التاريخ الأسود الذي يحاول الاستعمار الأبيض إخفاءه: حين بررت بريطانيا إجراءها كشوف العذرية على المهاجرات الآسيويات
بعد تهاوي الامبراطورية البريطانية الاستعمارية في أعقابِ الحرب العالمية الثانية، أضحت رابطة الكومنولث بالنسبة للملكية الإنجليزية كطوق النجاة الذي يتشبث به الغريق، فلم تنكفأ العائلة المالكة خلال العقود السبعة الماضية عن استغلال هذا الكيان، لإقناع الشعب الإنجليزي بأن مكانة التاج البريطاني لا تزال قوية على الصعيد العالمي.
رابطة الكومنولث هي اتحاد أسسته بريطانيا ليجمع تحت مظلته، الدول التي تحولت من مستعمراتٍ تحت سطوتها إلى بلدان تتمتع بالحكم الذاتي تحت سيادتها، ولكن بمرور الوقت تخلت أغلب الدول الأعضاء عن النظام الملكي وصارت جمهوريات مستقلة مع الاحتفاظ بعضويتها في الرابطة، بينما لا تزال حتى الآن 14 دولة من الأعضاء تتبنى نظامًا ملكيًا دستوريًا، يرأسه من يجلس على العرش البريطاني.
لطالما وصفت الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا ورئيسة الكومنولث السابقة، العلاقة بين بريطانيا وبقية دول الكومنولث بأنها علاقة عائلة واحدة، كما حرصت طوال فترة حكمها التي امتدت إلى 70 عامًا، على إبراز المساواة والتعاون باعتبارهما ركائز العلاقة بين الطرفين، إلا أن كلمات صاحبة أطول فترة حكم لبريطانيا كانت في معظم الأحيان منفصلة تمامًا عن الواقع.
في حقيقة الأمر، لم يؤد سقوط الإمبراطورية البريطانية إلى مراجعاتٍ جادة بشأن مسألة التفوق الأبيض، بل على النقيض من ذلك عمدت مؤسسات الدولة إلى الحفاظ على التقسيم الهرمي للأفراد على أساس العرق واللون عبر سياسات، وقوانين، وتصريحات.
التصريحات العنصرية خرجت من أفواه سياسيين ومسؤولين على مختلف المستويات، ولعل أبرزهم هي مارجريت ثاتشر زعيمة حزب المحافظين سابقًا وأول امرأة تترأس الحكومة في بريطانيا، التي قالت خلال حوار مع برنامج «World in Action»، أذاعته شبكة ITV البريطانية في يناير من العام 1978، إن الشعب البريطاني يشعر بالخوف حقًا من أن يجتاح بلاده أناس من ثقافة مختلفة، في إشارة إلى المهاجرات والمهاجرين القادمين من دول الكومنولث، الذين شهدت الستينيات والسبعينيات تزايدًا في أعدادهم.
لم يكن عداء مارجريت ثاتشر العلني ضد مهاجري دول الكومنولث أمرًا فرديًا أو خارجًا عن السياق، وإنما كان انعكاسًا لحالة بدأ بزوغها في الأربعينيات، ثم تجسدت في قوانين وإجراءات خلال الستينيات، قبل أن تتصاعد حدة العداء في السبعينيات عبر المواقف والتصريحات العلنية من المشتغلات والمشتغلين بالسياسة.
قوننة العنصرية مخافة تآكل التفوق الأبيض
شهدت الستينيات صدور قانون يقيد دخول المهاجرين القادمين من دول الكومنولث إلى المملكة المتحدة، ثم تبعه تعديل آخر أشد تقييدًا في نهاية هذه الحقبة يحدُ من فرص مهاجري الكومنولث الباحثين عن عمل في بريطانيا عن طريق تقسيمهم إلى فئتين، الأولى تحمل اسم المنتمين (Belonging) والثانية لغير المنتمين (Non-Belonging)، وكان التفضيل دائمًا يذهب إلى الفئة الأولى التي تشمل الأشخاص الذين تربطهم بالمملكة المتحدة علاقة مباشرة من خلال أحد الوالدين أو الأجداد.
لم يتوقف الاضطهاد عند ذلك، فقد عدلت بريطانيا مجددًا قانون الهجرة في العام 1971، ليعاد تعريف فكرة الانتماء التي حددها التعديل السالف، ليصبح مهاجرو الكومنولث المسموح لهم بالدخول إلى المملكة المتحدة ليس من لديهم أب أو جد أو جدة يحملون الجنسية البريطانية وحسب، بل من كان أحد والديه أو أحد أجداده قد ولد داخل بريطانيا، بما يجعل الأبواب مفتوحةً أمام القادمين من دول مثل أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، وشبه مغلقة أمام مواطني دول مثل غانا، وأوغندا، وباكستان، والهند.
ولأن العنصرية ما هي إلا انبثاق من الأبوية الاستعمارية، لم تكن هذه هي العقبات فقط أمام المهاجرات من دول الكومنولث وبالتحديد المنتميات إلى شبه القارة الهندية، فقد كن مضطرات للتعامل مع تمييزٍ مركب وأكثر تعقيدَا من الذي يواجه المهاجرين، نتيجة التمازج بين الهيمنتين الأبوية والعرقية؛ وهي الإشكالية التي وضعت أجسادهنّ في مرمى الاضطهاد المزدوج.
أجساد تحمل جنسها ولونها أوزارًا
في السبعينيات، أعطى قانون الهجرة البريطاني لمواطني الدول الأخرى، ومن بينها دول الكومنولث، الذين يوشكون على الزواج من مواطنين بريطانيين يعيشون على أراضيها، الحق في الانتقالِ إلى المملكة المتحدة من دون حاجة لاستخراج تأشيرات، وقد وضع القانون شروطًا للتأكد من جدية مسألة الزواج، وهي أن يثبت القادمات والقادمون من الخارج أن أعمارهم لا تقل عن 18 عامًا، وأن يبرهنوا على أن الزواج سيتم غي غضون ثلاثة أشهر.
لكن حتى نهاية السبعينيات، لم تكن الأوراق الرسمية تكفي لدرء الاضطهاد الأبوي العنصري عن المهاجرات والمهاجرين، لا سيما القادمين من جنوب آسيا الذين كانوا يتدفقون بأعداد كبيرة في ذلك في الوقت، إذ لجأت شرطة الهجرة في مطارات بريطانيا إلى إجبار المهاجرين من شبه القارة الهندية على الخضوع لفحص الأشعة السينية، للتحقق من صحة الأعمار التي تذكرها الأوراق الرسمية الصادرة عن حكوماتهم، أما المهاجرات من نفس الدول لم يكنّ ملزمات فقط بإجراء الأشعة السينية، بل كان كثير منهنّ يخضعن كرهًا لكشوف العذرية قبل أن يسمح لهن بالدخول إلى الأراضي البريطانية.
في دراستهما «الكشف عن جدل اختبار العذرية في الأرشيف الوطني: تقاطع التمييز في تاريخ الهجرة البريطانية»، يؤكد الأكاديميان والباحثان بجامعة فليندرز الأسترالية، مارينلا مارمو وإيفان سميث، أن التحقيق الذي أجرته الصحافية ميلاني فيليبس لصحيفة الجارديان البريطانية (The Guardian)، في فبراير من العام 1979، كان المؤجج لكل الغضب الوطني والدولي الذي قاد إلى إنهاء ارتكاب هذه الجرائم.
كشفت الصحافية الإنجليزية ميلاني فيليبس أن امرأةً ثلاثينية تحمل الجنسية الهندية قد وصلت قبل أيام من نشر التحقيق إلى مدينة لندن، استعدادًا للزواج من خطيبها الذي يحمل الجنسية البريطانية، إلا أن أحد ضباط قسم الهجرة بمطار هيثرو لم يصدق ما أفادت به حول عدم زواجها وإنجابها لأطفال من قبل، فطلب من أحد الأطباء المنتدبين أن يجري لها فحص عذرية.
كان السبب في تشكك الضابط هو الافتراضات النمطية المسبقة حول نساء جنوب آسيا، التي تختزلهنّ في نساء خاضعات كليًا لتقاليد مجتمعات متشددة أخلاقيًا، ولذا فالمتوقع دائمًا منهن أن يكن زوجات وأمهات في سن مبكرة، وأن يكن حتمًا عذراوات قبل الزواج.
«تكاد أن ترتقي إلى أن تكون اغتصابًا»، هكذا اختارت إحدى الصحف الهندية أن تعنون أول منشوراتها عن الجريمة، التي تعرضت خلالها المهاجرة إلى الترهيب والتهديد المبطن بإعادتها إلى الهند إذا رفضت أن تخضع لاختبار العذرية، لينتهي الأمر بقبولها مكرهةً أن تدخل إلى غرفة توقيع الكشف، حيث فحص الطبيب ثدييها ثم أدخل بيده قطعة قطن إلى المهبل، ليخرج بعد ذلك ويخبر الضابط أنها لا تزال عذراء، ومن ثم يمكن لها الدخول إلى بريطانيا.
في أعقاب نشر التحقيق بالجارديان البريطانية، تناقلت العديد من وسائل الإعلام الوطنية والدولية مضمونه الذي وضع السلطات البريطانية في مأزق، حاولت أن تخرج منه ببيان أصدرته وزارة الداخلية يقدم الحادثة باعتبارها حالة خاصة ونادرة الحدوث، إلا أن المحاولة باءت بالفشل بل واستثارت مزيدًا من السخط بعد أن ثبت عدم صحة ادعاءاتها، حين نشرت صحيفة الجارديان بعد أيام قليلة من تحقيقها الأول، تحقيقًا آخر يتضمن شهادات من داخل وحدة مراقبة صحة الموانئ البريطانية، تؤكد وقوع حادثتين مشابهتين خلال السنوات السبع الماضية، بالإضافة إلى إفادات من مصادر أخرى حول وقوع ما يزيد عن 30 حادثة أخرى داخل اللجان البريطانية العليا في دول جنوب آسيا، وهي هيئات تتواجد في دول الكومنولث، بديلةً عن السفارات البريطانية الموجودة في بقية الدول.
أدى انكشاف مزيد من الحقائق عن فحوص العذرية الإجبارية، إلى خروج احتجاجات نسوية في الداخل البريطاني وفي الهند كذلك، وخلال أسابيع قليلة كانت القضية قد دخلت إلى أروقة البرلمان وخصص لها مجلس العموم البريطاني جلسة عاجلة، طالبت خلالها النائبة عن حزب العمال جو ريتشاردسون، بالتحقيق الفوري والعلني والشفاف في هذه الجرائم، معتبرةً أن مثل هذه الاختبارات ليست عنصرية فحسب بل تنطوي على تمييز على أساس الجنس، فمن غير الممكن إجراؤها سوى على النساء، وبالتحديد اللاتي ينتمين إلى خلفية ثقافية تولي أهمية كبيرة إلى عفة المرأة، وهن النساء الآسيويات، على حد قولها.
أبرزت جرائم اختبارات العذرية التي ارتكبها منفذو القانون البريطاني، اختزالهم لنساء جنوب آسيا في أجساد تابعة للرجال، تستمد استحقاقها لدخول «بريطانيا العظمى» والعيش على أراضيها من اقترانها برجل يتمتع بجنسية هذا البلد المحكوم بقوانين عنصرية وقناعات ذكورية.
الذكورية الخالصة تتجلى في الركض وراء خرافة غشاء العذرية واستغلالها لقهر النساء، رغم الأسانيد الطبية التي تؤكد أن ثمة نساء يولدن من دون هذا الغشاء أساسًا، فضلًا عن أخريات يولدن بغشاء مطاط لا ينفض بممارسة الجنس، أما التقاطع بين الذكورية والعنصرية فيتمثل في شتى تفاصيل هذه الحوادث، وفي مقدمتها إنكار حق النساء القادمات من دول كالهند وبنجلاديش وباكستان في امتلاك أجسادهن، والاستبعاد التام لقدرتهن على التحرر من الهيمنة الذكورية والتحكم في جنسانياتهن، في الوقت الذي يتصاعد فيه الاعتراف بحق النساء البيضاوات في بريطانيا وغيرها من دول الشمال في الأمور ذاتها.
وقف الجرائم لا يلغي ضرورة الاعتذار
بعد شهور قليلة من انفضاح جرائم شرطة الهجرة البريطانية وقبل أن ينتهي العام 1979، تشكلت مجموعة نسوية باسم « Southall Black Sisters» للدفاع عن حقوق النساء المهاجرات إلى بريطانيا، لا سيما المهاجرات من آسيا ودول الكاريبي، وقادت حملة احتجاجية واسعة النطاق ضد فحوص العذرية التي تستهدفهن، معتبرةً إياها شكلًا من أشكال اغتصاب الدولة للنساء الملونات.
أما منظمة النساء المنحدرات من أصل أفريقي وآسيوي (OWAAD)، فقد وصل غضبها إلى مطار هيثرو الذي صار معروفًا بتفشي ممارسة هذه الفحوص داخله، إذ اقتحمت عضوات المنظمة ساحة المطار أكثر من مرة خلال العام 1979، ودوت هتافاتهن الساخطة في شتى أرجائه.
نجحت الاحتجاجات التي تقدمتها النساء الملونات، سواء في بريطانيا أو دول الكومنولث في شبه القارة الهندية، في إيقاف فحوص العذرية المهينة التي عبقت بها مطارات لندن واللجان البريطانية العليا في جنوب آسيا خلال السبعينيات، إلا أن الحكومة البريطانية لم تعتذر أبدًا إلى النساء والمهاجرات الآسيويات عن ما اقترفته من انتهاكاتٍ بحقهن على مدار عقد من الزمن أو ربما أكثر من ذلك، كما لو أن معاناتهنّ لا تساوي طَقْ.
تتعاقب الحكومات، وتتبدل الكفة الراجحة في البرلمان، وتصدر تشريعات وتُعدَّل أخرى، وتتغير تركيبة المجتمع، ورغم كل ذلك تبقى بريطانيا متمسكةً بسياسة الكنس تحت البساط حتى يومنا هذا، تظن أن تجاهل الاعتراف بالجرم، وتجنب الخوض فيه، وممانعة الاعتذار صراحةً عنه، سيغرقه في غياهب الماضي، مع أن إخفاء القاذورات تحت البساط لم يسبق له أن أفلح في منع رائحتها الكريهة من الانتشار.