تحظى حاليًا موسيقى الراب في مصر والعديد من الدول العربية بشعبية وجماهيرية واسعة، إذ لم يعد الاستماع إليها يقتصر على دوائر محدودة أو بين تجمعات بعينها، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بزيادة الإعلانات التي تستعين بفناني الراب الحاليين، وحجم الحفلات الغنائية التي يقدمونها داخل بلدانهم وخارجها، فضلًا عن محاولة بعض فناني البوب العربي الاستفادة من شعبية مغني الراب، ولعل أبرزهم الفنان المصري تامر حسني الذي تعاون مع مؤدي الراب مروان موسى ومغنية الراب هدى شربيني، وكذلك الفنانة اللبنانية نانسي عجرم التي شاركت الرابر المصري مروان بابلو في أغنية بعنوان «عيشها بعافية».

بداية الراب العربي كانت في دول المغرب العربي، ومنها انتقل إلى دول المشرق لا سيما فلسطين والأردن، قبل أن يصل إلى مصر ويشكّل قاعدةً شعبية هي الأضخم بين الدول الناطقة بالعربية.

وقد ارتبط هذا النوع من الغناء في مرحلته الأولى بتعبير فنانيه عن رؤاهم تجاه القضايا الاجتماعية المختلفة وغضبهم إزاء الواقع السياسي المأزوم في بلدانهم، إلا أن الموجة الحالية في مصر التي ترتبط بأسماء مثل مروان بابلو، وويجز، وعفروتو، وشاهين، لا يحركها حنق على وضع سياسي أو انزعاج من ظروف اجتماعية، وإنما يخيم على المشهد الهجاء والتحدي بين مطربي التراب بعضهم بعض، إذ أصبحت معظم أغاني الراب مجرد استعراضٍ للقوة ومباهاة بالتفوق على الأقران، ولا مانع من بعض الازدراء والتهديد.

في السابق، كان وصف الراب بالفن الذكوري يرتكن إلى خضوع الساحة لسطوة الرجال، ولكن في الوقت الحالي لم تعد هذه الحقيقة وحدها هي أساس الوصف، وإنما يعضدها إفعام المشهد بالتغطرس والتعصب الذكوريين الذين يتجسدان في كلمات الأغاني وطريقة الأداء.

ومع ذلك، يسترعي الانتباه قدرة النساء على كسر الأبواب الموصدة، والدخول إلى هذا المجال الذي يسيطر عليه الرجال ويملؤونه ضجيجًا ذكوريًا، وليس هذا فحسب، فقد نجحت مغنيات الراب في اجتراح نمط مغاير من الموضوعات، ليغدو بأصواتهنّ هذا الفن المُسلّم بذكوريته أداةً لمقاومة الفكر والسلوك الأبويين.

ساجي.. الراب كوسيلة لإعلان التمرد على القوالب النمطية

«مش موضوعي أنتم شايفني فين، مش موضوعي، تحبوا وزني كام مش قصتي.»

تأتي هذه الكلمات ضمن أغنية للرابر المصرية ساجي بعنوان «مش موضوعي»، والتي لا تزال تحصد تفاعلًا إيجابيًا على مواقع التواصل الاجتماعي بعد مرور نحو ستة أشهر على صدورها.

ترى ساجي أن النساء يخطون خطواتهنّ الأولى في ساحة الراب، ومن ثم فإنه من الطبيعي أن لا يكون لهن الشعبية التي يتمتع بها الرجال في هذا المجال الذي خضع طويلًا لاحتكارهم.

تغني ساجي الراب منذ أن كان عمرها 12 عامًا، وبعد أن أنهت دراستها الجامعية قررت أن تصدر أغنياتها الخاصة عبر الإنترنت، وتلخص الرابر المصرية علاقتها بهذا النوع من الموسيقى قائلة «أحب الراب، أحب القوة التي استمدها منه، فهو يمنحني القوة لأقول ما أريد بحرية حتى إذا لم يكن صوتي جيدًا بالمعايير المتعارف عليها.»

تتناول ساجي في أغنياتها موضوعات متباينة، كنظرة المجتمع للنساء وما يفرضه عليهن من قيود وشروط ليحظينّ بالقبول المجتمعي، وقد طرحت موضوع إيجابية الجسد (Body positivity) وامتلاك النساء لصورة إيجابية عن أجسادهنّ في أغنيتها «مش موضوعي». وفي النص المرفق بالنسخة المصورة للأغنية على قناتها على يوتيوب، توجه ساجي رسالة إلى متابعاتها ومتابعيها قائلة «لضحايا الإساءة العقلية، هذه هي الأغنية التي كتبتها للاحتفال بتحرري أخيرًا من التسميات التي استخدموها من أجل حبسي. إذا كنت لا تزال مقيدًا بـ”الحقائق” التي يعرضها عليك الآخرون، أقول لك من مكاني هذا، من الجانب الآخر، إن كلماتهم ووجهات نظرهم تعكس فقط واقعهم الخاص وليس واقعك.»

للاستماع ومشاهدة أغنية «مش موضوعي» – هنا

بيري.. صوت يصدح محتجًا على الذكورية السامة

ظهر اسم  بيري الحريري على الساحة بعدما طرحت أغنية «شيجله» للرد ما جاء في أغنية «سالمونيلا»، التي أصدرها المغني والمخرج المصري تميم يونس في يناير من العام 2020، وأردفها سيل عرم من الهجوم على خلفية ما اعتبره قطاع عريض من النساء تحريضًا ضدهن وترويجًا لثقافة العنف ضد المرأة.

برفقة النغمات الموسيقية الخاصة بأغنية تميم يونس، تغني بيري قائلة «وأنا شوفتك وأنت بتطلب مرة لمون نعناع، وبالمرة جيت تطلب رقمي وعاملي بتاع، والنظرة غريبة والهيئة مريبة أنا مش بتباع.»

تواصلت نجاحات بيري بعد ذلك، ومن ثم وقع عليها الاختيار كأول سفيرة لمبادرة (Equal Arabia) التي أطلقتها منصة سبوتيفاي (Spotify)، لدعم الفنانات العربيات بمنصة للاستماع إليهن على المستويين الإقليمي والعالمي.

للاستماع ومشاهدة أغنية «شيجله» – هنا

ميساء ضو.. حينما يحمل الراب أجندةً نسوية

انضمت الممثلة والمغنية الفلسطينية ميساء ضو قبل عدة سنوات إلى فرقة «دام»، أول فرقة راب في فلسطين، وقدمت معها ألبوم «بين حانة ومانة» في العام 2019، الذي تركز أغنياته على حزمة من القضايا الاجتماعية، بعضها يحمل طابعًا نسويًا مثل أغنية «امتى نجوزك يما»، وأغنية «جسدِكهُم» التي تتطرق إلى قضية التحكم في جسد المرأة وتسليعه، وتقول كلماتها «روح حرة داخل جسد غير حر، أخدلي وقت أفهم جسدي، جسدي الأنثوي.. جسدك بيروح، بينام، بيغيب، بيغلط، بيتوب، بنسامحه وبيرجع بيعيد، للأبد ماشي مع ورقة تصريح من الطبيب. جسدي بيكفيه غلطة واحدة، انزلاق واحد، صورة واحدة، فيديو واحد، كم من عين في عجسدي؟!»

تقول ميساء إن مثل هذه الأغنيات ليست جديدة على الفرقة، فقد سبق أن قدمت أغاني تحمل طابعًا نسويًا مثل «الحرية أنثى»، لافتةً إلى أن هذه الموضوعات مستلهمة من المجتمع الذي يعيشون فيه ويتأثرون به، ولذلك تعتبر أن الهجوم والانتقادات هي ردود أفعال متوقعة من المجتمع الذكوري.

من ناحية أخرى، تعتبر ميساء أن فن الراب هو تفريغ لما بداخل الإنسان، بعيدًا عن الكلمات المنمقة والأشعار، وهو ما يمكن وصفه بالحقيقة الناقصة التي يفتقدها الجمهور العربي، على حد تعبيرها.

للاستماع ومشاهدة أغنية «جسدِكهُم» – هنا

ألماس.. الانتقال إلى الراب تحررًا من قيود الغناء التقليدي

دخلت الإماراتية ألماس إلى عالم الموسيقى قبل خمس سنوات بأغانٍ تنتمي إلى فئة البوب العربي، وكان من بينها «شو سوى بيا» باللهجة الخليجية و«بقيت كرهاك» باللهجة المصرية، إلا أنها قررت مؤخرًا أن تخوض تجربة غناء الراب.

تقول ألماس إن السبب وراء اتخاذها هذه الخطوة هو الملل مما وصفته بالشكل المعهود للغناء، ورغبتها في التحرر من القيود التي تفرضها الأغنية التقليدية التي تلزم فنانيها بالعمل مع شعراء وملحنين وموزعين، بينما يُمكّن الراب فنانيه من الاعتماد على أنفسهم في أغلب تفاصيل صناعة الأغنية ككتابة الكلمات، والتلحين، والتوزيع.

تفضل ألماس أن تُطوّع أغنياتها لتسليط الضوء على العنصرية والتمييز الذين تتعرض لهما الفنانات، حتى لو كن أكثر موهبةً وتميزًا من بعض الرجال في المجال نفسه.

للاستماع إلى أغنية قرصة ودن – هنا

أصوات نسائية غاضبة تحتاج إلى ترجمة مختلفة عن الحالية

تستعيد الباحثة والكاتبة مي عامر المرحلة الأولى لـ«الراب المصري» في بداية الألفية الثالثة، التي برزت خلالها تجارب بأصوات فنانين رجال (ممثلين بالتحديد) مثل أحمد الفيشاوي وأحمد مكي، مشيرةً إلى أن أغاني هذه المرحلة لم تنجح في الوصول إلى الذائقة المصرية، بسبب تمسك صناعها بمحاكاة الغرب من ناحية ولغياب القضايا عنها من ناحية أخرى.

وتستطرد مي «ولكن بعد ثورة الـ25 من يناير، صعد الفن البديل أو ما يعرف باسم الفرق المستقلة مثل كايروكي ومسار إجباري، وزاد انتشار موسيقى وأغاني المهرجانات، وقد استطاعت هذه التيارات أن تحرر الأغنية من الموضوعات الرومانسية، وأن تطرح من خلالها قضايا ذاتية مثل: البطالة، والعلاقة بالثورة، ومحاولات السفر إلى الخارج ،وغيرها من مشكلات الشباب على وجه الخصوص.»

تناولت مي عامر هذه الأشكال الفنية ومساهمات النساء فيها بالبحث والدراسة، وقد تبين لها أن الغضب هو السمة المسيطرة على الأصوات النسائية في مجال الراب ومنها ميام محمود وبيري الحريري، ولكن هذه الأصوات، من وجهة نظرها، تحتاج إلى ترجمة هذا الغضب في شكل فني يتقبله ويقبل عليه الجمهور، وهو ما يتطلب من صاحباتها العمل على تطوير أفكارهن.

في المنحى ذاته، تشير مي عامر إلى إشكالية أخرى فيما يخص مشاركة النساء في صناعة وإنتاج الراب المصري والعربي عمومًا، وهي اللغة المستخدمة في معظم أغاني الراب، التي تعمد إلى استعراض القوة ومغالبة الخصوم، وهي اللغة التي يتقبل المجتمع استخدام الرجال لها في الحياة اليومية وفي الغناء كذلك، بينما لا يستسيغ استعمال النساء لها في شتى الأوقات.

من المبكر تقييم تجارب النساء في عالم الراب

يعتبر الناقد الفني محمد شميس أن تجارب النساء في عالم الراب لا تزال جديدة العهد وقيد التشكل، ولذا فإنه من المبكر الحكم عليها. ومع ذلك، يرى الناقد المصري أن اقتحام النساء لهذه الساحة حتى لو كان بعدد قليل يستحق الإشادة، خاصةً أن الراب معروف بأنه فن ذكوري سواء على صعيد طريقة الغناء، أو كلمات الأغاني، أو أسلوب الهجاء المعروف بالدس (Dis) الذي يعتمد عليه المغنيون.

وبشأن اختلاف الموضوعات التي تتناولها فنانات الراب عن تلك التي يركز عليها فنانو الراب الرجال، يقول شميس إن هذا النوع من الغناء ليس له كتالوج بل هو فن ذاتي، وتعكس من خلاله الفنانات البيئات الاجتماعية التي ينتمين إليها، تمامًا مثلما يفعل فنانو الراب الرجال.