تذكر سجلات الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) أن أول مباراة كرة قدم دولية رسمية انعقدت في نوفمبر من العام ١٨۷٢ على أرض ملعب مخصص للعبة الكريكت في غرب إسكتلندا، وقد جرت أحداثها بين فريقين من الرجال، أحدهما يمثل إسكتلندا والآخر يمثل إنجلترا، في حضور جمهور يقدر عدده بـ٢٥٠٠ رجلًا وامرأة.

وتعتبر سجلات الاتحاد الدولي لكرة القدم أن أول مباراة دولية رسمية بين فريقين نسائيين هي التي انعقدت في إبريل من العام ١٩٧١ بين منتخبي فرنسا وهولندا، علمًا بأن كلا المنتخبين لعبا سويًا قبل هذا الحدث بشهور، وسبق أيضًا أن لعب المنتخب الفرنسي أمام منتخبات كرة القدم النسائية لدول مثل إيطاليا وبريطانيا، إلا أن الاتحاد لم يعترف بأي من هذه المباريات.

ما يشي به بعض ما جاء في أرشيف الاتحاد الدولي لكرة القدم هو أن هذه اللعبة ظلت لشوط طويل من الزمن لعبة ذكورية خالصة، وقد انتقلت في القرن التاسع عشر من كونها هواية يمارسها الرجال للتسلية إلى مجال للتنافس واستعراض القوة والمفاخرة بين المدن والبلدان الأوروبية، وكذلك بين البلدان التي أطبق عليها الاستعمار الأوروبي خاصةً البريطاني، وتبعًا لما هو موثّق يبدو كما لو كانت النساء قد غبن عن المشهد الكروي لقرون طويلة، إلا أن في ذلك غمطًا لمراحل مهمة في علاقة النساء مع الرياضة الأكثر شعبية في العالم، إذ أن ثمة قرائن تاريخية تؤكد ممارستهن للعبة كرة القدم في صورتها الأقرب إلى القائمة حاليًا، قبل أن تشرع الاتحادات الوطنية في الاعتراف بالأندية النسائية، وكذلك قبل أن يبدأ تكوين منتخبات كرة القدم النسائية في سبعينيات القرن الماضي.

في سياق التصنيف الاجتماعي الدائم للأشياء ما بين ذكوري وأنثوي، طالما وضعت المجتمعات كرة القدم في خانة رياضات الرجال، استنادًا إلى أسطورة أفضلية الرجل على المرأة في القوة الجسدية، والحركة السريعة، وتحمل الإصابات واستيعاب الألم. وقد ساهمت الطبيعة الأبوية المتشددة للمجتمعات الأوروبية في عصر النهضة ثم العصرين الفيكتوري والإدواردي، في إبقاء كرة القدم خارج الرياضات المستساغ ممارستها بالنسبة للنساء، وتحديدًا المنتميات إلى الطبقات العليا والوسطى اللاتي تقبلت أوساطهن منذ نهاية عصر النهضة ممارستهن بعض الرياضات التي يلعبها الرجال الأرستقراطيون والبرجوازيون مثل التنس، والكريكت، والجولف.

انتقلت قيم وأفكار المجتمع الأوروبي الأبوية إلى قارتي إفريقيا وآسيا خلال الحقبة الاستعمارية التي بدأت في القرن التاسع عشر واستمرت في أنحاء عديدة حتى ستينيات القرن العشرين، وقد عمد خلالها المستعمر إلى منع النساء والفتيات من تكوين فرق كرة قدم محلية أو اللعب في الملاعب التي يستخدمها الرجال لخوض مبارياتهم.

استكشاف المحظور والتمرد على الممنوع

تكشف بعض وثائق المتحف الوطني لكرة القدم في إنجلترا أن بعض نساء الطبقات العليا لعبن كرة القدم كهواية على استحياء في القرن السادس عشر، وكن يلعبن مرتديات فساتينهن التقليدية التي تتكون من طبقات عديدة تغطي أجسامهن بالكامل، وهو ما كان يعرضهن إلى السقوط المتكرر أثناء الجري، ويجعل اللعب عشوائيًا. وفي مايو من العام ١٨٨١ جرت أحداث أول مباراة موثقة بين فريقين نسائيين في أوروبا على أحد ملاعب مدينة إدنبرة، وقد جمعت بين فريق من إنجلترا وآخر من إسكتلندا في حضور ألفي فرد وانتهت بفوز الفريق الثاني.

توالت بعد ذلك مباريات كرة القدم النسائية في بريطانيا، وازداد على نحو ملحوظ حضور الجمهور لمشاهدتها خلال العقد الأخير من القرن التاسع العشر، إلا أن بعض قصاصات الصحف البريطانية المنشورة في تلك الفترة تكشف عبر لغتها المتحيزة والعدائية عن استنكار اجتماعي لحضور النساء في المشهد الكروي رغم الاهتمام الجماهيري الذي تحظى به مبارياتهن، ومنها قصاصة تقول «سيكون هناك دائمًا فضول لرؤية النساء يفعلن أشياء غير أنثوية، وليس من المستغرب أن يحضر إلى المباراة حشد يقدر بعدة آلاف، قليلون جدًا منهم يرغبون في أن تعرض أخواتهم أو بناتهم أنفسهن في ملعب كرة القدم.»

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تدرج القبول المجتمعي لممارسة النساء في أمريكا الشمالية للرياضات في الأماكن المفتوحة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع التزامهن بالأزياء المعتادة بما في ذلك ارتداء مشدات الخصر الضيقة التي كان المعتقد الشائع بشأنها وقتئذٍ هو أنها تعمل على تقوية عضلات جسم المرأة «الضعيف»، ولهذا كانت الرياضات التي تستطيع نساء الطبقتين البرجوازية والأرستقراطية أن يمارسنها في ضوء هذا التقييد الجسدي والمجتمعي هي التنس، وركوب الزوارق، والجولف. في المقابل، لم يكن بإمكان نساء الطبقة العاملة أن يلعبن هذه الرياضات.

تعرّف سكان الولايات المتحدة الأمريكية إلى كرة القدم في القرن الثامن العشر على يد المهاجرين الأوروبيين، لا سيما القادمين من إنجلترا، وإسكتلندا، وأيرلندا، الذين جاءوا بقواعد اللعبة مصحوبة بالقناعة الذكورية التي تكرس إلى صلاحيتها للرجال فقط. وفي هذا السياق، بدأت علاقة الأمريكيات بكرة القدم متأخرة بالقياس إلى نظيراتهن الأوروبيات، وانحسرت ممارسة اللعبة داخل ملاعب المدارس والكليات الداخلية خلال النصف الأول من القرن العشرين، فلم تتشكل فرق أو أندية نسائية خارج هذه الباحات تُمكّن الفتيات والنساء من خوض منافسات منظمة على المستوى المحلي أو الوطني.

غياب أندية نسائية لكرة القدم في الولايات المتحدة قاد فريق سيدات ديك-كير الإنجليزي، أحد أوائل فرق كرة القدم النسائية في أوروبا، إلى اللعب أمام فرق الرجال خلال جولته الأمريكية في العام ١٩٢٢، وقد اتخذت لاعباته القرار رغم ما يمثله من تحدٍ اجتماعي، وثقافي، ورياضي أيضًا في ظل الفجوة الواسعة في الظروف والإمكانيات التي يجدها اللاعبون الرجال بالقياس إلى المتاح للنساء لكي يمارسن هذه الرياضة.

خاضت لاعبات فريق سيدات ديك-كير تسع مباريات أمام فرق تضم لاعبين محترفين يجري تأهيلهم للمشاركة باسم الولايات المتحدة في أول نسخة لبطولة كأس العالم لكرة القدم بعد ثمان سنوات في الأوروغواي، ومع ذلك استطاع فريق سيدات ديك-كير الفوز بثلاث مباريات، وتعادل في ثلاث، وخسر ثلاث بعد أداء متميز أقر به اللاعبون الأمريكيون أنفسهم.

تعرّفت شعوب الجنوب العالمي إلى كرة القدم المعاصرة مع توغل الاستعمار البريطاني في القارتين الإفريقية والآسيوية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد راقت اللعبة للشعوب الأفريقية في نيجيريا وجنوب إفريقيا، وغانا، وكينيا، ورودسيا الشمالية (زامبيا حاليًا)، وحازت اللعبة كذلك شعبية واسعة في الهند وبلاد البنغال في آسيا.

مارست النساء في بعض هذه البلدان كرة القدم، ولكن بسبب قلة التوثيق لا يمكن التحقق من الفترة التي شهدت بزوغ علاقتهن بهذه اللعبة، إلا أن العديد من المصادر توثق لعب النساء لكرة القدم في نيجيريا إبان الثلاثينيات، ويذكر الصحافي البنغالي براجارانجان روي في مقال بعنوان «العصر المبكر للصحافة الرياضية في البنغال» أن بدايات كرة القدم النسائية في بلاده كانت في الثلاثينيات أيضًا.

السلطة الذكورية تستخدم رصاصتها الفضية لكبح كرة القدم النسائية

أغضب صعود كرة القدم النسائية الرجل الأوروبي الذي رأى في ذلك تهديدًا لأحد المعاقل الذكورية، فتلاحقت الإعلانات والقرارات الحكومية والتنفيذية التي تمنع النساء من لعب كرة القدم، واندفع السيل من بريطانيا حيث فرض الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم في العام ١٩٢١ حظرًا تامًا على كرة القدم النسائية استمر لخمسين عامًا، واتخذ الاتحاد الفرنسي لكرة القدم قرارًا مماثلًا في العام ١٩٣٣، ثم جاء الاتحاد الألماني لكرة القدم وأعلن في العام ١٩٥٥ منع إقامة أي مباراة كرة قدم بين فريقين نسائيين على ملاعب ألمانيا الغربية، بدعوى أن «هذه الرياضة غريبة على طبيعة النساء وستلحق بهن ضررًا جسديًا ونفسيًا»، واتكاءً على الحجة ذاتها أوقف الاتحاد السوفيتي أي نشاط لكرة القدم النسائية على أراضيه في العام ١٩٧٢.

مساعي الرجل الأوروبي الأبيض نحو القضاء على كرة القدم النسائية وصلت إلى البلاد التي استعمرها في إفريقيا وآسيا، وكان من بينها مرسوم أصدره مندوبو الاحتلال البريطاني في نيجيريا في العام ١٩٥٠ لمنع النساء من لعب كرة القدم، وإلزام الملاعب بالتوقف عن تنظيم مباريات كرة القدم النسائية.

المقاومة النسوية تنجح في إزالة الحاجز المنيع

أحد القضايا الرئيسة التي تمحور حولها نشاط الحركة النسوية في الشمال خلال الستينيات، هي الحرية والاستقلالية الجسدية للنساء، وقد انبثق عنها العديد من القضايا الفرعية كحق النساء في ممارسة شتى أنواع الرياضات والتمتع بالامتيازات التي يحظى بها الرياضيون الرجال، وكان لذلك صداه على عودة المقاومة النسوية إلى ملاعب كرة القدم وتصعيد الضغط على متخذي القرار للعدول عن قرارات الحظر.

عادت أندية كرة القدم النسائية إلى الظهور بنهاية الستينيات، وبعد سنوات قليلة بدأ تدشين المنتخبات النسائية التي تركز معظمها في القارة الأوروبية، بعد أن أصدر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA) توصية في العام ١٩٧١، تطالب الدول الأعضاء برعاية ودعم كرة القدم النسائية في المرحلة المقبلة.

في السبعينيات أيضًا، تشكلت منتخبات وطنية لكرة القدم النسائية في جنوب إفريقيا، والكاميرون، وساحل العاج، ونيجيريا، وكذلك في الهند وإندونيسيا، قبل أن تتسارع وتيرة تأسيس المنتخبات النسائية في الثمانينيات والتسعينيات.

على النقيض من ذلك، كانت كرة القدم النسائية في عدد من دول أمريكا اللاتينية كالمكسيك والأرجنتين وكوستاريكا تشهد رواجًا، وقد تشكّل في الأولى منتخب لكرة القدم النسائية في العام ١٩٦٣، إلا أن الفيفا امتنع عن الاعتراف به رسميًا حتى العام ١٩٩١.

بدأت حقبة التسعينيات بتنظيم أول نسخة لبطولة كأس العالم لكرة القدم النسائية برعاية الاتحاد الدولي لكرة القدم، وفاز بها المنتخب الأمريكي الذي أنشِئ رسميًا في منتصف الثمانينيات، وبيد أن منتخب الولايات المتحدة ولد متأخرًا مقارنة بمعظم منتخبات دول الشمال، فهو الأكثر تتويجًا بين جميع منتخبات العالم ببطولة كأس العالم، بعد أن رفعت لاعباته الكأس في أربع نسخ منها.

كانت النسخة الأولى لبطولة كأس العالم لكرة القدم النسائية، هي السبب الرئيس في انطلاق بطولة كأس الأمم الإفريقية للمنتخبات النسائية، إذ نظم الاتحاد الإفريقي لكرة القدم (CAF) أولى مسابقاتها في العام ١٩٩١ لتحديد المنتخبات المتأهلة عن القارة إلى بطولة كأس العالم، وقد انتهت تلك النسخة بفوز المنتخب النيجيري الذي يعد واحدًا من أقوى منتخبات كرة القدم النسائية في القارة، وأكثرها احتفاظًا بلقب بطل الأمم الإفريقية بفضل فوزه بالبطولة ١١ مرة في ١٤ نسخة انعقدت بين العامين ١٩٩١ و٢۰٢٢، إضافة إلى أنه المنتخب الإفريقي الأكثر مشاركة في بطولة كأس العالم منذ تدشينها.

يؤكد الاتحاد الدولي لكرة القدم في استطلاع عالمي نشره العام الماضي تنامي شعبية كرة القدم النسائية على الصعيد العالمي، ويحسب الاتحاد أن اللعبة لم تكن في وضع أفضل مما هي عليه الآن، نظرًا إلى تزايد انضمام النساء إلى اللعب المنظم، وتتطور المعايير الاحترافية، وزيادة الإيرادات التجارية، إلا أن الصورة ليست إيجابية بالكامل، إذ لا ينفك التحيز الجندري كائنًا وتحول دون تقويضه إشكاليات التمييز في الأجور، والعنف الجنسي ضد اللاعبات، وقلة المتابعة الإعلامية والدعم الرسمي مقارنة بما يُوجَّه إلى اللاعبين الرجال وفرقهم، فضلًا عن الوصم الاجتماعي الذي لا يزال واسع الانتشار في كثير من المجتمعات.