طالما استمد النظام الأبوي قوته من إحكام السيطرة الذكورية على أجساد النساء؛ وقد أفرزت هذه السيطرة انشغالًا مفرطًا بالنشاطين الجنسي والإنجابي للمرأة، وهاجسًا لا ينقضي إزاء المظهر الخارجي لها من أعلى رأس إلى أخمص القدمين.

الهيمنة الذكورية على أجساد النساء قيدتها بقياسات محددة للطول والوزن ولون البشرة، ومن ثم صار كل جسد غير نحيل مصدر تهكم وإساءة لصاحبته، ولون البشرة الداكن عبئًا، والشعر المموج نقيصةً، والشعيرات البيضاء مخزية، واستطاع المجتمع على مدار عقود طويلة أن يكرس هذه التصورات ويرسخها في أذهان النساء، فأصبحن يمارسن بأنفسهن القمع بحق رغباتهن وتفضيلاتهن، ليحققن توقعات المجتمع ويأمن ضغوطه، وفي سبيل ذلك تحملنّ أعباءً مادية ومتاعب صحية جسدية ونفسية.

السيطرة على جسد المرأة مشروطة بترويض شعرها

شعر المرأة لا سيما ذلك الذي ينمو في الرأس، كان ولا يزال أحد المنافذ الرئيسة لفرض السيطرة على جسدها، نظرًا للربط طويل الأمد بين شعر النساء وجنسانيتهن، وقد برز هذا الوصل في الثقافات الغربية والشرقية على حد سواء، وفي العقائد السماوية كاليهودية والمسيحية والإسلام، وغير السماوية كالهندوسية والبوذية، مما جعل كبح جماح الشعر النسائي أولوية هدفها تسكين الخوف الذكوري من جنسانية المرأة.

قبل زمن ليس ببعيد، بالتحديد خلال العصر الفيكتوري الذي امتد بين العامين 1820 و1914، رزحت أجساد النساء تحت رقابة محكمة وكان المظهر الخارجي للمرأة معيارًا لمدى التزامها في ظل منظومة اجتماعية تعتبر تقييد الجسد الأنثوي أحد الضمانات الأساسية لمنع تفشي الفساد الأخلاقي، وقد انعكس ذلك في المظهر المفروض عليهنّ وقتها، الذي طوّق أجسادهن بالمشدات الضيقة، ووشحها بفساتين طويلة وثقيلة الوزن، وقيد شعرهنّ بالأربطة والزينة أو بالجدائل.

في تلك الفترة الزمنية، كانت فتيات الطبقات العليا والمتوسطة مرغمات على تصفيف شعرهن في الاتجاه السفلي ويفضل لهن تضفيره، وكان ينبغي عليهن الالتزام بهذا المظهر إلى أن يبلغن 16 عامًا، وهي السن التي يعني الوصول إليها أن الفتاة قد صارت مبتغاةً من الرجال وحان موعد زواجها، ومن ثم يجب عليها أن ترفع شعرها إلى أعلى، على الأرجح في شكل كعكة لاعتبار شدّ الشعر ورفعه إلى أعلى دليلًا على تأدب المرأة وحيائها، على عكس انسدال الشعر على المنكبين الذي كان يعد انحرافًا، وفقًا للزعم الرائج وقتها بوجود علاقة مباشرة بين تحرير المرأة لشعرها من الرابطات والإكسسوارات من ناحية وتحررها جنسيًا من ناحية أخرى.

الطبقة والعرق والعمر .. مؤثرات قد تعضد الاضطهاد أو تخفف وطأته

لم يكن الشعر الطويل اختيارًا أو تفضيلًا لنساء وفتيات الطبقات العليا بل شكلًا مفروضًا عليهن، على عكس نساء الطبقات العاملة اللاتي امتلكن قدرًا من حرية التصرف بشعرهن، وإن كان قد شاع بينهن قص الشعر تماشيًا مع طبيعة حياتهنّ اليومية المفعمة بالحركة والنشاط.

أما الشعر الطويل الذي اعتادت نساء طبقة النبلاء والأثرياء التفاخر به لم يكن في كل الأحيان شعرهن الطبيعي، إذ أنه في أوقات كثيرة كان مصدر هذه المباهاة هو حاجة نساء وفتيات الطبقة العاملة، اللاتي اضطرتهن ظروفهن المعيشية إلى قص شعرهن وبيعه، ليُستخدَم في صناعة الشعر المستعار الذي تضعه نساء الطبقات العليا على رأسهنّ ليبدو شعرهن أطول مما هو عليه.

وعن طبيعة الشعر، فقد كانت ولا تزال حتى يومنا هذا إحدى صور السيطرة الأبوية الاستعمارية على أجساد النساء، لا سيما النساء في القارة الأفريقية التي عصف بها الاستعمار الأوروبي، وكذلك النساء ذوات الأصول الأفريقية اللاتي انتقلن إلى أوروبا وأمريكا عن طريق تجارة الرقيق. هؤلاء كن أشد من عانى من الاضطهاد بسبب طبيعة شعرهن المجعد، وقد اتخذ القمع في هذا الصدد شكلًا قانونيًا في بعض الأوقات، مثلما حدث في مستعمرة لويزيانا بأمريكا الشمالية إبان فترة الاستعمار الإسباني لها، إذ أصدر حاكم المقاطعة في العام 1786 ما عرف باسم «قوانين تيجنون» التي حظرت تجول النساء الملونات بشعرهن في الشوارع، وفرضت عليهن تغطية رؤوسهن بقطعة قماش أشبه بالعمامة اسمها «تيجنون»، وقد جاءت هذه القرارات التعسفية بعد أن تزايدت أعداد النساء السوداوات اللاتي صرن يزينّ شعرهن بالإكسسوارات والورود، وهو ما اعتبرته الطبقة الحاكمة تهديدًا للتراتبية الاجتماعية والثقافية، يجب القضاء عليه للحيلولة دون تحول هذه الظاهرة إلى موضة موازية للموضة التي تتبعها النساء ذوات الأصول الأوروبية.

وحتى بعد أن ألغت بريطانيا ثم فرنسا ومن بعدهما الولايات المتحدة العبودية في القرن التاسع عشر، لم تتوقف ممارسات المجتمع الأبوي الرامية إلى ضبط أجساد النساء الملوّنات اللائي وُضِعنّ في ذيل نظامه الهرمي، وكان أبرزها دفعهن نحو كراهية شعرهن المموج، وحضهن على تغيير طبيعته وتقييد انطلاقه.

في البدء، لجأت بعض النساء ذوات الأصول الأفريقية إلى إخفاء شعرهنّ المجعد تحت شعر مستعار منسدل، وأخريات بذلن كل ما بوسعهن لفرده حتى يناظر شعر النساء ذوات الأصول الأوروبية، قبل أن يشيع في القرن العشرين الاعتماد على المستحضرات المنزلية المعدة لفرد الشعر والأمشاط المعدنية الساخنة التي تخمد تموجه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن رائدة الأعمال سارة بريدلووف المعروفة باسم مدام سي جي ووكر، كانت من أوائل الذين قدموا هذه الخدمات وروجوا لها بين النساء الملونات في الولايات المتحدة وخارجها، بوصفها حلولًا سترتقي بمظهرهن وتضعهن على قدم المساواة مع ذوات الأصول الأوروبية، وكان لهذا النشاط اليد الطولى في جعل مدام سي جي ووكر أول أمريكية من أصل أفريقي تتجاوز ثروتها حاجز المليون دولار.

من ناحية أخرى، عكف النظام الأبوي الاستعماري على تعميم فكرة أن اللون المثالي لشعر المرأة هو الذهبي، وعمد إلى ترسيخ هذا الاعتقاد بطرق عديدة، على رأسها تصوير الآلِهة الإناث المرتبطة بالجمال والحب والجنس والزواج كنساء ذوات شعر ذهبي، مثل الإلهة أفروديت إلهة الحب والجمال والنشوة.

تمخض ذلك عن تحول الشعر الذهبي، تبعًا للنظرة التشييئية التسليعية لجسد للمرأة، إلى علامة تميّز لها، مما أدى إلى تنصل كثير من النساء على مدار عقود طويلة من شعرهن الأسود أو البني واتجاههن إلى صبغه باللون الذهبي، وكثيرات أُخر عشن وقد استقر لديهن شعور بالافتقار إلى الجمال أو بأن ثمة شيء ينقصهن عن هؤلاء اللائي ولدن بشعر أشقر.

وبالحديث عن لون الشعر، فالعنف النفسي يستهدف المرأة ما أن يبدأ الشعر الأبيض بالظهور في رأسها سواء مع التقدم في العمر أو لعوامل وراثية، نتيجة إلصاق الثقافة الذكورية مجموعة من الصور النمطية الكاذبة بالمرأة التي تترك الشعر الأبيض ينمو في رأسها، من دون أن تخفيه بالصبغات والمركبات الكيميائية، كالادعاء بأنها تتعمد الإهمال في مظهرها، أو أن صحتها تتدهور ولم يعد بوسعها الاعتماد على نفسها، بالإضافة إلى نزع سمتي الجمال والجاذبية الجنسية عنها، والتشكيك في قدرتها على التفاعل مع الحياة العامة بالنشاط ذاته الذي تتمتع به الشابة اللاتي يخلو رأسها من الشعيرات البيضاء، وبالتالي يصبح تحمل الكلفة المادية لعمليات الصبغ المتكررة، والوقت المهدر في كل مرة، والمضار المحتملة للاستعمال المتتابع للصبغات الكيميائية، شروطًا لتحافظ المرأة على وجودها الاجتماعي، وحتى تدرأ عن نفسها مثل هذه المزاعم، التي تؤكد على ما هو مؤكد عن أن المجتمع ينظر إلى النساء عبر عدسة ذكورية تشييئية وتسليعية.

في المقابل، لا يشكّل الشعر الأبيض عبئًا على الرجال بل عطية، إذ ينظر المجتمع إلى الرجل ذي الشعر المخضب بالشيب باعتباره نموذجًا للشخص الناضج، والواثق في نفسه، والمتزن، والقادر على اتخاذ القرارات الصحيحة. وعلى عكس المرأة، كلما ازدادت رمادية الشعر لدى الرجل زاد وسمه بالجاذبية الجنسية.

وقد تعرض الباحث والأكاديمي المتخصص في علم الاجتماع أنتوني سينوت لهذه الإشكالية في مقال نشرته المجلة البريطانية لعلم الاجتماع في العام 1987، تحت عنوان «العار والمجد: سيسيولوجيا الشعر»، حيث أشار فيه إلى ما يحظى به الرجل من إشادة إذا كان شعره رماديًا فضلًا عن الفوائد التي تعود عليه مهنيًا لهذا السبب، وذلك نتيجة النظر إلى الرجال الأكبر سنًا ذوي الشعر الرمادي بوصفهم أكثر نجاحًا أو خبرة في مجالات عملهم، بينما قد يكون الموت أفضل من الشعر الرمادي بالنسبة لبعض النساء.

مع كل ذلك، لا يسري هذا الواقع المختل من دون مقاومة، لأن نساءً وفتياتٍ في كل أنحاء العالم ضقن ذرعًا بهذا التسلط الأبوي، وقررن استعادة ملكيتهن لأجسامهن رغم أنف المجتمع، وقد نجح كثير منهن في أن ينتزعن استقلاليتهن الجسدية، وتجاوزن بشعرهن أسوار القمع فصار يعبر حقًا عن هويتهن الذاتية، ولنا عن ذلك حديث آخر…