايا المساواة الجندرية والعنف والتمييز الجنسيين.

الخروج من هذه الشرنقة بدأ في العام ۲۰۱۰ توازيًا مع التصاعد المتراكم لشعبية تطبيقات التواصل الاجتماعي الصينية مثل (Weibo) الذي يناظر تويتر، و(WeChat) الذي يقترب كثيرًا من فيسبوك، فقد عرفت حينها الناشطية النسوية الرقمية في الصين حالة ازدهار بعد أن وجدت النساء مساحات لا تقيدها قواعد المنظمات النسوية التابعة للحزب الحاكم، وأضحى بوسعهن مشاركة قصصهن الشخصية عن العنف المنزلي، أو التمييز في أماكن العمل على أساس النوع/الجندر، أو القوالب النمطية التي يعانين إثرها في حياتهن اليومية، بالإضافة إلى التعبير عن غضبهن إزاء المعاناة المفروضة عليهن، وتبادل الأفكار حول سبل النجاة في ظل البيئة الاجتماعية المتصالحة مع العنف ضدهن.

وقد شهد العام ۲۰۱۰ ظهور أحد أهم المنصات النسوية الإلكترونية في الصين وهي أصوات نسوية (Feminist Voices)، التي بدأت كحساب على موقع (Weibo) دشنته الصحافية والناشطة النسوية لوو بين لتنشر من خلاله محتوى صحافي وبحثي عن حقوق النساء المنتهكة اجتماعيًا وقانونيًا، والمشكلات المسكوت عنها في المجتمع الصيني كالعنف المنزلي والتحرش الجنسي، وسرعان ما انضم إليها كاتبات وكتاب مستقلين وناشطات وناشطون حقوقيون، لتزداد شعبية الحساب ويصعد إلى نصف المليار متابعة ومتابع في الصين وحدها بعد أربع سنوات من إطلاقه.

تصف الباحثة ينغشو وو الازدهار الذي عرفته الناشطية النسوية الرقمية في الصين بالتحول الجذري، معتبرةً أن شعار الشخصي سياسي الذي ارتبط بالموجة النسوية الثانية تجلى مع النشاط الرقمي بفضل المرئية التي يعطيها لمستخدماته ومستخدميه، وهي الرؤية التي تتفق معها الباحثة الأمريكية روزماري كلارك بارسونز، إذ تشير في كتابها إلى أن نسوية الهاشتاغ (Hashtag Feminism) أضحت بمثابة أداء تجعل من خلاله الناشطات الشخصي سياسيًا، اعتمادًا على المرئية التي يمنحها الفضاء الرقمي للأفراد والجماعات وما يطرحونه عبره، فضلًا عن الفرص التي يوفرها هذا المجال الافتراضي لربط الفرد يالجماعة مما يساهم في كشف الطبيعة المنهجية للظلم الاجتماعي.

شجع المتسع الذي تركته السلطات الصينية للنشاط النسوي الرقمي (عبر منصاتها المحلية)، بعض المجموعات النشطة إلكترونيًا على الشروع في نقل بعض احتجاجاتها إلى الفضاء الفعلي، وقد مرت بعض هذه الحوادث من دون عرقلة، ولعل أبرزها هي أول تظاهرة ضد العنف المنزلي تقام في العاصمة بيجين، التي نفذتها ثلاث ناشطات في الـ ۱٤ من فبراير في العام ۲۰۱۲ بالتزامن مع عيد الحب، وقد ارتدين يومها فساتين زفاف بيضاء مضرجة بالدماء، ورفعن لافتات مكتوب عليها «العنف لا ينتمي إلى هذه المنطقة»، و«العنف، هل ما زلتِ صامتـ/ة؟» و«المساواة ثم التوافق.»

لكن الاحتجاج النسوي غير الرقمي تلاشى تقريبًا في أعقاب اعتقال الشرطة الصينية لخمس ناشطات نسويات في مارس من العام ۲۰۱۵، على خلفية تخطيطهن لتوزيع منشورات ضد التحرش الجنسي في المواصلات العامة بالتزامن مع اليوم الدولي للمرأة في الثامن من الشهر.

قضت الناشطات الخمس ۳٧ يومًا قيد الاحتجاز قبل أن تضطر السلطات الصينية إلى إطلاق سراحهن تحت ضغط محلي وعالمي، كانت تطبيقات التواصل الاجتماعي هي شراراته، فمثلما انتشر وسم (#Freethefive) أي أطلقوا سراح الخمس على التطبيقات الإلكترونية الصينية، برز أيضًا على تطبيقات تويتر وانستغرام وفيسبوك.

بعد هذه الحادثة، لم يعد النشاط النسوي المستقل ممكنًا في الفضاء الواقعي، وعادت المنصات الرقمية هي منفذ النشاط الوحيد للناشطات والمجموعات النسوية الصينية التي لا تتبنى أجندة وآراء تتوافق مع النظام الحاكم.

لقد أعطت الناشطية الرقمية – من دون أدنى شك – دفعة هائلة للحركات النسوية في شتى أنحاء العالم خلال العقدين الماضيين، إلا أنه حتى مع المميزات والامتيازات التي توسم النشاط النسوي الإلكتروني، وفي القلب منها المرئية والبروز، لا يمكن الزعم بأن هذه المساحات تخلصت كليًا من الإقصاء والتهميش أو سجرت بداخلها فوهات الهيمنة والهرمية، فلا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالاعتراف بالتبعات السلبية للفجوة الجندرية الرقمية (المقدرة بـ٨  في المئة على المستوى العالمي)، والتصدي إلى العنف القائم على النوع/الجندر على المنصات الإلكترونية، خاصةً فيما يتعلق بقدرة النشاط النسوي الرقمي على المراكمة في اتجاه يتجاوز المرئية ويبلغ العدالة.

*الصورة الرئيسة حاصلة على رخصة الاستخدام على موقع Pixabay