انعقدت بداية الشهر الجاري الانتخابات العامة لدولة المكسيك، التي صوت خلالها الناخبات والناخبون من أجل اختيار من يمثلهن ويمثلهم خلال السنوات الست المقبلة في مجلسي النواب والشيوخ، والولايات، والبلديات، بالإضافة إلى رئاسة البلاد. وقد حظيت الانتخابات الرئاسية على وجه الخصوص باهتمام كبير من الإعلام الدولي، وبيد أن هذا قد يبدو طبيعيًا طالما أن المكسيك بلد يحكمه نظام رئاسي، فإن ثمة سبب آخر ساهم في زيادة حجم الاهتمام وهو السابقة التاريخية التي عرفتها هذه النسخة من الرئاسيات في المكسيك بتمركز المنافسة بين مرشحتين، ليصبح المؤكد هو وصول امرأة إلى سدة الحكم للمرة الأولى في تاريخ البلد منذ استقلاله عن الإمبراطورية الإسبانية في العام 1821، وحصول النساء على الحق في الانتخاب في العام 1953.

أعلن المعهد الوطني للانتخابات في الثالث من يونيو الجاري أن الرئيسة الجديدة للمسكيك هي كلوديا شينباوم، الرئيسة السابقة لحكومة مكسيكو سيتي وممثلة تيار اليسار الذي يستحوذ على الحصة الكبرى من مقاعد المجلس التشريعي. وبمجرد أن جاء الإعلان عن فوزها بالرئاسة، نشرت كثير من المنصات الإخبارية المحلية والإقليمية والدولية تحديثاتها الخبرية بعناوين متشابهة تتمحور حول سابقة وصول المرأة إلى أعلى منصب قيادي في ثالث أكبر دول أمريكا اللاتينية، وكان من بينها «فوز أول امرأة برئاسة المكسيك»، و«المكسيك تنتخب أول امرأة لرئاسة البلاد»، و«كلوديا شينباوم أول سيدة تفوز برئاسة المكسيك.»

النوع الاجتماعي اكتسى أهمية كبيرة في الحملة الانتخابية لكلوديا شينباوم، فقد ركزت برفقة عضوات وأعضاء حملتها على ما سيمثله فوزها بالرئاسة من إنجاز تاريخي لـ«المرأة المكسيكية». وفي أول خطاب لها بعد إعلان النتائج أكدت أن جلوسها على مقعد الرئاسة هو انتصار لكل المكسيكيات، وأن انتخابهن لها يمهد الطريق صوب ما وصفته بـ«زمن النساء»، ورغم أن الجندر أو النوع كان في قلب خطابها الانتخابي فإن حضوره لم يتجاوز الحيز المتعلق بكسر هيمنة الرجال على الحكم والإنجاز الذي لا سابقة له، بينما لم تحل مسألة مواجهة العنف المنزلي المنتشر على نحو مخيف ضد النساء في المكسيك بين الأولويات المطروحة في برنامجها الانتخابي، علمًا بأن بيانات المكتب الوطني للإحصاء تكشف أن سبعًا من كل عشر نساء يتعرضن لشكل من أشكال العنف القائم على النوع وغالبًا ما يرتكبه أحد الأقرباء الذكور.

لم تعلن كلوديا كذلك إبان حملتها أو في برنامجها عن خطة متكاملة للتصدي إلى جرائم قتل الإناث التي يروح ضحيتها في كل يوم عشر نساء على الأقل وفقًا لأرقام منظمة الأمم المتحدة للنساء (UN Women)، واكتفت بوعد انتخابي بتعيين مدعين عامين ومدعيات عامات يختصون بالتحقيق في قضايا قتل النساء، وفي بلاغات من يخشين قتلهن على أيدي الأزواج أو الشركاء، على أن يوفر الادعاء للناجيات بيئة خالية من العنف من خلال إلزام المعتدين بمغادرة أماكن الإقامة والامتناع عن ملاحقتهن.

كما تحاشت شينباوم خلال حملتها الخوض في مسألة حماية حق النساء في الخصوصية والاستقلالية الجسدية، بما في ذلك حقهن في الإجهاض الطوعي الآمن الذي يظل محل جدل مجتمعي حتى بعد إقرار المحكمة العليا في العام الماضي بعدم دستورية الأحكام الوطنية التي تجرمه.

مبررات القلق ودواعي الحذر يثيرها الماضي ويعضدها الحاضر

بوصول كلوديا شينباوم إلى رئاسة المكسيك انكسر حاجز زجاجي آخر في طريق نساء هذا البلد نحو المناصب العليا، بعد أن اعتلت قاضية لأول مرة رئاسة المحكمة العليا في العام 2023 وهي نورما لوسيا بينا هرنانديز، وانتخب مجلسا الشيوخ والنواب أول رئيستين لهما في العام ذاته وهما آنا ليليا ريفيرا ومارسيلا غيرا كاستيلو، وهي الخطوات التي لم يكن من الممكن أن تتحقق من دون التعديلات الدستورية التي جرت في العام 2019 لضمان المناصفة بين الجنسين في جميع المناصب الفيدرالية على كل المستويات. لكن نجاح النساء في كسر هيمنة الرجال على أعلى مناصب القيادة في بلد مثل المكسيك الذي يتبنى فيه فرد من كل خمسة أفراد مواقف متحيزة ضد المرأة فيما يتعلق بقدرتها على الإدارة، مما يجعل القادم في طريقهن ليس أقل صعوبة مما سبق، بل قد يكون أشد صعوبة.

يظل بلوغ مراكز صنع القرار واتخاذها وسيلة وليس غاية، فالمشاركة والتمثيل وحدهما ليسا كافيين لإحداث تغيير فعلي في هياكل السلطة السياسية والاجتماعية، ووصول النساء إلى مناصب رئاسة الدول أو الحكومات لا يمكن أن يقود إلى تحولات في ديناميات السلطة والحكم المبنية على التمييز والتراتبية الجندريين، ما دام تمثيلهن السياسي ينحسر في خانة التمثيل الوصفي (Descriptive Representation) الذي يبقى مشاركة محدودة التأثير، إذ لا تصحبها قرارات وسياسات تهدف إلى دعم وحماية النساء عمومًا وهؤلاء اللاتي يتشاركن معهن هويات أو خبرات بعينها خصوصًا.

في تصريحات لمنصة كونتكست (context) التابعة لمؤسسة تومسون رويترز، تقول فلافيا فرايدنبرغ الباحثة في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، إن وجود النساء في المجالس التشريعية أو الرئاسة لا يعني أنه سيتم الدفاع عن أجندة تقدمية وموضوعية بشأن المساواة. وتدلل على ذلك تجارب عديدة عرفتها السياسة الدولية، ومنها تجربة سامية صولحو حسن التي تجلس على كرسي الرئاسة في تنزانيا منذ العام 2021، بعد أن قضت ست سنوات في منصب نائبة الرئيس، وهي أول امرأة تشغل المنصبين في تاريخ البلد. ورغم وجودها في أعلى موقعين سياسيين على مدى تسع سنوات لم يتغير إلا القليل تشريعيًا وإجرائيًا لدعم وحماية النساء والفتيات، ولا تزال العديد من القوانين التي تشرعن العنف ضدهن قائمة، بما في ذلك القانون الذي يسمح بتزويج القاصرات في سن 15 عامًا بموافقة ولي الأمر و14 عامًا بموافقة قضائية، مما يسهم في ديمومة ارتفاع نسبة من يتزوجن قبل 18 عامًا بما لا يقل عن 40 في المئة.

لكن التجربة الأبرز التي كثيرًا ما يُستدَل بها للتأكيد على أن تمثيل النساء في أعلى مناصب صنع واتخاذ القرار ليس ضمانة لخطاب سياسي غير نمطي بشأن النساء أو ممارسات سياسية ترمي إلى إنهاء العنف والتمييز الجندريين، هي تجربة مارجريت ثاتشر رئيسة الحكومة البريطانية في الفترة من العام 1979 وحتى العام 1990، فمع أن زعيمة حزب المحافظين نجحت في كسر الاحتكار الذكوري لأعلى منصب سياسي في بريطانيا، إلا أنها لم تسع إلى الحد من الهيمنة الذكورية على الحقائب الوزارية، فلم تُعيّن أي وزيرة في أول تشكيل حكومي تحت قيادتها، لتكون المرة الأولى التي تغيب فيها المرأة البريطانية عن جميع الحقائب الوزارية منذ الحرب العالمية الثانية.

تقول الباحثة كاتي ويفر في مقالها «النسوية تحت الإكراه: هل كانت حكومة تاتشر سيئة بالنسبة للحركة النسوية في المملكة المتحدة؟» إن وصول مارجريت ثاتشر إلى أعلى منصب في السياسة البريطانية، لم يرافقه تقدم في مشاركة النساء وتمثيلهن في البرلمان والحكومة، بل تحقق ذلك مع حزب العمال عندما عادت الأغلبية إليه في العام 1997، بعد أن تبنى الحزب توجهًا داعمًا لزيادة فاعلية النساء السياسية، مما جعله المنفذ الذي حققت عبره النساء نجاحًا انتخابيًا غير مسبوق تجسد في فوزهن بـ 101 مقعدًا بالبرلمان.

وفضلًا عن أن مارجريت ثاتشر لم تُشرِك في حكومتها طيلة 11 عامًا سوى وزيرة واحدة وهي ليندا تشالكر التي تولت حقيبة الدولة لشؤون التنمية الخارجية وقارة إفريقيا، فإن استحداث الحقيبة الخاصة بشؤون النساء والمساواة الجندرية التي تعني بإعداد سياسات واستراتيجيات تهدف إلى القضاء على التمييز ضد النساء والأقليات الجندرية، وحمايتهن/م من العنف القائم على النوع، لم يجر إبان فترة رئاستها للحكومة، بل تم في وقت لاحق بمبادرة من عضوات البرلمان عن حزب العمال.

اتسم خطاب ثاتشر في كثير من الأحيان بالعمى الجندري، فلطالما بررت عدم اختيارها لوزيرات بحكومتها والنسبة الضعيفة للنساء اللاتي يدعمهن حزبها في الانتخابات بأن الاختيار أساسه الكفاءة بغض النظر عن الجنس، في تجاهل تام للتمييز الهيكلي الذي تعاني منه النساء متمثلًا في غياب التوزيع العادل للمسؤوليات العائلية، والتوقعات الاجتماعية المستندة إلى نوع الجنس، والفجوة في الأجور بين الجنسين، والتصورات النمطية الشائعة عن أداء المرأة عند تقلد المناصب القيادية.

علاوة على ذلك، لم تكن أول رئيسة للحكومة في بريطانيا مقتنعة بأن ثمة صلة بين بلوغها هذا الموقع ونضال ناشطات الحركة النسوية على مدى قرن من الزمن أو أكثر قليلًا، وهو النضال الذي مكّن النساء من العمل في شتى المجالات بما فيها المجال السياسي وبفضله حصلت المرأة على حق الانتخاب، وقد عبرت مارجريت ثاتشر مرارًا عن معارضتها للحراك النسوي، وتنسب لها صحيفة المراقب الأسبوعية (The Observer) قول «أنا لا أدين بشيء إلى حركة تحرير النساء.»

هناك افتراض شائع بأن عهد مارجريت ثاتشر كان رماديًا بالنسبة للنساء، فلم يشهد تحسنًا على المستوى السياسي أو الاجتماعي، لكنه أيضًا لم يؤد إلى مفاقمة معاناة أو ضياع لحقوق مكتسبة، وغالبًا ما يُهمّش المقتنعون بهذه الفرضية تجارب المهاجرات إلى بريطانيا من دول الكومونولث الموجودة في آسيا، اللاتي عايشن معاناة مركبة من جراء سياسات ثاتشر المعادية للهجرات القادمة من هذه الدول، إذ استهدفهن وقتها عداء مزدوج كان سنده ثقافة التفوق الأبيض الأبوية التي كرست لها العديد من مواقف وتصريحات أول رئيسة للحكومة في بريطانيا وأوروبا قاطبة.

 

**الصورة الرئيسة مرخصة ضمن المشاع الإبداعي (رئيسة المكسيك المنتخبة كلوديا شينباوم)