«ثمة تقاطع بين التمييز والعنف الذي تواجهه النساء والتدمير الذي تكابده الطبيعة.»

قد تبدو هذه الجملة غير واقعية بالنسبة لبعض قراءها، ولكن باستكشاف أصل الأزمتين والسبب الرئيس في ديمومتهما ستتضح منطقية العلاقة وبديهية الأمر، فمعاناة النساء والطبيعة يقف وراءهما النظام الأبوي الرأسمالي الذي بني على الاستغلال والتشييء والقهر، ومثلما شيئت الأنظمة الأبوية الرأسمالية النساء ومأسسة استغلالهنّ، لتلبية احتياجات أصحاب السلطة وتحقيق مآرب ذوي القوة القابعين على رأس التسلسل الهرمي المنظم للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، اعتمدت على النسق ذاته في تعاملها مع الموارد الطبيعية سواء كانت النباتات أو الحيوانات أو المياه أو مصادر الطاقة، وذلك انطلاقًا من نزعة أبوية ذكورية تسوّغ وتشرعن إخضاع الرجل الذي يعتلي قمة الهرم لكل ما يأتي أسفله من بشر أو كائنات غير بشرية. وقد استقطبت هذه الحقيقة اهتمام الحركة النسوية في سبعينيات القرن الماضي، بعد سنوات قليلة من إطلاق العلماء تحذيراتهم المبكرة بشأن أزمة المناخ والاحترار العالمي، وفي مقدمتهم الأمريكي روجر ريفال.

حين دخلت البيئة إلى أجندة النضال النسوي

اتخذ الإدراك النسوي للتقاطع بين اللا مساواة الجندرية والانتهاكات التي تطال البيئة، عنوانًا واضحًا عندما قدمت الناشطة النسوية الفرنسية فرنسواز ديوبون في العام 1974، كتابها الأشهر «النسوية أو الموت- Le Féminisme ou Le Mort» الذي حللت من خلاله جذور الأزمة البيئية العالمية، مرجعةً التدهور والإهمال والاستغلال المفرط للبيئة إلى الهيكل الاجتماعي الأبوي القائم منذ زمن بعيد، وقد استخدمت في هذا الكتاب لأول مرة مصطلح «النسوية البيئية» أو «النسوية الإيكولوجية»، لتصف الاتجاه الفكري النسوي الذي يعي التأثير المزدوج للنظام الأبوي على النساء والطبيعة، ويسعى بناءً على ذلك إلى تفكيك الهيمنات المتداخلة والمتشابكة على كليهما.

أشارت فرنسواز ديوبون إلى أن الرجل قد صار متحكمًا في خصوبة الطبيعة والمرأة، بعد أن نصب نفسه سيدًا ومالكًا لهما في أعقاب الثورة الزراعية قبل آلاف السنين، وحين جاءت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر تعززت هيمنته عليهما وازداد تطاوله على كل منهما.

ومع أن فرنسواز ديوبون هي من صاغ مصطلح النسوية البيئية أو الإيكولوجية، لا يمكن الجزم بأنها أول من أقر وحلل العلاقة بين الأبوية والنساء والطبيعة، خاصةً أن العام الذي شهد صدور كتاب فرنسواز ديوبون، العام 1974، هو ذاته الذي عقدت خلاله الأكاديميتان الأمريكيتان ساندرا ماربورغ وليزا واتسون أول مؤتمر يتناول العلاقة بين البيئة والنساء، واستضافته وقتها جامعة كاليفورنيا ببيركلي.

كما أصدرت الأكاديمية والناشطة النسوية الأمريكية روزماري رادفورد رويثر في العام 1975، ورقة بحثية بعنوان «امرأة جديدة، أرض جديدة.. الأيديولوجيات المتحيزة جنسيًا وتحرير الإنسان»، استندت فيها إلى مادة علمية كانت قد عرضتها خلال سلسلة من المحاضرات الجامعية ألقتها فيما بين العامين 1973 و1975، وتناول بعضها استغلال النظام الأبوي للكوارث والأزمات البيئية لممارسة مزيد من القمع والاضطهاد بحق النساء.

نظريــة جديدة تضـاف إلى النظريات النسوية

قبل شهور من انتهاء حقبة السبعينيات، انصهر جزئيًا مفاعل نووي في محطة جزيرة الثلاثة أميال للطاقة النووية بولاية بنسلفانيا الأمريكية، من جراء أخطاء ارتكبها بعض العاملين بالمحطة، مما أدى إلى واحدة من أخطر الحوادث النووية في التاريخ، وقد لاحظت حينها بعض الناشطات المناهضات لاستخدام الطاقة النووية أن النساء في النطاق الجغرافي المتضرر من الحادثة، تعرضن للأذى على نحو أكبر من الرجال.

التأثير المضاعف للأزمة على النساء الذي رصدته عدد من الأكاديميات والناشطات كان المحفز الأساسي لتنظيم مؤتمر «النساء والحياة على الأرض» في العام 1980 ‏بولاية ماساتشوستس الأميركية، الذي يعتبر أول تجمع نسوي يتبنى النظرية النسوية الإيكولوجية ويروج لها كأحد أساسات النضال النسوي.

في العام نفسه، أصدرت المؤرخة كارولين ميرشانت كتاب «وفاة الطبيعة: النساء، الإيكولوجيا، الثورة العلمية» الذي عمدت من خلاله إلى استكشاف الأطر الرمزية واللغوية التي طالما شبهت الطبيعة بالمرأة والعكس، عن طريق الصور والضمائر والاستعارات التي تشيئهما (عند الوصف بالجمال أو الوسم بالتقلب)، لتستخلص العلاقة بين هذه الأطر والهيمنة الذكورية على البيئة والنساء.

تطرقت كارولين ميرشانت كذلك إلى نظرة العلم الحديث للطبيعة بوصفها آلة وليس ككائنات حية، مما أسهم بقوة – من وجهة نظرها – في تبرير الإنسان الذكر لتوغله على الطبيعة صناعيًا وتجاريًا أو باستخدام التكنولوجيا.

الأطر اللغوية والمفاهيمية تناولتها أيضًا الأكاديمية والفيلسوفة النسوية كارين وارين في ورقتها البحثية «وعد وقوة النسوية البيئية» الصادرة في العام 1990، التي اعتبرت فيها أن أي نظرية نسوية وأي قيم بيئية لا تأخذ على محمل الجد الهيمنات المترابطة على النساء والطبيعة هي منقوصة، وتشير القيم البيئية في هذا السياق إلى السلوكيات والمواقف والإجراءات والسياسات التي تضبط علاقة البشر بالبيئة الطبيعية، بما يحقق الحماية والعدالة والاستدامة.

ووفقًا لكارين وارين، يمكن تعريف النسوية البيئية بأنها فلسفة تقاوم الاستبداد الأبوي وتهدف إلى تحقيق العدالة، من خلال استبدال القيم الأبوية بأخرى نسوية، ترتكز على الرعاية والثقة والتنوع والتعددية والتضامن والاستدامة، ويغيب عنها تمامًا التحيزات العنصرية والجنسية والطبقية.

من نسوية بيئية «بيضاء» إلى نسوية بيئية تقاطعية

صاغت الأكاديمية النسوية الأمريكية من أصل أفريقي كيمبرلي كرينشو نظرية التقاطعية في العام 1989، بهدف وضع إطار نظري لتفكيك وتحليل التمييز المركب الذي تتعرض له النساء الملونات في الولايات المتحدة، والناتج عن التقاطع بين العرق والنوع كمصدري اضطهاد متشابكين ضدهن، إلا أن النظرية التقاطعية اتسع تطبيقها في التسعينيات بعد أن استندت إليها العديد من الأكاديميات النسويات في تحليلاتهن للتمييز متعدد الجوانب الذي يستهدف النساء، نتيجة تقاطع النوع مع هويات أخرى كالعرق، والطبقة، والدين، والعمر، والبلد، والحالة الاجتماعية، والميول الجنسية، والقدرة الجسدية.

أثرت المقاربة التقاطعية على النسوية البيئية فظهرت كتابات تفحص قضايا البيئة عبر منظور تقاطعي، وتراجعت المركزية الغربية في الخطاب النسوي البيئي شيئًا فشيئًا، في مقابل تزايد الانتباه إلى تجارب النساء خارج الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة أولئك المتواجدات في الجنوب العالمي.

وتبعًا للتفسير التقاطعي، فإن الأبوية تعد سببًا من أسباب العنف المزدوج ضد النساء والطبيعة وليست السبب الوحيد، إذا يصاحبها أنظمة قمع أخرى كالعنصرية، والطبقية، ورهاب الأجانب أو معاداة المهاجرين، ويؤثر هذا التشابك بالتبعية على حدة تأثر النساء بالأزمات البيئية بناءً على العرق الذي ينتمين إليه أو الطبقة أو البلد وما إلى ذلك، وقد تناولت الأكاديمية والناشطة الأمريكية ليا توماس هذا التعقيد بشكل مفصل في كتابها «البيئية التقاطعية: كيفية تفكيك أنظمة الاضطهاد لحماية الناس + الكوكب».

أما الاسم الأبرز والأكثر تأثيرًا في تاريخ الحراك البيئي التقاطعي، فهو فاندانا شيفا العالمة والكاتبة الهندية الحاصلة على جائزة رايت ليفيلهوود ‏الدولية (المعروفة باسم: نوبل البديلة)، التي ناضلت طويلًا ضد العولمة بوصفها نتاجًا لتوسع النظام الرأسمالي الليبرالي الغربي، وشبهتها مرارًا بالحرب ضد النساء والأطفال والطبيعة والمجموعات الأكثر فقرًا.

انشغلت فاندانا منذ السبعينيات بالدفاع عن النساء الريفيات والمزارعات في الجنوب العالمي، لا سيما في بلدها الهند، معتبرةً أن استغلال الموارد الطبيعية لا يشكل عنفًا ضد البيئة فقط بل عنفًا ضد هؤلاء النساء، وفي كتابها «البقاء على قيد الحياة: المرأة والبيئة والنجاة» الصادر في العام 1988، قدمت فاندانا تحليلًا نسويًا لأزمة استغلال الطبيعة تحت مسمى العلم والتنمية، ولكن من منظور نساء الجنوب وبالتحديد النساء الهنديات، فأدخلت الاستعمار إلى قائمة مصادر القمع ضد النساء والطبيعة، حيث ربطت بين التطور الصناعي المبكر في أوروبا الغربية واستعمار القوى العظمى فيها لما يعرف بـ «بلدان العالم الثالث»، وجادلت بأن النمو الاقتصادي الغربي اعتمد على تدمير الاقتصادات المحلية لهذه البلدان، واستنزاف مواردها الطبيعية، وخصخصة أراضيها الزراعية، بما حرم النساء الأصليات من حقهن في استخدامها وأدى إلى زيادة الفقر بينهن.