بادئ ذي بدء، يدفعنا محتوى هذا المنشور دفعًا إلى مشاركتكن/م بهذا الخاطر:

يومًا بعد الآخر، نزداد يقينًا بأننا نعايش واحدًا من أكثر الأعوام المتخمةِ بالأحداث والحوادث المنهكة والمثبطة والمخيفة للنساء في كل مكان على هذه الأرض، ولكن مهما تزاحمت الانتكاسات والإحباطات، سيظل بالنسبة لنا أحد أتعس حوادث هذا العام على الإطلاق، هو إعلان المحكمة الدستورية الأمريكية إلغاء قرارها الصادر في العام 1973 باعتبار الإجهاض الطوعي حقًا دستوريًا.

قبل شهور قليلة من انطلاق المرافعات الشفوية في قضية رو ضد ويد (Roe v. Wade) التاريخية، التي قادت إلى إنهاء تجريم الإجهاض في الولايات المتحدة الأمريكية وأسست لإباحته دستوريًا وتشريعيًا لخمسين عامًا من بعدها، كانت حرب النساء الفرنسيات ضد حرمانهن من الحق في الإجهاض الآمن والطوعي، قد بلغت أوجها بتصعيد غير مسبوق أقدمت عليه العشرات منهن، ليصبح ما فعلنه في إبريل من العام 1971، أحد أقوى المسامير المسنونة التي دُقّت في نعش تجريم الإجهاض والسيطرة المجتمعية على أجسادهنّ.

تعود القصة إلى الخامس من إبريل في العام 1971، عندما فُوجِئ قراء المجلات والصحف الفرنسية، بعنوان عريض نصه «لقد قمت بالإجهاض»، يتصدر غلاف آخر أعداد مجلة المراقب الجديد الأسبوعية (Le Nouvel Observateur). وفي غضون ساعات، كانت المفاجأة قد تحولت إلى صدمة مجتمعية، بعد أن علم عموم الناس أن هذه الجملة مُقتطفَة من بيان مطول يفترش صفحات المجلة، تقر فيه 343 امرأة بالإجهاض سريًا خلال مرحلة ما في حياتهنّ، في تحدٍ لقانون العقوبات الفرنسي الذي كان يجرم الإجهاض آنذاك.

«أصرح أنني واحدة منهن. أقر بأنني أجريت عملية إجهاض. مثلما نطالب بحرية الوصول إلى وسائل منع الحمل، فإننا نطالب بحرية إجراء الإجهاض.»

بيان 343

شملت قائمة الموقعات على البيان نساءً من مختلف الأطياف والأعمار والخلفيات، فكان بينهنّ أكاديميات، وصحافيات، وكاتبات، ومحاميات، وعاملات بصناعة السينما، وطالبات جامعيات، ولعل أبرز الأسماء الموقعة هي: سيمون دي بوفوار الكاتبة والمنظرة النسوية التي صاغت البيان، وفرانسواز ديوبون الناشطة النسوية التي صكت مصطلح النسوية الإيكولوجية (النسوية البيئية)، والمخرجة السينمائية آغنيس فاردا، والأديبة فرانسواز ساغان، والممثلة المخضرمة كاثرين دينوف، والمحامية جيزيل حليمي.

وقد وقعت الـ343 امرأة بأسمائهن الثنائية أو الثلاثية، في خطوة كادت أن تزج بهن إلى السجن، نظرًا لما كان يفرضه القانون الفرنسي من عقوبة، تتراوح مدتها بين ستة أشهر إلى عشر سنوات، ضد أي امرأة يتبين قيامها بالإجهاض، إلا أن التضامن النسوي الذي تجسد في هذا التحرك التشاركي ساهم بقوةٍ في حمايتهن من القبوع خلف القضبان.

مع ذلك، واجهت الـ343 امرأة عقوبات من نوع آخر، لا سيما أن الأصوات الكاثوليكية كانت ذات صدىٍ واسع داخل المجتمع الفرنسي حتى ذلك الحين، وهو ما تسبب في إقصاء كثير من هؤلاء النساء من أعمالهنّ، وانقطاع الصلات بين بعض من وقعنّ على البيان وعائلاتهن، بل إن بعض الأسر أوقفت الدعم المالي الذي كانت تقدمه لبناتها كي يستكملن دراستهن الجامعية.

بالإضافة إلى ذلك، تعرض كثير من هؤلاء النساء لإساءات لفظية من الجيران وزملاء العمل أو الدراسة، كان من بينها اتهامهن ّبالعهر، واتخذت أيضًا معظم وسائل الإعلام موقفًا معادٍ لهنّ، بلغ في بعضه حد التجاوز اللفظي.

«إنها لحاجة مهمة للغاية أن تستعيد النساء السيطرة على أجسادهنّ وأن يندمجن معها، فإنهن يتمتعنّ بمكانة فريدة في التاريخ: إنهم البشر الذين، في المجتمعات الحديثة، لا يملكون سيطرةً مطلقة على أجسادهم.»

بيان 343

تعددت دوافع السخط بين الغاضبين، فقد اعترض بعضهم على تصريح الموقعات بالقيام بأمرٍ يجرمه القانون منذ أكثر من 160 عامًا، وقطاع آخر منهم أثار حفظيته الدفاع عن ما يُعد «خطيئةً» بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية، بينما رفضت مجموعة أخرى القناعة التي ينطلق منها البيان والمتعلقة بحق النساء في التحكم بأجسادهنّ وحيواتهنّ الجنسية، والتي بدت واضحةً من المقدمة إلى الخاتمة، بالأخص عندما ربطت سيمون دي بوفوار في أحد المقاطع بين قدرة النساء على اتخاذ القرارات المرتبطة بأجسادهن وثقتهن بأنفسهنّ، وقالت فيه «الإجهاض المباح عند الطلب هو: أن تتوقفي فورًا عن الشعور بالخجل من جسدك، أن تكوني حرة وفخورة بجسدك تمامًا مثل كل شخص يملك حق التصرف في جسده؛ يعني ألا تخجلي من كونك امرأة.»

في ضوء ذلك، لم ينحصر النقاش المجتمعي الذي أعقب صدور بيان 343 وذيوع فحواه حول قضية الإجهاض فحسب، وإنما اتسعت مظلته ليتناول مسألة انفراد النساء بشتى القرارات التي تتعلق بأجسادهنّ وعلاقة الرأسمالية باستقلالهنّ الذاتي والجسدي، وقد ساهم كذلك الزخم الذي أحاط بالقضية عقب صدور البيان في تشجيع مزيد من النساء على الإفصاح عن تجاربهن مع الإجهاض السري، ووفقًا لتصريحات أدلت بها كلودين مونتيل إحدى الموقعات على البيان لوكالة الأنباء الإسبانية EFE، بالتزامن مع الذكرى الخمسين لصدوره، فقد تمثل النجاح الأكبر لهذه الخطوة في إرغام العائلات الفرنسية على التحدث عن الأمر، إذ بدأت نساء في الثمانينيات والسبعينيات من العمر يحكين لحفيداتهن عن خبراتهنّ مع الإجهاض.

«تُجهِض مليون امرأة سنويًا في فرنسا. هؤلاء النساء محكوم عليهن بالسرية، يفعلن ذلك في ظروف خطرة، بينما لو قمن بذلك تحت إشراف طبي سيكون من أبسط الإجراءات. نحن نُسكِت هؤلاء الملايين من النساء.»

بيان 343

أعطى الجدل الكبير دفعةً قوية للنضال النسوي الرامي إلى انتزاع اعتراف قانوني بالحق في الإجهاض الآمن، وحفز جماعات أخرى على إعلان دعمها لهذا الحق؛ كان من بينها شبكة أطباء تجري عمليات الإجهاض السري، حيث أصدر أعضاؤها البالغ عددهم 331 طبيبة وطبيبًا في بداية العام 1973 بيانًا مماثلًا لبيان 343، أقروا فيه بأنهم قد أجروا عمليات إجهاض طوعي، مشددين على أن الإجهاض قرار شخصي لا يخص أحدًا سوى المرأة، ولا يحق لأحد أن يدفعها إلى الشعور بالذنب حياله.

لعب البيانان دورًا محوريًا، جنبًا إلى جنب مع محاكمة المراهقة ماري كلير شوفالييه خلال العام 1972 على خلفية إجهاضها لحمل نتج عن جريمة اغتصاب، في تمهيد السبيل للوصول إلى الانتصار الكبير الذي لاحت بوادره مع تعيين سيمون فاي المحامية والناشطة الحقوقية وزيرةً للصحة في مايو من العام 1974، فما هي إلا شهور قليلة حتى وقفت سيمون أمام البرلمان الفرنسي، بالتحديد في الـ26 من نوفمبر، لتطرح أمام نوابه مشروع قانون يهدف إلى إرساء قاعدة تشريعية تُمكّن النساء من إجراء عمليات الإجهاض حتى الأسبوع الـ10 للحمل، من دون حاجة لإثبات وقوع ضرر صحي جسدي أو نفسي، وإنما بمجرد تقديم طلب مكتوب.

نجحت سيمون فاي في مسعاها لتمرير مشروع القانون، إذ اعتمده المجلس التشريعي بعد أيام من طرحه بتصويت 284 من الأعضاء لصالحه في مقابل 189 ضده، ليبدأ تنفيذه في يناير من العام 1975، وبعد أربع سنوات صار نظام الضمان الاجتماعي يغطي ما بين 70 إلى 80 في المئة من تكاليف عمليات الإجهاض.

خضع لاحقًا القانون الصادر برقم 75-17 بشأن إباحة الإجهاض الطوعي في فرنسا للتطوير، وكانت أول مرة في العام 2001 حيث أضحى الإجهاض متاحًا عند الطلب حتى الأسبوع الـ12 للحمل، ثم جاءت المرة الثانية في مارس الماضي حين رفع البرلمان المدة إلى 14 أسبوعًا.