تعود بدايات الصحافة النسوية في بريطانيا إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعد باكورتها هي المجلات نصف وربع سنوية التي كان يقتصر تحريرها على النساء، ويظهر في مضمونها المعني بتغطية الشؤون الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية، تحيز إلى قضايا تعليم النساء وعملهن وتملكهنّ للأراضي والعقارات.

لكن مع تنامي حركة الدفاع عن حق النساء في التصويت وممارسة العمل السياسي، سطع نجم المجلات التي تختص بتغطية كل ما يتعلق بالحراك في هذا الصدد، وكانت أولاها مجلة الاقتراع النسائي (Women’s Suffrage Journal) التي صدرت على يد ليديا بيكر في العام 1871 واستمر صدورها لعشرين عامًا.

في هذه الحقبة أيضًا، خرجت إلى النور أول صحيفة تتبنى أجندة الحراك النسوي، ولا تحررها فقط النساء بل يطبعنها بأيديهن، وهي صحيفة بنس المرأة (The Women’s Penny) التي صدرت في العام 1888، وكان يجري طباعتها في مطبعة مجتمع طباعة النساء (Women’s Printing Society) التي أسستها الناشطة النسوية إيما باترسون، لتكون بوابة لدخول المرأة إلى مجال الطباعة والنشر الذي يستحوذ عليه الرجال ويمنعون النساء من العمل به.

وقد ساهمت هذه المطبعة في إذكاء الحراك المطالب بحق النساء في التصويت، عن طريق الطباعة المكثفة للمنشورات التي كانت توزعها بعض المجموعات والمؤسسات لحشد مزيد من الدعم لقضيتها.

مع صدور أول قانون بريطاني يعترف بحق النساء في التصويت بالانتخابات النيابية في العام 1918، تراجع الاتجاه إلى تخصيص مجلات وصحف لتغطية هذه القضية والحراك المرتبط بها حصرًا، وصعدت إلى الواجهة مجلات تستهدف نساء الطبقات الوسطى والفقيرة الأكثر مشاركة في سوق العمل. وقد عمدت هذه المطبوعات إلى مد هؤلاء النساء بأفكار واقتراحات لمساعدتهن على العيش بشكل صحي، في ظل ما يتحملنه من أعباءٍ في العمل والمنزل، ومن أبرز نماذج هذه المرحلة مجلة المرأة والمنزل (Woman and Home) التي بدأ صدورها في العام 1926 ولم ينقطع حتى الآن.

واللافت أن معظم مجلات هذه الفترة على عكس سابقاتها لا تزال تصدر حتى الآن، والسبب الأقرب لتفسير ذلك هو أن القضايا النسوية المعهودة لم تأخذ حيزًا كبيرًا على صفحاتها، بالمقارنة مع الموضوعات التي تركز على توفيق المرأة بين النجاح في العمل والقدرة على إدارة شؤون الأسرة على النحو الأفضل، في إطار لا يهدف إلى التغيير الجذري للتقسيم النمطي للأدوار بين الجنسين، وإنما يدعم بقاء العمل المنزلي كمسؤولية تتحملها المرأة بالكامل، حتى إذا كانت تخرج إلى العمل اليومي المأجور مثل الرجال، وهو الخط التحريري الذي ساهم في اتساع المقبولية الاجتماعية للمجلة وأدى بالتبعية إلى ضمان مصادر تمويل ممتدة ومتجددة لها، على النقيض من المجلات النسوية التي غالبًا ما كانت تؤدي قلة الموارد المادية المتاحة أمامها إلى توقف صدورها.

المرحلة الأكثر نضجًا للصحافة النسوية البريطانية

بلغ الحراك النسوي البريطاني أوجه في سبعينيات القرن الماضي، إذ ازدادت التظاهرات المطالبة بالحقوق الشخصية للنساء، لا سيما الحقوق الجنسية والانجابية، واحتدت مقاومة التمييز الجنسي على صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولم يقتصر التعبير عن الغضب على المسيرات والوقفات الاحتجاجية، فقد تنامى الاعتماد على المؤتمرات كمنفذ للدفع بأجندة الموجة الثانية للحراك النسوي مع تزايد مشاركة النساء في هذه الفعاليات.

كذلك اشتد الاحتجاج على تسليع النساء ولجأت الناشطات النسويات إلى أساليب أكثر غلظة، إذ فاجئت العشرات منهن منظمو حفل ملكة جمال العالم الذي أقيم في نوفمبر من العام 1970، باقتحامهن قاعة ألبرت الملكية في العاصمة لندن التي كانت تحتضن الحدث، وهن يرددن بصوت عالٍ «نحن لسنا قبيحات.. نحن لسنا جميلات.. نحن غاضبات.»

وفي العام 1972، استقبلت قائمة الكتب الرائدة التي لعبت دورًا جوهريًا منذ بداية القرن العشرين، في تطوير المفاهيم والنظريات النسوية، وطرحت قراءات مغايرة للتاريخ ولواقع النساء، وساهمت في تعضيد التمرد النسوي، كتاب الجنس والنوع والمجتمع (Sex, Gender, and Society)، للأكاديمية والكاتبة النسوية الإنجليزية آن أوكلي الذي تعمقت من خلاله في إبراز الفارق بين الجنس والنوع الاجتماعي، مرتكزةً إلى مروحة واسعة من الأدلة الكاشفة لجذور التشكيل الاجتماعي والثقافي للنوع أو الجندر وعلاقته المباشرة بغياب المساواة بين النساء والرجال. وقد مثل الكتاب حينها نقطة تحول في تاريخ الكتابة النسوية الإنجليزية، وغدت بسببه آن أوكلي واحدة من رموز الفكر النسوي في الغرب.

في هذه الفترة أيضًا، فطنت بعض الصحافيات ممن يتبنين قناعات نسوية تتوافق مع مطالب وأولويات الموجة الثانية إلى ضرورة استغلال الكتابة الصحافية الأقرب إلى المجتمع لزيادة الوعي وتغيير الثقافة، خاصةً مع تصاعد وتيرة استهداف الحركة النسوية وعضواتها وخطابها بالسخرية والاتهامات والإساءات في الصحافة التجارية السائدة، ومن ثم قررت روزي بويكوت ومارشا رو في العام 1972 أن يطلقن مجلة سبيرريب (Spare Rib) الشهرية، التي أصبحت أشهر مطبوعة في تاريخ الصحافة النسوية البريطانية، وواحدةً من أكثر المجلات جماهيرية بين النساء الإنجليزيات في السبعينيات والثمانينيات.

استبدلت مجلة (Spare Rib) الإدارة التحريرية التراتبية بشكلها التقليدي بإدارة تحرير نسائية تشاركية، مما فتح الباب أمام الصحافيات إلى طرح أفكار لم يكن متاحًا لهن مناقشتها في ظل الإدارات الهرمية، وبالأخص إذا كان الرجال هم من يعتلي القمة، واستطعن نتيجة لهذا أن ينشرن عبر المجلة موضوعات لم يكن معهودًا تناولها في الصحافة وقتئذٍ مثل: الحقوق الجنسية،  والحرية الجسدية للنساء، والنشوة الجنسية، بالإضافة إلى العنف المنزلي سواء كان نفسيًا أو جسديًا أو جنسيًا. وقد اختارت روزي بويكوت ومارشا رو مؤسستا المجلة، هذا النمط للإدارة تحديًا للهياكل الأبوية الراسخة في عالم الصحافة التي تحجب أصوات النساء وتحصرهن في خانة المنفذ الصامت.

نجحت المجلة خلال مسيرتها الممتدة لعقدين في استقطاب قارئات من مختلف الخلفيات الاجتماعية، واحتكرت خلال معظم سنوات صدورها موضعًا ثابتًا على أرفف بيع الصحف والمجلات، لا تقارعها عليه أي مطبوعة أخرى.

وإضافة إلى الصدى الواسع الذي حققته داخل بريطانيا، لفتت مجلة (Spare Rib) أنظار الحركات النسوية في دول أخرى، فاجتذبت أقلامًا نسوية بارزة مثل: بيتي فريدمان من الولايات المتحدة صاحبة كتاب اللغز الأنثوي (The Feminine Mystique)، وجيرمين غرير ‏من أستراليا صاحبة رواية الأنثى المخصية (The Female Eunuch).

في الوقت ذاته، مكّنت (Spare Rib) قارئاتها من المساهمة في التحرير عبر استقبال ونشر رسائلهن سواء كانت مقالات وتعليقات أو تساؤلات موجهة للمحررات، مما أضفى طابعًا تفاعليًا على المجلة ووثق العلاقة بين صانعاتها وقارئاتها.

خصصت (Spare Rib) صفحةً واحدة بين صفحاتها للرجال، كرمزية تهكمية على تخصيص الصحف التجارية لصفحة واحدة لتغطية ما يخص النساء، وفي عددها الثاني عشر انتقدت بشكل لاذع مسألة الصفحة الواحدة التي عادةً ما تقتصر على موضوعات الأزياء والطهي. وقد أعلن فريقها في هذا العدد زيادة تغطية المجلة لقضايا النساء غير المرئية والبعيدة عن النقاش، والعزم على التوسع في تحليل تبعات شتى الأحداث على حيوات النساء. كما مددت (Spare Rib) المساحة المخصصة لتغطية الفعاليات النسوية لتكون منصة معبرة عن الحراك النسوي النشط بقوة في ذلك الوقت.

في مرحلة لاحقة، ضاعفت (Spare Rib) تغطياتها لقضايا النساء في دول الجنوب، في محاولة للخروج من مأزق اتهامها بالترويج للفكر النسوي الأبيض الذي يستند إلى مفهوم جامد للنساء يعتبرهن كتلة واحدة، في إغفال تام للهويات الأخرى كاللون، والعرق، والطبقة، والقدرة الجسدية، والسياقات الاجتماعية والسياسية التي تتباين من مكان لآخر.

مع نهاية الثمانينيات، ظهرت البوادر الأولى للأزمة المالية التي أنهت مسيرة (Spare Rib)، حيث  انخفضت عائدات الإعلانات في ظل وضع اقتصادي مأزوم داخل بريطانيا، ثم ازدادت الأمور سوءًا في العام 1991، فاضطرت المجلة إلى توجيه نداء لقارئاتها وقرائها لدعمها ماليًا حتى لا تتوقف عن الصدور، ورغم استجابة كثير من القراء فإن ما تم جمعه لم يكن كافيًا لتغطية جميع النفقات.

ومع ذلك حاولت عضوات إدارة وفريق التحرير أن يجدن سبيلًا للاستمرار، فقررن أن تصدر المجلة كل شهرين بدلًا من كل شهر، إلا أن ذلك أيضًا لم ينقذ المجلة سوى لشهور معدودة، حتى اضطر فريقها إلى الإعلان عن انتهاء رحلة (Spare Rib) بسبب القيود المالية في العدد رقم 239 للمجلة.

الإنترنت يفتح آفاق الاستمرارية ويحرر الإرث من القيود المكانية

تعرضت الصحافة النسوية لانتكاسة كبيرة في التسعينيات، ولكن مع دخول الألفية الجديدة ائتفكت رياح الرقمنة قويةً، وصار الفضاء الإلكتروني الواسع إكسيرًا للصحافة النسوية المستقلة، حيث ظهرت منصات إلكترونية لا تخضع لقيود النشر والتمويل التقليدية، وفي مقدمتها منصة كلمة إف (The F-Word) التي انطلقت في العام 2001 بواسطة الكاتبة الإنجليزية كاثرين ريدفيرن، وبدأت في ذلك الوقت كمدونة مفتوحة للناشطات والكاتبات النسويات لطرح أفكارهن ورؤاهن حول مختلف القضايا المرتبطة بالنساء، ثم تطورت لتصبح مجلة إلكترونية تديرها مجموعة من المتطوعات.

ومع تزايد شعبية مواقع التواصل الاجتماعي خلال الخمسة عشر عامًا الأخيرة، انفتحت ساحة أخرى أمام الصحافة النسوية الرقمية، تتسم بمرونة أكبر وتمكّن صانعاتها وصناعها من استخدام عدة أشكال للإنتاج الصحافي سواء المقروء أو المسموع أو المرئي، والوصول به إلى أرقام هائلة من المتابعات والمتابعين في شتى بقاع الأرض، من دون حاجة لتكبد نفقات كبيرة لإنتاج هذا المحتوى أو التقيد بشرط توافر مقر للعمل منه.

علاوة على ذلك، فإن واحدة من أهم عطايا الرقمنة للصحافة النسوية عمومًا والبريطانية خصوصًا، هي إخراج أرشيف المجلات والصحف النسوية من الأقبية والمخازن، وإتاحته عن بُعد عبر شبكة الإنترنت لكل من لديهم الحاجة للاطلاع عليه والاستفادة منه، فقد أضحى بوسعنا في الوقت الحالي التجول افتراضيًا في الأرشيف الكامل أو الجزئي لأي من المجلات والصحف التي تناولناها في هذا المنشور، بالنقر فقط على كلمة أو أيقونة.