قبل عدة شهور خرجت المطربة المصرية شيرين عبد الوهاب، عبر مداخلة هاتفية مع أحد البرامج الحوارية، لتكشف عن تعرضها للعنف النفسي والجسدي على يد زوجها السابق الملحن والمطرب حسام حبيب، وقد عبرت حينها عن حجم الأذى النفسي الذي لحق بها قائلة «أنا في حياتي متأذتش من إنسان كده».

أعرب كثيرون آنذاك ممن استمعوا إلى المداخلة أو علموا بما جاء فيها، عن دعمهم وتضامنهم مع شيرين التي كسـرت حاجز الصمت ورفعت اللثام عن معاناتها من جراء العنف المنزلي الذي كانت تتعرض له على مدار سنوات، وصار كل ظهور علني لها محاطًا بالمساندة والمؤازرة.

لكن سرعان ما تبدلت الحال وتآكل الدعم والتضامن بعد أن أعلنت شيرين في شهر نوفمبر الماضي عودتها إلى زوجها السابق، وتحدثت في مداخلة هاتفية مع أحد أكثر البرامج الحوارية شعبيةً عن سعادتها وفرحتها بالعودة إلى الرجل الذي سبق أن أقرت بتعنيفه لها، واستغلاله المادي لها، فضلًا عن إساءته لابنتيها، وقالت خلال حديثها «أنا في عصمة راجل طيب جدًا، ولو في يوم من الأيام طلعت قلت كلام عنه علشان هو كان مزعلني، ده شيطان وبيحصل لكل الناس.»

بعد أن طوّق شيرين كم هائل من الدعم، انغلقت العديد من مصادره وتحول بعضها إلى منافذ لإلقاء اللوم عليها، واتهامها بتقمص شخصية الضحية، ووصمها بالمازوخية والاستمتاع بتعذيب الآخرين لها، وقد افترض المحتشدون وراء هذه الآراء أن شيرين عادت طواعيةً إلى مصدر الأذى في ظروف طبيعية لا يشوبها شائبة، وهو الافتراض الذي بني على أمرين، أولهما هو استقلال شيرين المادي عن هذا الرجل، فهي ليست كنساء أخريات مضطرات إلى البقاء مع أزواج معنفين لاعتمادهن عليهم ماديًا في ظل غياب أو قلة الموارد الاقتصادية البديلة. أما الأمر الثاني الذي أكدته شيرين وأسرتها والعديد من أصدقائها هو تقبل المجتمع المحيط بها لانفصالها عن زوجها ودعمه لهذا القرار، وهو امتياز ربما لا تحظى به كثير من النساء، إذ لا تزال بعض المجتمعات تتعامل مع الطلاق بوصفه أمرًا مشينًا للمرأة (وليس للرجل بالطبع)، ومن ثم تواجه المطلقات نفورًا من المحيطين بهن ويتعرضنّ للإساءات سواء المباشرة أو الضمنية، ولذلك ترتضي نساء بالاستمرار مع أزواج معنفين حتى لا يفقدن القبول المجتمعي لهن ولأبنائهن.

ورغم واقعية ما استند إليه أصحاب هذه الآراء، فإن شيرين مثل نساء كثر يخترن البقاء مع شركاء أو أزواج معنفين حتى لو كانت جل الظروف ترجح كفة التحرر من قيود العلاقات السامة والمنهكة، وذلك بسبب دوافع نفسية غالبًا ما ترفض المجتمعات المحيطة تقبلها. إذ يرجع قرار النساء في معظم هذه الحالات إلى ترابط الصدمة أو الترابط المؤلم (Traumatic Bonding) الذي يكون ذا تأثير أكبر وأشد عليهن من مسوغات الرحيل.

كيف يولد الارتباط الشديد من رحم الصدمة؟

تظهر في بعض العلاقات المؤذية سواء كانت تنطوي على إيذاء نفسي أو جسدي أو كليهما إمارات ارتباط عاطفي أحادى الاتجاه، إذ تتولد مشاعر ارتباط عميق لدى المعتدى عليهن والمعتدى عليهم تجاه المعتدين بعد حلقات متواصلة من التعنيف والإيذاء، وهي الحالة التي اصطُلِح عليها باسم ترابط الصدمة أو الترابط المؤلم (Traumatic Bonding).

يرجع الاستخدام الأول لهذا المصطلح إلى الباحث والأكاديمي باتريك كارنز، الذي حدد مجموعة من الاستجابات الفردية للأحداث الصادمة، ومن بينها الترابط المؤلم الذي عرفه بأنه رابط تنسجه الصدمة بين من يقع عليهم الاعتداء وهؤلاء الذين يمارسون الاعتداء بحقهم، حيث تراوح العلاقة بين نقيضي الحب والكراهية، فينتهي الأمر بالمعتدى عليهن والمعتدى عليهم إلى الخلط بين الإساءة والمحبة، مشيرًا إلى أن هذا الترابط يردفه تزايد خطر تعلق الأفراد الواقع عليهم العنف بمرتكبيه.

سبق باتريك كارنز إلى البحث في مسألة التعلق العاطفي بالمعتدي، الباحثان سوزان بينتر ودونالد دوتون اللذان عمدا في بداية الثمانينيات إلى دراسة وتحليل الارتباط العاطفي القوي والمدمر الذي يسيطر على بعض النساء المعنفات تجاه أزواجهنّ المعنفين، وقد وثقا النتائج التي توصلا إليها في دراسة بعنوان «ترابط الصدمة: تطوير الروابط العاطفية لدى النساء المعنفات وفي العلاقات الأخرى التي تشهد إيذاءً متقطعًا.»

وفي دراستهما، يسلط الباحثان الضوء على العلاقة بين العنف المنزلي في فترة الطفولة والعنف المنزلي في العلاقات الزوجية، إذ تتبدى صلة وثيقة بين تعرض الأفراد أثناء طفولتهم للعنف على أيدي أحد الوالدين أو كليهما، ومشاهدتهم لأحد الوالدين يمارس العنف ضد الآخر من ناحية، وارتكابهم له أو قبولهم به في علاقاتهم الزوجية لاحقًا من ناحية أخرى.

ووفقًا للباحثين، فإن مشاهدة الأطفال للعنف المنزلي لا تؤدي فقط إلى تعلّم واكتساب سلوكيات عدوانية، وإنما ترسخ لديهم اعتقادًا بأن العنف وسيلة مشروعة لحل المشاكل الشخصية، وبالتالي يتوقعون سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا أن يكون العنف جزءًا حتميًا من علاقاتهم المستقبلية.

ينشأ الترابط المؤلم (Traumatic Bonding) لدى الناجيات من عنف الشريك الحميم أو الزوج، نتيجة تعرضهنّ لجرعات متفرقة من الإيماءات والأفعال اللطيفة والودودة بعد وقائع العنف، إذ يسعى المعنفون إلى استرضائهن وإخماد أي غضب داخلهن حتى يضمنوا بقائهن، ومع تكرر هذه الدورة مرة بعد الأخرى، تدخل الناجيات في حالة تكيف مع العنف ويتملكهن شعور بالخوف من الابتعاد عن مصدره.

وتعضد هذه الحالة مجموعة من الأفكار المشوشة التي تتسلل إليهن تدريجيًا قبل أن تغدو بمرور الوقت قناعات لديهن، ومنها التصديق بأن العنف لا يشكك في حب مرتكبه بل قد يكون الحب هو مبعث الأذى لدواعي الغيرة أو القلق عليهن، بالإضافة إلى الاعتقاد بأنهن مسؤولات عن حدوث العنف بإقدامهن على فعل أو قول خاطئ، أو الشعور بعدم استحقاقهن للحب والاهتمام مما يزيدهن تمسكًا بالشريك رغم عنفه، فيقنعن بمحاولات تودده المتفرقة ويرتكنّ إليها كدلالة على الحب الذي يخشين فقدانه.

في تقرير نشرته مجلة فوربس الأمريكية (Forbes) في العام 2022، توضح كاتي مور الأخصائية النفسية الإكلينيكية المقيمة بالولايات المتحدة، مراحل تشكل الترابط المؤلم الناجم عن الصدمة، إذ تكون العلاقة إيجابية بين الطرفين في بداية المطاف ثم يحدث الإيذاء، فيتبعه تملق وملاطفة من المعتدي، قبل أن يعود الإيذاء مجددًا فيعقبه التودد، ويعاد السيناريو وهكذا دواليك.

وبحسب الأخصائية النفسية فإن تكرر هذه الدورة يفضي إلى اقتناع المُعتدى عليهن أو المُعتدى عليهم بأن النسخة اللطيفة والحليمة من الطرف الآخر هي النسخة الأصلية، ومع تتابع حلقات الإساءة والتودد يشعرون بأنهم محاصرون في علاقة مربكة ومعقدة.

نحو الخلاص من الأسر

تشير الباحثة والمستشارة النفسية موجي باداياشي إلى أن الترابط المؤلم الناجم عن الصدمة، قد يستمر لدى النساء حتى بعد أن يتحررن من العلاقات المؤذية، وربما يستغرق الأمر شهورًا أو سنوات حتى يزول الارتباط تمامًا، ولذلك ترى أن النساء المعنفات يحتجن في هذا المنعطف إلى أقصى قدر من الدعم والتفهم من العائلة، والأصدقاء، والمجتمع المحيط، ونظام العدالة كذلك.

تقول الأكاديمية والطبيبة آنا وايلي في كتابها «الترابط المؤلم: كيفية التغلب على ارتباط الصدمة في علاقة نرجسية، والتوقف عن الشعور بالتعثر، والتغلب على الحزن، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة»، إن عزل الناجيات عن العائلة والأصدقاء هو أحد أدوات المعنفين لتعضيد الارتباط، نتيجة خوف الطرف المسيء من إدراكهم لاعتلال العلاقة أو معرفتهم بالضرر الواقع على الطرف الآخر، بما قد يجعلهم عائقًا أمام استمرار الإيذاء أو محفزًا للناجيات على الخروج من الدائرة المفرغة.

عطفًا على ذلك، يجدر بالمجتمع المحيط بالنساء اللاتي يتعرضن للعنف المنزلي، أن يتفطّن إلى أن رغبتهن في إدامة هذه العلاقات هي عرض للترابط المؤلم الناجم عن الصدمة (Traumatic Bonding)، ولذا فإن الاستمرار أو العودة إلى الأشخاص المعتدين لا ينبغي أن يستتبعهما انصراف عنهن، لأن انقطاع علاقاتهن بالآخرين يقوي ارتباطهن بالشركاء المعنفين. كما أن الحفاظ على ثقة الناجيات بالأخص في هذه الأوقات، يجعلهن أكثر جنوحًا إلى المشاركة بالخواطر التي تعتمل داخلهن، لا سيما في الفترات التي تعقب الإيذاء وتسبق نوبات الود واللطف، بما يعطي فرصة للمقربين منهن لمساعدتهن على تأمل ما يجري من زاوية مختلفة وحثهن على طلب المساعدة النفسية، وهي الخطوات الأولى نحو غاية التحرر من الترابط المؤلم الذي خلقته الصدمة.