تحبس حنان أنفاسها بينما يلقي الصيادون الشباك في البحر، تراقبهم بتوجس حتى يسحبوا الشباك وينجرف السمك الصغير إلى سطح المركب، تتعلق حينها عيناها بما جاد به البحر، وترتسم نصف ابتسامة خجلة على وجهها، تعاند اكتمالها خوفًا من أن يلاحظها أحد فيعلم بسرها.

في هذه اللحظات، لم تكن حنان أو الريسة ليلى وحدها من تملكته مشاعر الخوف والترقب والرجاء، فقد سيطر هذا الطيف من المشاعر على كثير من النساء أثناء متابعتهن لهذا المشهد ضمن أحداث الحلقة الثالثة من مسلسل «تحت الوصاية»، وقد امتدت هذه الحالة من التوحد مع شخصية حنان على مدار الحلقات التالية، ففي كل مرة تحقق الأخيرة انتصارًا ولو كان صغيرًا تغمرهن السعادة، ومع كل انتكاسة يتجرعن مرارات الآلم معها، وعندما تضطر إلى ترك طفليها في المنزل يشعرن بالقلق عليهما، وحين يقترب منها الخطر تهرع قلوبهن معها.

وقد أسهم في خلق هذا التلاحم بين المشاهدات والشخصية الرئيسة في «تحت الوصاية»، الأداء شديد التميز والحساسية للممثلة منى زكي بطلة العمل، بالتوازي مع انضباط الإيقاع، والتوظيف المتقن للتكوينات البصرية، إلا أن السبب الرئيس في إحداث هذه الحالة هو الحكاية التي تتماس بشكل مباشر مع واقع ملايين النساء، فما يحدث لها يذكّرهن بأنفسهن في مرحلة ما سواء كن مكانها أو شاهدات على معاناة تناظر تلك الخاصة بها، وبالنسبة لبعضهن تثير هذه القصة مخاوف كامنة مما قد يغدو واقعهن يومًا ما.

مسلسل «تحت الوصاية» من تأليف شيرين وخالد دياب، وإخراج محمد شاكر خضير، وإنتاج شركة ميديا هب (سعدي-جوهر)، ومونتاج أحمد حافظ، وإدارة تصوير بيشوي روزفلت. أما تصميم الأزياء اضطلعت به ريم العدل، والموسيقى التصويرية وضعتها ليال وطفة.

كم من حنان بيننا!

ينشغل المسلسل بمرحلة محددة في حياة حنان وطفليها وهي اللاحقة على وفاة زوجها، ويناقش من خلالها الإشكاليات المتصلة بقضية الولاية على الأطفال القصر، فالولاية على أموالهم وتعليمهم يضعها القانون المصري في يدي الأب طالما كان حيًا، وبعد وفاته تنتقل مباشرة إلى الجد للأب، ومن ثم تصبح الأم وأطفالها تحت وصاية رجل لا يعلم بشؤونهم واحتياجاتهم وربما لا يكترث لها من الأساس.

لحرمان الأم من الولاية على أطفالها جذوره في الفلسفة التشريعية التي ترسخ الهياكل الأسرية الأبوية، وتتعامل مع الأم بوصفها مربية للأبناء فقط، أما إدارة أموالهم واتخاذ القرارات المصيرية في حياتهم فتعطيها للأب ومن بعده أقرب رجل إليه بصلة الدم.

في ضوء ذلك تزداد احتمالية استغلال الوصي لسلطته على مال الأطفال وتعليمهم بما يحقق مصالحه وليس مصالح مستحقيه، وقد تبدّى هذا في موقف الحاج عطية (يؤدي دوره جميل برسوم) من ذهاب حفيده إلى المدرسة، إذ يشجع الجد الطفل ياسين على التواجد معه في ورشة الحدادة التي يملكها على حساب الانتظام في الدراسة، متذرعًا بحرصه على تعليم ياسين «صنعة» تفيده مستقبلًا.

تهدد قناعة الشخص الذي آلت إليه الولاية آمال الأم، التي لا تألو جهدًا حتى يستكمل ابنها تعليمه المدرسي والجامعي ليجد فرصًا في الحياة أفضل من تلك التي كانت أمام والديه، إذ يقف الجد على الضفة الأخرى حيث لا يمكنه رؤية جدوى للتعليم، وقد لخص ذلك في قوله «ويعني اللي اتعلموا عملوا إيه، حاطين الشهادات في البيوت وقاعدين يتفرجوا عليها، إنما الصنايعي بيتنشئوا عليه في كل حتة.»
بالإضافة إلى هذه الواقعة، عرضت مشاهد ما قبل تتر البداية (آفان تتر)، جوانب مختلفة لمعاناة حنان وصداماتها المتتابعة مع عائلة زوجها، التي أفضى إليها حرمانها من الوصاية على أموال أطفالها واصطدامها بحائط صد اسمه «المجلس الحسبي».

تقود مسألة الولاية على الأطفال القصر إلى قضية أخرى وهي النساء المعيلات وما يواجهنه من تحديات، لا سيما إذا كان مجال عملهن يخضع لسيطرة ذكورية تامة كالصيد في البحر، ويأتي الربط بين القضيتين وانبثاق إحداهما عن الأخرى كأحد تمثلات الإحكام والمنطقية في بنية السرد الدرامي، خاصةً أن خروج حنان للعمل بعد وفاة زوجها لإعالة نفسها وطفليها وتحملها لمشاق لا تنتهي، يناظر حال ثلثي النساء اللاتي يعلن أسرهن بشكل كامل في مصر، إذ تكشف دراسة للمرصد المصري التابع للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أن 70.3 في المئة من المصريات اللاتي يتحمل مسؤولية إعالة أسرهن، أضحين كذلك بعد وفاة الأزواج.

وتعد واحدة من أبرز مزايا معالجة مسلسل «تحت الوصاية» للقضيتين ومآلاتهما، هي البعد عن الخطابات المباشرة والحذلقة اللفظية، إذ تتسم الحوارات بالرشاقة والسلاسة، والتوافق مع طبيعة الشخصيات والمواقف الإنسانية والعاطفية التي تحتضنها، ولهذا أثره الواضح فيما يتعلق بالتفاعل الإيجابي واسع الرقعة الذي نالته الموضوعات التي يطرحها العمل.

تقف حنان في مفترق طرق بعد وفاة زوجها، فإما أن تستكين وتستسلم لسطوة الجد والعم على حياتها وحياة طفليها، وإما أن تسلك طريق المقاومة وتحدي الأمر الواقع حتى إذا كان ذلك سيجبرها على العيش هاربة بقية عمرها. وبيد أن الخيار الثاني تحفه مخاطر أكبر من الخيار الأول، تختاره حنان وتهرب بطفليها ياسين وفرح ومعهم مركب الصيد من الإسكندرية إلى دمياط، في مسعى منها لتجاوز مصير قاتم دفعها إليه واقع تشريعي ونظام اجتماعي يعتبرانها فاقدة للأهلية.

وفي سبيل التحرر من وصاية عطية وابنه صالح (يؤدي دوره دياب)، ومن أجل إعادة فتح باب الرزق الذي أغلقاه، تواجه حنان مواقف لم تعهدها من قبل وتقوم بأشياء لم تتصور في السابق أن يسوقها الزمن إليها، بما في ذلك اللجوء إلى تزوير هويتها الشخصية، وتحمُّل فظاظة الصيادين الذي يتعاملون معها باستخفاف واستعلاء ذكوري، والصمود في وجه تجبر أحد رجال سوق السمك واضطهاده لها، بالإضافة إلى تسلّحها بالحذر والاحتراز في كل مرة تعتلي المركب في رحلة صيد، لمواجهة ذلك الصياد الذي لا ينكفئ عن ملاحقتها والتحرش بها.

«الرجولة» كدافع لارتكاب كل قبيـح ومستقبح

واحدة من أهم مزايا البناء الدرامي للشخصيات في مسلسل «تحت الوصاية» هي عدم السقوط في الفخ التقليدي المتعلق باختزال الشخوص في فريقين، أخيارًا في المطلق أو أشرارًا على طول الخط، فالشخصيات أكثر تركيبًا من ذلك وكل منها له منطقه ومبرراته، ولذلك فإن حنان ليست شخصية مثالية منزهة عن العيوب والأخطاء، وليست أيضًا امرأة استثنائية لا تهاب أحدًا أو شيئًا، ولا هي امرأة مغلوبة على أمرها تتقاذفها أمواج الظلم من دون مقاومة، بل هي امرأة عادية تتنازع داخلها مشاعر وأفكار متناقضة؛ يغلبها الخوف أحيانًا  وتلازمها الجسارة في أحيان أخرى، ومثلما تتسم بالطيبة والنبل في مواقف تركن إلى المراوغة والاحتيال في مواقف أخرى، ما دام ذلك هو السبيل الأوحد لمجاراة عالم يسوده الحيف.

الأمر ذاته مع شخصية صالح المستعد للزج بحنان في السجن، حتى يستعيد مركب الصيد التي بات يعتبرها خاصته منذ أن توفي شقيقه، إذ يعتقد صالح يقينًا أن كل فعل ممجوج يرتكبه أقدم عليه مضطرًا بعد أن جارت على حقه حنان.

يسطو صالح على المركب بتصديق من أمه وأبيه ومباركة من خطيبته وأمها، ولا يرى فيما يفعله انتهاكًا أو اعتداءً على حق ليس له، ويرجع ذلك إلى المنطق الذي يفكر به ويتصرف تبعًا له، فهو يبرر أحقيته في المركب كونها صارت وفقًا للقانون تحت وصاية والده، وما دام قد صار هو ابنه الوحيد بعد وفاة شقيقه، أي «الراجل» الذي يحمل اسمه وينوب عنه، إذًا يحق له التحكم في المركب بالوكالة.

وعلى غرار الأغلب الأعم من الرجال، يرفض صالح ووالده الإقرار بعدم مشروعية امتيازات غير مستحقة، منحها لهم سياق اجتماعي وثقافي أو نسق تشريعي مرتكزه هو الفكر الذكوري. لكن تشبث صالح ببقاء المركب في حوزة أبيه يبدو أشد ممن له الوصاية نفسه، وذلك لما تعطيه له من قيمة كـ«رجل» في نظر والدة خطيبته المقتنعة بأن الطبيعي في العلاقات بين الجنسين هو أن يكون الذكر هو من ينفق، وإذا لم يفعل لا يكون رجلًا في عين أحد وأولهم زوجته، وقد تجسد ذلك بوضوح في عبارة «الراجل اللي ما يكفيش بيته من جيبه ما بيبقاش راجل»، التي قالتها خلال حوار مع ابنتها منى (تؤدي دورها نهى عابدين) لتبرر لها قرارها بفسخ خطبتها من صالح، بعدما صار العمل المتاح أمامه هو الاشتغال بالحدادة مع والده، وهو ما يعني أن دخله سيكون أقل من إيرادات مركب الصيد.

على عكس حنان التي تحاول كسر قيد الوصاية الذكورية، ترتضي منى خطيبة صالح بوصايته عليها، فلا تجد غروًا في أن يكون شريكها هو الآمر الناهي وهي المطيعة المستجيبة، وتتصالح مع إهانته وتهديده لها في انسحاق تام أمام الوصاية الذكورية.

تستبطن أقوال وأفعال ومواقف الأم وابنتها أفكار العقلية الذكورية؛ هذه العقلية التي تقف وراء اعتقاد الصياد حمدي (يؤدي دوره خالد كمال) بأن خروج امرأة للعمل في ساحة الذكور وصعودها منفردة معهم إلى مركب تٌبحِر في أوقات الليل يسوغان له الاعتداء جنسيًا عليها واغتصابها، وهي أيضًا التي جعلت صديقه الصياد عيد (يؤدي دوره علي صبحي) يرى أن حنان هي المذنبة ولا شيء يبرر لها مقاومة حمدي بطعنة في بطنه حين هم بالاعتداء عليها جنسيًا، وقد أبانت كلماته الغاضبة رغم اقتضابها قناعته بأن هذه المرأة تتحمل مسؤولية ما حدث لها، ولا يجدر بها سوى الصمت طالما أنها قبلت أن تكون وسط الرجال وحدها في عرض البحر. غير أن لهجته العدائية في كل لقاء له مع حنان، تحمل في جوفها سخطًا مبعثه صلف ذكوري لا يصدّق في قدرة امرأة على قيادة مركب صيد، ويرفض التصالح مع حقيقة أنها «ريسة المركب» التي توجه وتحدد قواعد وشروط العمل للرجال.

تتعامل حنان مع صروف الدهر بجلد وصمود، وتزداد إصرارًا يومًا بعد الآخر على تحقيق ما عزمت عليه رغم الشدائد، بفضل الدعم الصادق الذي تمتد به أيادي رفقاء مثل دلال سائقة التاكسي (تؤدي دورها ثراء جبيل)، وشقيقتها سناء (تؤدي دورها مها نصار)، وعم ربيع (يؤدي دوره رشدي الشامي)، وجارها زكريا (يؤدي دوره أحمد خالد صالح).

في النهاية، نرى كثيرين هذه الأيام يعبرون عن إعجابهم الكبير بحنان ومثيلاتها في الواقع، ويكتب بعضهم أو يقول عبارات تحتفي بصلابتهن وكفاحهن، ونتوقع أن تشكر بعض الجهات وتكرم صناع المسلسل على اختيارهم هذا النموذج الذي يعكس حياة ملايين النساء «الملهمات». لكن في حقيقة الأمر، لا تنتظر النساء اللائي تتشابه قصصهن بدرجة ما مع قصة حنان احتفاءً بقتالهن في حرب فرضت عليهن، من جراء تحيز اجتماعي وثقافي وتشريعي ضدهن، فما يتطلعن إليه حقًا هو الإنصاف والعدالة، وآملهن الكبير هو أن ينقضي الحيف القانوني تجاههن.