هل حقًا ترجمة المحتوى مجرد نقل لغوي للكلمات والجمل، هل هناك ترجمة صحيحة وأخرى غير صحيحة، هل يمكن عزل المادة المُترجمَة عن خلفية من يقوم بعملية النقل من لغة إلى أخرى، وإذا كان بالنص الأصلي ما يخالف اعتقادًا سائدًا بين متلقيات ومتلقي النسخة المُترجمة، هل يغير المترجمون في النص للتوافق مع توقعات المجتمع وثقافته؟

هذه الأسئلة التي تداعب أذهان بعضنا عند مطالعة بعض النصوص المُترجَمة، كانت تشغل سوزان باسنيت أستاذة الأدب المقارن بجامعة وارويك البريطانية قبل نصف قرن، في أثناء مخضها لقضية العلاقة بين الترجمة والثقافة، وعلى الأرجح كانت هذه الأسئلة هي نقطة الانطلاق نحو صياغة نظرية الترجمة الثقافية التي وضعت أساسها في كتابها دراسات الترجمة (Translation Studies) الصادر في العام ۱٩٨۰، والذي أضحى أحد أهم مراجع دراسات الترجمة المعاصرة.

في كتابها، تشير سوزان باسنيت إلى أن فعل الترجمة يتعدى استبدال العناصر المعجمية والنحوية بين لغتين، إلى خلق سياق ثقافي للنص المُترجَم عوضًا عن ذلك الخاص بالنص الأصلي، ورغم أن لذلك أهميته في بث الروح في النص المستحدث كي يتفاعل معه الجمهور الجديد، فإن مترجمين كثر يستخدمون العامل الثقافي لإرضاء الفئة الأكبر من المجتمع أو لتفادي التصادم مع سلطة ما، من خلال تكييف المادة المُترجمة وأحيانًا عن طريق الحذف.

لا تحدث في الفراغ: الترجمة والسياقات الثقافية والاجتماعية

تعتبر سوزان باسنيت أن اللغة والثقافة وجهان لعملة واحدة، وأن ثمة بُعد ثقافي لعملية النقل اللغوي لا يقل تأثيره عن ما يُحدِثُه النص (الأصلي)، وليست وحدها سوزان باسنيت التي تتبنى هذه الرؤية، إذ تتفق معها الناقدة والمترجمة الكندية باربارا جودار التي تُعرّف الترجمة بأنها إعادة صياغة للمعنى داخل شبكة من الخطابات الاجتماعية، وليست مجرد نقل حرفي من لغة إلى أخرى، وتشدد في هذا الإطار على أنه لا حياد في اللغة والترجمة، بل إنهما أداتان مهمتان لإضفاء الشرعية على الوضع القائم (The status quo) أو دحضه، قاصدةً في ذلك ديناميات المجتمع، والهرميات الاجتماعية سواء الجندرية أو العرقية والإثنية أو الطبقية.

وفي هذا المنحى أيضًا، توضح شياونان دو الباحثة في جامعة شاندونغ الصينية أن الترجمة الثقافية تمر بعدة مراحل، تبدأ مع المترجمين والمترجمات الذين يستقبلون النص فيصبحون الوسيط المنوط به نقله إلى جمهور مختلف عن جمهوره الأصلي، ثم يعكفون على صياغة المحتوى الجديد بناءً على خلفياتهم وافتراضاتهم المسبقة بشأن هذا الجمهور ومعرفته وقيمه.

وتعتقد الباحثة في جامعة شاندونغ الصينية أن افتراضات المترجمين والمترجمات تكون دائمًا مختلفة عن تلك التي يمتلكها المؤلفات والمؤلفون، ولهذا لا يقدم المُنتَج المُترجَم إلى جمهوره نفس كم ونوع المعلومات المعروضة في النص الأصلي، أي أن المترجمين والمترجمات يضعون بين أيدي المتلقيات والمتلقين مادة مختلفة عن المصدر، بعد أن أضحى الأخير تحت سلطتهم التي تمكنهم من تفضيل مرادف على آخر، واستبدال وصف بغيره، وتغيير تعابير مجازية أو الاستغناء عنها، بالإضافة إلى حذف عبارات وتغيير مواضع الفواصل بين الجمل، واختصار الفقرات، وكل هذا يحركه معرفة المترجمات والمترجمين ووعيهم ومواقفهم.

وتأتي أول نسخة مُترجَمة لكتاب الجنس الثاني (The Second Sex) لسيمون دي بوفوار من الفرنسية إلى الإنجليزية، كدليل واضح وواف وشاف على ما تطرحه الباحثة شياونان دو، وهي نموذج تتوافر فيه جملة من التدخلات التي يمكن ممارستها خلال عملية النقل اللغوي من منطلق ثقافي أو استجابةً لتصورات ذهنية معينة.

إسكات سيمون دي بوفوار: الترجمة إذ تفسدها النوازع الذكورية

نشر أستاذ علم الحيوان الأمريكي هوارد ماديسون بارشلي في العام ١٩٥٢ ترجمته لكتاب الجنس الثاني (The Second Sex) للفيلسوفة والمنظرة النسوية الفرنسية سيمون دي بوفوار، لتكون أول ترجمة على الإطلاق لهذا المؤلف الذي أضحى لاحقًا مرجعًا أساسيًا في التنظير النسوي، وقد انتشرت ترجمته للكتاب باللغة الإنجليزية على نطاق واسع حول العالم يتجاوز بحد بعيد انتشار الكتاب باللغة الفرنسية، إلا أن هذه الترجمة جاءت مختلفة في طريقة عرض المضمون وكمه عن ما كان في الكتاب نفسه.

في مقالها المعنون بـ«إسكات سيمون دي بوفوار: تخمين ما هو مفقود من الجنس الثاني»، المنشور في العام ١٩۸٣ (The silencing of Simone de Beauvoir guess what’s missing from the second sex) تقول مارجريت سيمونز الباحثة في دراسات الفلسفة إن هوارد بارشلي حذف في ترجمته أكثر من ١٠ في المئة من محتوى الكتاب، وتشمل المادة المحذوفة ما يربو على نصف فصل كامل، إلى جانب أسماء ٧٨ كاتبة ومفكرة وأديبة أوردتهن سيمون دي بوفوار في سردها.

وتكشف أستاذة الفلسفة بجامعة جنوب إلينوي أن عملية الحذف تلك أثرت على نحو خطير على تكامل وصحة التحليل الذي قدمته سيمون لموضوعات مهمة مثل نضال الحركات النسوية المبكرة في أوروبا والولايات المتحدة في سبيل انتزاع حق النساء في الانتخاب، وكذلك تطور الحركة النسوية الاشتراكية في فرنسا، وتعتقد مارجريت سيمونز أن انتقائية هوارد بارشلي أدت إلى تخفيف حدة الخطابات الكارهة للنساء المعروضة في الكتاب، وقلّصت التوصيفات اللاذعة لغضب النساء واضطهادهن، مما جعل النص يبدو أقل تجذرًا في التجربة الأنثوية (التجربة الذاتية للمرأة.)

من جانبها، تقول الصحافية البريطانية مايا كوكيروف في مقاربتها لترجمة هوارد بارشلي لكتاب الجنس الثاني إن ترجمته قد خضعت لرقابة متحيزة على أساس الجنس، بالنظر إلى اقتطاع «كم هائل» من المحتوى بما في ذلك مقتطفات لأديبات وكاتبات مثل فرجينيا وولف، في مقابل الحفاظ على إشارات ومقتطفات من نصوص لرجال على غرار جورج فريدريش هيغل، وسيجموند فرويد، وألفريد فوييه، فضلًا عن اختيار المترجم مرادفات تكاد أن تكون متصالحة مع بعض التفسيرات الذكورية على عكس ما ترمي إليه الكلمات الموجودة في النص الفرنسي.

وتستشهد مايا كوكيروف على ذلك في مقالها المنشور على موقع (My Goddess Complex) بلفظ «زوجة» الذي استخدمه بارشلي كترجمة لكلمة (Femme) في أغلب مواضعها، بينما حد من استخدامه لـ«امرأة» كترجمة لها، وبيد أن الكلمة الفرنسية تحمل المعنيين، فإن سيمون دي بوفوار في كثير من المرات التي ذكرتها فيها لم تكن تشير إلى الزوجة، بينما اختار بارشلي أن يترجمها على هذا النحو، لتصبح المرأة التي تتحدث عنها سيمون -في النسخة الترجمة- أكثر انحصارًا داخل الحيز المنزلي، وتغدو رسائل النص إشكالية وبعيدة عما قصدته المؤلف ذاتها.

أما المترجمتان كونستانس بورد وشيلا مالوفاني شيفالييه اللتان اضطلعتا بالترجمة الثانية لكتاب الجنس الثاني (إلى الإنجليزية أيضًا) وأصدرتاها في العام ۲۰۰٩ ، فتريان أن بارشلي – بضغط من الناشرين – أعاد هيكلة أسلوب سيمون دي بوفوار، وعمد إلى تبسيط الكثير من لغتها الفلسفية المركبة مما أضعف النص، وفي مقالتهما ترجمة الجنس الثاني (Translating The Second Sex) المنشورة بمجلة كتب وأفكار (Books and Ideas) تشير المترجمتان إلى مجموعة من الكلمات والجمل والعناوين التي ترجمها بارشلي بطريقة تذويها وتنتقص من أهميتها. وتذكر كونستانس وشيلا أن عنوانًا بعينه قد توقفتا أمام ترجمته أكثر من غيره، وهو الخاص بالمجلد الثاني (L’Expérience Vécue) أي التجربة المعاشة، إذ ترجمه بارشلي إلى حياة المرأة اليوم (Woman’s Life Today)، مما أفقده مضمونه الفلسفي وجعله يبدو كما لو كان عنوانًا في إحدى المجلات النسائية.

ليس بالضرورة أن يكون المترجم قد فعل ذلك بالنص على خلفية تأثير أيديولوجي، وهذا ما تعتقده الصحافية مايا كوكيروف، فالسبب من وجهة نظرها هو انعدام المعرفة، فلم يكن هوارد بارشلي قادرًا على استيعاب التجارب المعاشة للنساء كمسألة جادة.

النظرية النسوية تضع بصمتها على الترجمة

دلفت دراسات الترجمة في الدول الغربية نحو منعطف محوري في الثمانينيات، تمثّل في  دخول الثقافة كبُعد جوهري في فهم عملية النقل اللغوي، وبالتحديد بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وفي كتاب الجندر/النوع في الترجمة: الهوية الثقافية وسياسات الانتقال (Gender in Translation: Cultural Identity and Politics of Transmission) الذي بات حاليًا أحد ركائز دراسات الترجمة النسوية، تجادل الأكاديمية الكندية شيري سيمون بأن ثمة أسئلة تستدعي البحث والتنقيب يتشاركها حقلا النسوية والترجمة، خاصةً فيما يتعلق بكيفية التعبير عن الاختلافات الاجتماعية والتاريخية والجنسية في اللغة، وكيفية نقل هذه الاختلافات عبر اللغات، ونوع المواقف التي من المفترض أن تتخذها النساء أو المترجمون والمترجمات تجاه المصطلحات التي تكرس إلى التسلسلات الهرمية ومواقعهن/م فيها.

وتستعيد شيري سيمون إحدى المقولات التي ارتبطت بحركة الإصلاح النسوي للغة الفرنسية في السبعينيات وهي (La libération des femmes passe par le langage) أو تحرر النساء يأتي عبر اللغة، لتؤكد بها على أنه لا تحرر للنساء من دون أن يتحررن من/في اللغة التي تغتص بالكلمات والمصطلحات المتحيزة جندريًا والرموز والتراكيب المجندرة.

عطفًا على ذلك، تقول شيري الأستاذة بقسم اللغة الفرنسية في جامعة كونكورديا الكندية، إن اللغة لا تعكس الواقع فحسب، بل تسهم فيه، وبما أن الترجمة هي عملية نقل لغوي وما دام المترجمون والمترجمات يعيدون كتابة النصوص ويتلاعبون بها لتكون متاحة لجمهور يتحدث ويقرأ بلغة ثانية غير تلك المصاغ بها المصدر، إذن فبإمكانهم أن يستعملوا اللغة كوسيلة تدخل ثقافي.

واتصالًا بذلك، فقد سوغت الترجمة في أحايين كثيرة المساعي الفردية والمؤسسية لترسيخ التفاوتات الاجتماعية وإدامتها، من خلال ممارسات عديدة، أبرزها إعطاء أفضلية للمذكر على حساب المؤنث، وإجمال الجنس البشري في الرجل، مثلما هو الحال عند الترجمة من وإلى الفرنسية التي يشيع فيها استخدام (L’ Homme) للدلالة على الإنسان أو الفرد، وكذلك الإنجليزية التي يشار فيها إلى البشرية بـ(mankind)، وبالطبع العربية الفصحى التي اعتيد فيها على استعمال المفرد المذكر في الحديث عن الجماعة والتعميم.

علاوة على ذلك، تظهر في بعض الترجمات المواقف الشخصية والثقافية في نقل التسميات الخاصة بالأقليات الجندرية، وترجمة العبارات المجازية بتأكيد ما تحمله من تحيزات على أساس النوع/الجندر، مثل عبارة (You are a big girl’s blouse) التي تعد إهانة ذكورية يرددها بعض متحدثي الإنجليزية البريطانية والأسترالية، لوصف الرجل غير القادر على المواجهة أو ضعيف الموقف أو المتهرب من مسؤولياته، وأحيانًا تستخدم للإساءة إلى مثليي الجنس من الرجال، وقد جرت العادة على ترجمتها في العديد من اللغات ومنها العربية بجملة «أنت تتصرف كامرأة»، وليس بجمل مثل «أنت تتهرب من المواجهة/المسؤولية»، أو «أنت تتصرف بضعف.»

المقاومة النسوية للهيمنة الأبوية-الذكورية على اللغة التي بدأت في الدول الغربية، لا سيما الناطقة بالإنجليزية في الستينيات، وعُرِفت باسم الإصلاح النسوي للغة، انبثق عنها حراك مقاوم يهدف إلى تقويض انتقال تمثلات هذه الهيمنة عبر الترجمة، خاصةً أن عملية النقل اللغوي لا تقف غالبًا عند هذا الحد، بل تعوق أيضًا ارتحال رؤى النساء وأفكارهن عبر اللغات وقد تغمد تجاربهن وتاريخهن، وتُرجِع الباحثة الإسبانية أولجا كاسترو اتجاه مترجمات في أنحاء متفرقة من العالم إلى إدماج الأيديولوجية النسوية في نشاطهن الترجمي إلى الحاجة الماسة إلى إرساء طرق جديدة للتعبير، تساعد في تحرير اللغة والمجتمع من العبء الأبوي الذي أنهكهما.