على مدى 27 عامًا، برز العنف الجنسي ضد النساء في أوقات النزاعات والصراعات المسلحة كأحد مجالات الاهتمام الرئيسة في عمل هيئة الأمم المتحدة، الهادف إلى حماية وتعزيز حقوق الإنسان وضمان الأمن والسلم الدوليين، إذ تطرق إعلان ومنهاج عمل بيجين الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة (UNGA) في العام 1995 إلى هذه القضية، عن طريق التأكيد على أن النساء يتعرضنّ خلال النزاعات المسلحة إلى انتهاكاتٍ خطيرة، يأتي من بينها الاغتصاب المنظم، والحمل القسري، والإجهاض القسري، ومن ثم فإنه يتعين على الحكومات والمجتمع الدولي والمجتمع المدني اعتماد إجراءات استراتيجية، لمعالجة آثار النزاعات المسلحة وغيرها من أنواع النزاعات على النساء.

وبعد خمس سنوات، اعتمد مجلس الأمن قراره رقم (1325) المعني بالمرأة والسلام والأمن، الذي طالب الدول الأطراف في الصراعات المسلحة، باتخاذ تدابير خاصة لحماية النساء والفتيات من العنف القائم على أساس النوع في هذه الأوقات، لا سيما الاغتصاب وأشكال الإيذاء الجنسي الأخرى. كما حمّل القرار جميع دول العالم مسؤولية إنهاء إفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب.

في المقابل، لم يخرج قرار أممي بشأن العنف الجنسي في أوقات السلم بشكل مستقل، ولم تعتمد الجمعية العامة للأمم المتحدة على مدار تاريخها الممتد لما يزيد عن 75 عامًا أي قرار في هذا الصدد، رغم أنه أحد أكثر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي تفشيًا، بحسب البيانات الصادرة عن المنظمات الدولية، ومن بينها بيانات منظمة الصحة العالمية (WHO) التي توضح أن 35 في المئة من النساء هن ناجيات من العنف الجنسي، بما يوازي 1.3 مليار امرأة.

لكن حالة الجمود والتعنت هذه انكسرت في شهر سبتمبر الماضي، حين اعتمدت الجمعية العامة وهي الهيئة الرئيسة بالأمم المتحدة، لأول مرة قرارًا يعترف بحقوق الناجيات والناجين من العنف الجنسي، حتى لو لم يقع العنف في ظروف نزاع أو حرب، وبالأخص حقهم في الوصول إلى العدالة.

ويأتي القرار تتويجًا للحراك الذي انطلق قبل ست سنوات على يد مجموعة من الناشطات النسويات والناجيات من العنف الجنسي في عدد من الدول، تتقدمهن الأمريكية أماندا نجوك نجوين الناجية من جريمة عنف جنسي، والتي دشنت حملة «Rise Champions» للدفاع عن حقوق الناجيات.

استطاعت أماندا وشريكاتها في الحملة أن يعقدن حوارات رفيعة المستوى مع قادة دول مثل رئيس دولة سيراليون جوليوس مادا بيو، وحاصلات وحاصلين على جائزة نوبل ومنهم الناشطة العراقية نادية مراد، والمحامية السويدية بياتريس فين، بالإضافة إلى مدافعات ومدافعين عن حقوق الإنسان مثل الكورية يونمي بارك، بهدف الحشد نحو انتزاع اعتراف أممي بحق الناجيات والناجين من العنف الجنسي في الحصول على الدعم، والمساندة، والوصول إلى العدالة من دون الاضطرار إلى تحمل مشاق معنوية أو مادية، وهي المحاور التي شملها قرار الجمعية العامة الذي يعد اعتماده انتصارًا كبيرًا للنساء، لا سيما الناجيات من العنف الجنسي.

كيف نجا القرار من محاولات إفراغه من مضمونه؟

عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم الثاني من سبتمبر الماضي، اجتماعًا لمناقشة واعتماد أربعة قرارات حول أمور مختلفة، أحدها يتعلق بالعنف الجنسي في أوقات السلم وتمكين الناجيات والناجين من اللجوء إلى القضاء، وهو القرار الذي حظي مشروعه برعاية مشتركة من 84 دولة، إلا أن اللافت هو أن هذا القرار كان الوحيد بين الأربعة المعتمدة في هذه الجلسة، الذي سعت بقوة بعض الدول الأعضاء إلى إزالة أربع فقرات جوهرية به، بزعم أنها تتناول أمورًا إشكالية أو تتعارض مع مبادئ المجتمعات في هذه الدول.

تؤكد أولى الفقرات التي حاول بعض الأعضاء حذفها، أن العنف الجنسي يقع في إطار العلاقات الحميمة، عبر استخدام وصف «عنف العشير». أما الفقرة الثانية فتنص على إيلاء مزيد من الدعم للنساء والفتيات اللاتي يواجهن أشكالًا متعددة ومتداخلة من التمييز الجندري، بينما توصي الفقرة الثالثة بتطوير وإنفاذ السياسات والأطر القانونية وتعزيز النظم الصحية التي تجعل خدمات الصحة الجنسية والإنجابية شاملة ومتاحة للجميع وذات جودة عالية، بما في ذلك توفير الوسائل الآمنة والفعالة لمنع الحمل، ووسائل منع الحمل في حالات الطوارئ، وخدمات الإجهاض الآمن.

بالإضافة إلى ما سبق، جاء بين الفقرات المراد حذفها فقرة تتضمن إشارة صريحة إلى أهمية الاعتراف بأن حقوق الإنسان تشمل الحق في السيطرة واتخاذ القرار فيما يخص الأمور المتعلقة بالحياة الجنسية، بما في ذلك الصحة الجنسية والإنجابية، من دون إكراه أو تمييز أو عنف.

انتهى التصويت الذي جرى خلال الجلسة لصالح القرار بصيغته الأصلية، التي تقدمت بها دولة سيراليون، حيث رفضت الأغلبية التعديلات الأربعة التي قدمتها نيجيريا ودعمتها مجموعة من الدول، على رأسها؛ مصر، وماليزيا، وإيران، وإندونيسيا، والسعودية، والعراق، والجزائر، وسوريا، والصين، وروسيا، والإمارات، والسودان.

قبل بدء عملية التصويت على القرار، أبدى ممثل دولة أرجواي لدى الأمم المتحدة اعتراضه الشديد على مساعي بعض الدول إلى حذف الإشارة إلى أن العشير أو الشريك الحميم قد يكون أحد مرتكبي العنف الجنسي، مستشهدًا بالبيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية في العام 2021، التي تكشف أن عنف الشريك الحميم هو أكثر أشكال العنف ضد النساء شيوعًا، إذ يطال نحو 641 مليون امرأة حول العالم.

أما ممثل الاتحاد الأوروبي لدى الأمم المتحدة، فقد دعا الدول الأعضاء إلى التصويت ضد التعديلات التي تنال من النص، معربًا عن اندهاشه مما وصفه بالتعديلات العدائية التي تتجاهل أن جميع الفقرات والمصطلحات المراد إزالتها، سبق ذكرها بوضوح في إعلان ومنهاج عمل بيجين.

وأردف قائلًا إن الاتحاد الأوروبي قد وضع توصيات منتدى جيل المساواة العالمي، الذي انعقد في يونيو من العام 2021 بالعاصمة الفرنسية باريس، على مائدة النقاش حول القرار وبالأخص التوصيات التي تختص بالعقبات التي تواجه الناجيات والناجون من العنف الجنسي، خلال مساعيهم للوصول إلى المساعدة، أو الحصول على التعويضات المادية، أو اللجوء إلى القضاء، مؤكدًا أن النص المقترح يحدد سلسلةً من الإجراءات التي ينبغي على الدول اتخاذها لمعالجة هذه الإشكاليات.

في النهاية، مر القرار بنجاح من دون حذف أي فقرة منه، واعتمدته الجمعية العامة تحت عنوان «التعاون الدولي من أجل لجوء الناجيات والناجين من العنف الجنسي إلى القضاء، ووصولهم إلى سبل الانتصاف والمساعدة». وقد عبرت أماندا نجوك نجوين، مؤسسة حملة «Rise Champions» التي كان لها دور محوري في إعداد وصياغة القرار، عن سعادتها البالغة إزاء اعتماده رسميًا، وقالت في منشور لها عبر حسابها على انستغرام «على مدى السنوات الست الماضية، قيل لنا مرارًا وتكرارًا أن الناجيات من الاغتصاب في أوقات السلم، ليس لهن مكان في الحكومة العالمية (الكيان الذي يطبق القانون الدولي)، وأن قرار الأمم المتحدة ليس ممكنًا، وأن حقوقنا وجرائم الاغتصاب التي تعرضنا لها وقصصنا يجب أن تُطمس.»

وتابعت قائلة «بالصمت هكذا تموت الحقوق. كان الغرض من هذا القرار جعل كل دولة تنهض وتنتبه إلى القضية، ومطالبة الأقوياء في العالم بالحديث عن جرائم الاغتصاب بدلًا من إخفائها تحت البساط، ومطالبة الحكومات بإتاحة الوصول إلى العدالة للناجيات والناجين.»

ما الذي يحمله القرار بين طياته؟

في ديباجة القرار، عبّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن قلقها من قلة الإقرار بوجود العنف القائم على النوع الاجتماعي، والعنف الجنسي بالتحديد بمختلف مظاهره وأشكاله، خاصةً على مستوى المجتمعات المحلية، بسبب الوصم الاجتماعي وعدم توافر خدمات الإبلاغ والاستجابة الكافية. كما شددت على قلقها إزاء تفشي العنف العائلي، وعنف العشير أو الشريك الحميم في القلب منه، بين مختلف الطبقات الاجتماعية وفي شتى أنحاء العالم.

عطفًا على ذلك، حثت الجمعية العامة في قرارها الأول من نوعه، جميع الدول الأعضاء على اتخاذ تدابير تمكنّ الناجيات والناجين من العنف الجنسي من الإبلاغ الآمن، وتخفف الأعباء عنهم أثناء سعيهم إلى اللجوء إلى القضاء وسبل الانتصاف والمساعدة.

خص القرار مسألة الحماية القانونية بالتركيز، إذ طالبت الجمعية العامة الأعضاء بتوفير الحماية للناجيات والناجين والشهود من الأعمال الانتقامية بعد تقديم الشكاوى والأدلة، مع توجيه اهتمام خاص للنساء والفتيات اللاتي يواجهن أشكالًا متعددة ومتداخلة من التمييز.

وبشأن البنية التحتية القانونية، أوصى القرار بتحسينها وإدراج التدريب المراعي للعمر والنوع، والشامل لمسألة القدرات الجسدية (الإعاقة)، في صلب نظم العدالة لضمان المساواة أمام القانون والحماية المتساوية لجميع الناجيات والناجين.

كما أشار القرار إلى أهمية العمل من أجل ضمان مشاركة الناجيات والناجين، مع مراعاة اختلاف أوضاعهم وظروفهم، مشاركةً كاملة ومتساوية وجادة في وضع وتنفيذ ورصد وتقييم السياسات والبرامج وغيرها من المبادرات التي يتبناها قطاع العدالة بما فيها عمليات اتخاذ القرار، لمنع العنف الجنسي ومواجهته.

ناشدت كذلك الجمعية العامة في متن قرارها الدول الأعضاء أن تتصدى إلى خطابات الكراهية ضد النساء وإلقام اللوم على الناجيات والناجين من العنف الجنسي، سواء عبر الفضاء الإلكتروني أو خارجه، من خلال التثقيف وبناء برامج وقائية داخل المدارس وخارجها.

وماذا بعد اعتماد القرار؟

في واقع الأمر، لن يكون القرار ملزمًا للدول، كما هو حال القرارات التي تصدر عن الجمعية العامة، إلا أنه يظل ذا أهمية كبرى، فقرارات الأمم المتحدة تعد بمثابة اعتراف دولي بأن القضية التي يختص بها القرار صارت أولوية على أجندة العمل الدولي. ووفقًا للخبرات السابقة مع قرارات أجهزة الأمم المتحدة، فإن ما توصي به هذه القرارات يصبح معيارًا للمجتمع الدولي في تقييمه لجهود الحكومات وخططها ونشاطها في مجال بعينه.

علاوة على ذلك، فإن القرار الخاص بتمكين الناجيات والناجين من العنف الجنسي، من اللجوء إلى القضاء والوصول إلى سبل الانتصاف والمساعدة، يقدم خارطة طريق للدول حتى تطور استراتيجياتها التي تتعاطى مع قضية العنف الجنسي في أوقات السلم، ويضع لها إطارًا لتعديل واستحداث تشريعات وطنية تعالج هذه المسألة وكل ما يتصل بها.