كم من جريمة عنف جنسي تحمّلت الناجيات منها مشقة الإدلاء بشهاداتهن أمام جهات التحقيق، في ظروف صعبة ومناخ قاسٍ، وانتهت مساعيهنّ من أجل الانصاف إلى السراب؛ هي جرائم لا تعد ولا تحصى. وكم هي قضايا العنف الجنسي التي وئدت قبل أن تصل إلى المحاكم لأسباب لم تكن سوى عرض لمرض الأبوية المزمن؛ بالقطع من الصعب تقديرها.

يمكننا أن نذكر من بين هذه القضايا قضيتين يجمعهما التشابه في كثير من التفاصيل؛ الأولى هي المتعلقة بجريمة الاغتصاب الجماعي التي وقعت داخل فندق فيرمونت بالعاصمة المصرية القاهرة في العام 2014، وبدأ التحقيق رسميًا فيها في أغسطس من العام 2020 ليستمر تسعة أشهر من دون أن يفضي إلى إحالة للمحكمة، بعد أن اعتبرت النيابة العامة المصرية أن الأدلة المتوفرة ليست كافية لإقامة الدعوى، والتي تمثلت في شهادات لبعض الشهود (الذين تعرضوا للتشهير وواجهوا اتهامات ليست ذات صلة خلال التحقيقات)، بالإضافة إلى صور مقتطفة من مقطع الفيديو الذي صوره المغتصبون أثناء ارتكابهم للجريمة وأرسلوه إلى أصدقائهم تفاخرًا بما فعلوا. أما القضية الثانية فهي أيضًا تتعلق بجريمة اغتصاب جماعي، وقعت في إحدى المدن الإسبانية في العام 2016، ومع أن هذه القضية انتهت بحكم قضائي ضد المعتدين على عكس قضية الفيرمونت، فإن ضعف الحكم وغياب التوصيف الفعلي والحقيقي لجريمة الاغتصاب، أثبت أن منظومة العدالة عصية على إنصاف النساء، خاصةً إذا ارتبط الأمر بالعنف الجنسي.

ومع ذلك، لم تنكسر مقاومة النساء من جراء هذه الإحباطات ولم تتوقف مساعيهنّ هنا وهناك في سبيل العدالة الحقة، سواء كانت عدالة منظمة أو موازية، فرغم الانتكاسة التي كان يتوقعها كثيرون بشأن ما ستؤول إليه قضية الفيرمونت، فإنها لم تثن النساء المصريات عن الاستمرار في مساعيهنّ لخلق شكل من أشكال العدالة البديلة، عن طريق نشر شهادات مُعرّفة أحيانًا ومُجهلة كثيرًا عن جرائم العنف الجنسي التي تعرضن ويتعرضن لها، لا تقتصر فقط على سرد تفاصيل الحوادث بل تكشف كذلك هوية المعنفين والمغتصبين والمتحرشين، لفضح المعتدين بكل صنوفهم.

على الجانب الآخر، استطاعت النساء في إسبانيا نظرًا لاختلاف الظروف المتاحة للنشاط النسوي هناك وتعدد الفضاءات المفتوحة أمامه، أن يخضن معركةً ضروس على الأرض وعبر الإنترنت، عقب صدور الحكم في القضية المشار إليها، من أجل إصلاح نظام العدالة الجنائية وتنقيح التشريع من الذكورية التي تحكمه في تعريفه وتعامله مع قضايا العنف الجنسي، لا سيما قضايا الاغتصاب.

الزمرة الذئبية: ألم وهزيمة فغضب ونضال

في ليلة صيفية خلال شهر يوليو من العام 2016، بينما يحتشد الآلاف وسط مدينة بامبلونا الإسبانية ضمن احتفالات سنوية تعرف باسم «مهرجان سان فيرمن»، حيث تتعالى الأصوات بالغناء وتتمايل الأجساد بالرقص ويركض بعض الأفراد جنبًا إلى جنب مع الثيران، كانت تقف بين الجموع فتاة في الثامنة عشر من عمرها، جاءت للاستمتاع بالأجواء مع مجموعة من أصدقائها، إلا أنها فوجئت في خضم سريان الاحتفال بتواريهم عن نظرها، فسارعت بالخروج من دائرة الزحام وجلست على أحد المقاعد الجانبية لتحدد موقعها، قبل أن تتوجه نحو سيارة أحد أصدقائها.

أثناء جلوسها على المقعد، تقدم نحوها رجل عشريني وبدأ معها حديثًا ودودًا، ثم عرض عليها مرافقتها بصحبة أربعة من أصدقائه إلى السيارة فقبلت بذلك، وبعد أن قطعوا سويًا أغلب المسافة نحو مقصدها، تبدلت الأجواء على حين غرة، فإذا بها تُقتَاد إلى مدخل أحد المنازل عنوةً، حيث جردوها من ملابسها وتناوبوا على اغتصابها، وقد تعمد اثنان منهم تصوير جزء من الجريمة ليرسلوا المقطع لاحقًا إلى أصدقائهم تباهيًا بما فعلوه.

قبل الصباح كان المغتصبون قد فروا وتركوها داخل ذلك المنزل من دون هاتفها الخلوي، فلم تتمكن من التواصل مع أي من أصدقائها، ولم تجد أمامها سوى أن تخرج إلى الشارع لا تعلم إلى أين تذهب أو ماذا تفعل، حتى وجدت أحد المقاعد فجلست عليه تبكي بصوت مسموع استوقف اثنين من المارة ساعداها على الاتصال بالشرطة، التي بدورها نقلتها إلى إحدى المستشفيات، حيث خضعت للمعالجة السريرية إثر إصابتها بجروح بالغة في المهبل.

قبل أن تمر 24 ساعة على ما حدث كان المغتصبون الخمسة قيد الاحتجاز استعدادًا للتحقيق معهم، وبلغت أخبار الجريمة وسائل الإعلام الإسبانية لتصبح منذ ذلك اليوم عنوانًا رئيسًا في الصحف وعلى شاشات التلفاز، حتى صدر الحكم بعد عامين تقريبًا في القضية التي عرفت باسم «قضية الزمرة الذئبية – Wolf Pack Case».

ويشير اسم الزمرة الذئبية أو زمرة الذئاب إلى التسمية التي كان يطلقها المغتصبون الخمسة على أنفسهم، وهو في الأصل توصيف للذئاب التي تعيش في مجموعات تتحرك سويًا وتنقض على الفرائس معًا.

في إبريل من العام 2018، أدانت المحكمة المعتدين بتهمة الاستغلال الجنسي، وقضت بحبسهم لمدة تسع سنوات وألزمتهم بغرامة قدرها 10 آلاف يورو لكل منهم، إلا أنها برأتهم من تهمة الاغتصاب التي يصل الحكم فيها إلى 15 عامًا، وذلك بسبب التعريف القاصر لجرائم الاعتداء الجنسي في القانون الإسباني، ومن بينها الاغتصاب، إذ يشترط توفر عنصري العنف والتهديد حتى تندرج الجريمة المرتكبة تحت هذا التوصيف، وهو ما لم تجده هيئة المحكمة في المقطع الذي صوره المغتصبون، وظهرت خلاله الناجية في حالة جمود مغمضة العينين أثناء وقوع الاعتداء.

بمجرد إعلان المحكمة لقرارها، خرجت النساء إلى الشوارع في عدد من المدن الإسبانية، يهتفن غاضبات ضد القانون الذي أدى إلى صدور هذا الحكم المجحف، بسبب استناده في تعريف الاغتصاب إلى تصورات ذكورية وغير واقعية عن ديناميات الجريمة، تستلزم وجود العنف الجسدي سواء من المعتدي أو من المعتدى عليها وهو ما يتنافى مع الواقع، إذ لا تنحصر ردود أفعال الناجيات في المقاومة العنيفة، فقد تصيبهن في بعض الأوقات حالة من الصدمة والجمود تمنعهن من الحركة، وهي المعروفة علميًا باسم «Tonic immobility»، وقد يلجأن في أوقات أخرى إلى الصمت خوفًا من احتداد عنف المعتدي.

رد فعل الناجية كان أيضًا حجة اتكأت عليها أصوات بدت مستاءةً من الحكم تعاطفًا مع المغتصبين، بزعم أن ما حدث لا بد أن يكون علاقة جنسية رضائية لأن المقاومة غائبة، وهو ما يجعل الحكم من وجهة نظر هؤلاء حكمًا ظالمًا بحق أفراد لم يتركبوا جريمة، بل إنهم ضحايا لمؤامرة حيكت ضدهم.

وجدت هذه الآراء مرتعًا في مواقع التواصل الاجتماعي، واستغلتها التيارات اليمينية المتشددة لتشويه الحركة النسوية والناشطات النسويات والتحريض ضدهن، مما حفز كارمن كالفو نائبة رئيس الوزراء الإسباني آنذاك وعضوة الحزب الاشتراكي التي طالما عبرت عن قناعاتها النسوية، على أن تتقدم بمقترح للحكومة يهدف إلى زيادة الوعي المجتمعي حول مسألة الرضائية في العلاقات ومحدداتها، وتعديل القانون الجنائي لإعادة تعريف جرائم الاعتداء الجنسي.

الدفة تستجيب لتوجيه النساء

لم يخفف إعلان الحكومة عن الشروع في صياغة مشروع قانون بديل للقائم، من ضغط الحركة النسوية على المشرعين ومتخذي القرار، فقد تواصلت التظاهرات والحملات المطالبة بقانون أكثر حداثة لحماية النساء وضمان حقهنّ في التحكم بأجسادهنّ وعلاقاتهنّ الجنسية، وقد استخدمت بعض المنظمات النسوية توقيع ومصادقة إسبانيا على اتفاقية منع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي، المعروفة اختصارًا باسم «اتفاقية إسطنبول»، كآلية ضغط على السلطة التشريعية متهمةً إياها بالتخلف عن تنفيذ ما جاء بالاتفاقية، التي تنص في مادتها الـ36 على أن تتخذ الدول الإجراءات التشريعية اللازمة لتجريم الممارسات الجنسية التي تفتقر إلى موافقة أحد أطرافها، على أن تكون الموافقة طوعية وناتجة عن إرادة حرة.

ارتدت أصداء الحراك على المحكمة التي كانت تنظر في الاستئناف المقدم على الحكم الأول في قضية «الزمرة الذئبية»، فقد خرج حكمها يقضي بمعاقبة المعتدين بالسجن لمدة 15 عامًا بدلًا من تسعة أعوام، وقد ذكرت في حيثيات الحكم أن الناجية قد تعرضت للتهديد حتى ولو لم يظهر ذلك في المقطع المصور، وبناءً عليه فإن ما وقع هو جريمة اغتصاب تستدعي تشديد العقوبة.

الاعتراف القضائي بأن الجريمة هي اغتصاب مكتمل الأركان لم يسكّن الغضب النسوي، وذلك لأن الحكم استند إلى إعادة تأويل للمعطيات، وليس إلى نص في القانون يعتبر العلاقة الجنسية رضائية، فقط إذا توفرت الموافقة المستنيرة والقبول الصريح من أطرافها.

بعد صدور الحكم الثاني ببضعة أشهر وقبل انتهاء العام 2019، بدأ البرلمان الإسباني مناقشة مشروع القانون المقدم من وزارة المساواة تحت عنوان «نعم فقط تعني نعم»، والذي يلغي إلزامية إثبات العنف أو التهديد للتدليل على وقوع الاعتداء الجنسي، ويضع القبول بإرادة حرة شرطًا لاعتبار العلاقة الجنسية رضائية، إلا أن جائحة فيروس كورونا التي ضربت العالم بداية العام 2020، أدخلت التعديل إلى الأدراج فتأخر تصويت مجلس الشيوخ على مشروع القانون حتى شهر يوليو الماضي، الذي أعقبه تصويت مجلس النواب بنهاية شهر أغسطس، ليتحول التعديل من مقترح إلى تشريع وطني، بعد أن حظي بدعم 205 نائبة ونائبًا في مقابل رفض 141 آخرين.

الأبوية والمراوغة المستديمة

في النهاية، استجابت السلطة التشريعية للحراك وهو انتصار بالتأكيد. لكن ما عهدته النساء في شتى معاركهن ضد العنف والتمييز، هو تجدد المنغصات كلما خطون خطوة للأمام، وذلك هو ما اصطدمت به النساء الإسبانيات عند دخول القانون حيز التنفيذ في شهر أكتوبر الماضي، إذ استغل بعض القضاة والمحامين إشكاليات في الصياغة لاجتراح تفاسير غير المبتغاة في الأصل من القانون، تسمح بتخفيف العقوبات ضد المعتدين الجنسيين، ليستعر الغضب النسوي مجددًا وتظهر بوادر معركة أخرى خلال الأيام والشهور المقبلة لسد ثغرات القانون، وفي العمق ستكون فصلًا آخر من فصول نضالهن لتوهين النظام الأبوي وتفكيك أوصاله.