قلما يغيب اسم سيجموند فرويد عن الأحاديث والنقاشات ذات الصلة بعلم النفس ونظريات التحليل النفسي، إذ لا يزال إسهامه في هذا المجال هو الأساس الذي يستند إليه كثير من المنظرين والمنظرات في صياغة فرضياتهم ونظرياتهم حول الطفولة، والجنسانية، وتحليل السلوك، واللاوعي، سواء كانوا يتفقون مع أفكاره ورؤيته أو يعارضونها ويسعون في بحثهم إلى دحض نظرياته الشائعة.

يأتي اسم الطبيبة النفسية كارين هورني في صدارة العلماء المنتميات والمنتمين إلى الفريق الثاني، وعادةً ما يشار إلى إنتاجها البحثي باعتباره القاعدة التي تأسس عليها علم النفس النسوي الذي برز في سبعينيات القرن الماضي مترافقًا مع الموجة الثانية للحركة النسوية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، ويأتي تطور اختصاص علم النفس النسوي نتاجًا للحراك المحتج على هيمنة العلماء الرجال على علم النفس، التي أفرزت مناهج تحليل نفسي ترتكز إلى الفكر والثقافة الذكوريين، ويتبدى هذا بوضوح في نظريات سيجموند فرويد بشأن التطور النفسي والجنسي للأنثى التي نالت تأييد العديد من المحللين النفسيين خلال النصف الأول من القرن العشرين.

صك سيجموند فرويد في العام 1908 مصطلح حسد القضيب (Penis Envy)، ليعبر به عن تصوره لحالة تصيب الأنثى خلال مراحل النمو النفسي والجنسي الأولى، وقد جادل عالم النفس النمساوي بأن الطفلات يزددن قربًا من آبائهن في المرحلة العمرية (3-6 سنوات)، بينما يشعرن بشيء من الغضب تجاه أمهاتهن بسبب ما أسماه عقدة الخصاء (Castration Complex).

يزعم فرويد بأن الطفلة في تلك المرحلة تعتقد أن جسمها مشوه، منزوع منه عضو أساسي ومهم وهو القضيب، وتتصور أن أمها هي المسؤولة عن هذا النقص، ويرى فرويد أن هذا الاعتقاد يولد لدى الابنة شعورًا بالغضب تجاه الأم في مقابل ازدياد التعلق بالأب على خلفية الرغبة اللاوعية في امتلاك قضيب كالذي يملكه.

كان فرويد مقتنعًا بأن القضيب امتياز لصاحبه وأن افتقار الأنثى إليه يجعلها كالذكر المخصي، وقد صرح في إحدى محاضراته في العام 1933 بأن حسد القضيب ينمو داخل الأنثى بمرور الوقت، وتنتقل انعكاساته من التعلق العاطفي الزائد بالأب إلى الرغبة القوية في إنجاب ذكر، واصفًا ذلك بالحيل اللاشعورية التي تلجأ إليها لتعويض العجز والتهديد الناجم عن غياب القضيب.

النقد النسوي الأكثر ذيوعًا تجاه نظرية حسد القضيب يُنسَبُ إلى المفكرة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار، التي تطرقت في الفصل الثاني من كتابها الجنس الآخر (Second Sex) الصادر في العام 1949 إلى أفكار فرويد بشأن النمو النفسي والجنسي للأنثى، وجادلت فيه بأن الأخير يغمط القيمة المُلحقة بالرجولة ويتجاهل الأصول الاجتماعية للسلطة والامتيازات الذكورية والأبوية، مشيرةً إلى أن مسألة حسد النساء للرجال إذا صحت، فإن سببها سيكون ما يتمتع به الرجل من سلطة وامتيازات اجتماعية، وليس سببًا بيولوجيًا أو تشريحيًا.

لم تصل انتقادات سيمون دي بوفوار إلى صاحب نظرية حسد القضيب لأن كتاب الجنس الآخر صدر بعد عشر سنوات من وفاته، لكن وجهة النظر التي عرضتها الفيلسوفة الفرنسية في كتابها تتماثل مع رؤية الطبيبة النفسية الألمانية كارين هورني التي فندت آراء فرويد بشأن عقدة الخصاء وحسد القضيب بينما لا يزال الأخير على قيد الحياة، وكانت وقتها واحدة من نساء قليلات يمارسن الطب النفسي كمهنة، وصوتًا من أصوات معدودة تنتقد علنًا أفكار فرويد المحاطة بالتعظيم والتقريظ وقتئذٍ.

رفضت كارين هورني تصورات فرويد عن دونية المرأة البيولوجية وشعورها الفطري بالعجز بسبب عقدة الخصاء التي زعم بوجودها لدى كل النساء، وقد سعت من خلال عملها البحثي إلى إثبات فرضيتها بأن رؤية كل من الرجل والمرأة لأنفسهما كإنسان كامل أو ناقص، لا يمكن إرجاعها إلى الدوافع البيولوجية، إذ تلعب الظروف الاجتماعية والثقافية التي تنشأ فيها النساء والفتيات دورًا جوهريًا في تشكيل شخصياتهن، لافتةً إلى أن المشاعر السلبية التي قد تتملكهن تجاه أنفسهن هي مشاعر مكتسبة تأتي كامتداد منطقي للتنشئة الأسرية والاجتماعية التي تكرس إلى التفوق الذكوري.

ردًا على ادعاء فرويد بأن النساء يشعرن دائمًا بأنهم أدنى من الرجال وأن هذه المشكلة لا يمكن حلها أبدًا، قدمت كارين هورني في العام 1924 مقالًا بعنوان عن أصل عقدة الخصاء لدى النساء (On The Genesis of The Castration Complex in Women)، عارضت فيه نظرية حسد القضيب مؤكدةً أنه من غير الممكن أخذ ما يطرحه فرويد بجدية إلا بوصفه استعارة رمزية لغبطة النساء للرجال على المكانة الاجتماعية والحرية الفردية التي تلازمهم من الميلاد إلى الممات.

في هذا السياق أيضًا، قدمت كارين مصطلح حسد الرحم وهو من وجهة نظرها شعور يتملك كثير من الأطفال الذكور بعد أن يدركوا أن المرأة وحدها القادرة على إنجاب أطفال ورعايتهم وتنشئتهم، والقيام أيضًا بمهام أخرى داخل المنزل أو خارجه، فيوقنون بأن ثمة تفوق للمرأة على الرجل. وتفترض كارين بأن رد الفعل على ذلك يتمثل في محاولات ذكورية لقلب الطاولة، وترسيخ الشعور بالعجز لدى المرأة عبر احتكار الرجال لمجالات أخرى في الحياة كالعمل مدفوع الأجر، والسياسة والحكم، والاقتصاد والمال.

قابل فرويد آراء كارين هورني باستهانة وازدراء، وتجلت الأنا الذكورية لديه فيما كتبه من رد غير مباشر على ما ورد في مقالها، حيث تعمد الإساءة إلى شخصها، واتهمها بالفشل كمحللة نفسية نتيجة عدم اقتناعها بما فيه الكفاية بحدة رغبتها في امتلاك القضيب.

بالإضافة إلى فرويد، أظهر العديد من تلامذته وأصدقائه استخفافًا بآراء وأفكار كارين ومن بينهم الطبيبة النفسية هيلين دويتش، التي تتلمذت على يد فرويد واقتنعت بنظرياته حول التطور النفسي والجنسي للمرأة واتفقت معه في رؤيته للنساء ككائنات مازوخية سلبية، وقد وثقت أفكارها في كتاب بعنوان التحليل النفسي للوظائف الجنسية للنساء (The Psychoanalysis of Women’s Sexual Functions) نشرته بعد عام من صدور مقال كارين هورني.

نشرت كارين هورني 14 مقالًا بحثيًا بين العامين 1922 و1937، تمحورت حول موضوعي إعادة النظر في أفكار التحليل النفسي الكلاسيكية بشأن التطور الجنسي للأنثى، وتضمين العوامل الاجتماعية التي تؤثر على النساء، وطريقة اندماج هذه العوامل مع نظيرتها النفسية في تشكيل الشخصية، لكن هذا العمل لم يلق تقديرًا في دوائر علماء النفس والأطباء النفسيين وقت نشره، وهو الوقت الذي كان فيه التحليل النفسي باحة يتمركز في قلبها المنظرون الرجال الذين يتماهون عقائديًا وفكريًا في المنظومة الأبوية.

بعد سنوات من بقاء الإنتاج النظري لكارين هورني في الأدراج، أعيد نشره في العام 1968 في مجلد بعنوان علم النفس النسائي (Feminine Psychology)، لتغدو هذه الوثيقة بمثابة حجر الأساس للاختصاص المعروف حاليًا باسم علم النفس النسوي.

لم تعد الآن مفاهيم مثل حسد القضيب أو عقدة الخصاء تتمتع بدعم علمي كالذي كانت تحظى به عند صياغتها قبل أكثر مئة عام، بل إنها تتعرض لانتقادات حادة من عالمات وعلماء النفس المعاصرين لعدم توفر أدلة تجريبية تعزز الفرضية التي وضعها فرويد.