«سبق أن تخليت عن وظيفة جيدة بسبب المسافة الطويلة التي كان يتعين علي أن أقطعها يوميًا من منزلي إلى مقر العمل، كنت استقل وسيلتي مواصلات بالإضافة إلى السير لما لا يقل عن 20 دقيقة في الذهاب والإياب، وما عهدناه كنساء مع المسافات الطويلة في هذه المدينة هو المواجهة اليومية مع المضايقات والتحرشات، والاضطرار إلى الدخول في مشاجرات كثيرًا ما تؤثر على سلامتنا النفسية.»

«لا يمكن لابنتي أن تلعب خارج المنزل، فالشارع الذي نسكن فيه ليس مراقبًا بالكاميرات، وأنا أخاف عليها من التحرش أو الخطف أو الاعتداء الجسدي، وللأسف نحن لسنا أعضاءً بأحد النوادي الرياضية ولسنا من قاطني المُجمّعات السكنية الفارهة التي تخصص أماكن للعب الأطفال في ظل تأمين متكامل.»

«بعد انتقالي إلى العاصمة، استأجرتُ شقةً في امتدادٍ لأحد أحياء المدينة لأقيم به، إلا أن الخوف لا يفارقني في كل مرة أخرج إلى الشارع ليلًا، بسبب قلة كشافات الإنارة وضعف الإضاءة عامةً، ولذلك أتجنب السير بعد مغيب الشمس في الشارع الذي يتواجد فيه منزلي أو الشوارع المجاورة له، واعتمد على خدمات النقل الذكي كأوبر (Uber) رغم أنها مكلفة، وإذا كنت في حاجة إلى شراء شيء أؤجله إلى الصباح أو ألجأ إلى خدمات التوصيل المنزلي.»

«ترغمني ظروف عملي على البقاء في الشارع لساعات طويلة خلال اليوم، وأحتاج عادةً للذهاب إلى الحمام لأقضي حاجتي، وإذا لم أجد بالقرب مني مقهى أو مطعمًا لاستخدم حمامه اضطر إلى حبس البول لساعات. أسأل نفسي أحيانًا لماذا لا توجد حمامات عامة نظيفة وآمنة في الشوارع كالتي رأيتها واستخدمتها في المدينة الأوروبية التي زرتها مؤخرًا؟، ثم أعود وأذكّر نفسي أن النساء في هذه المدينة يفتقدن الحماية عند السير في شوارعها، فكيف لهن أن يشعرن بالأمان في حمامات عامة؟»

«أظن أنني أعيش في مدينة لا ترى النساء؛ فمعظم الشوارع والميادين ومحطات المترو تحمل أسماء رجال، وكأن النساء وإسهاماتهنّ في الحياة العامة غير مرئية، ورغم أن المؤسسات الرسمية حاليًا تتبنى خطابًا في ظاهره شديد الدعم للمرأة، نجد أن الغالبية العظمى من الطرق والمشروعات التي تُنشِئها وتطوّرها تلحقها بأسماء رجال كما هو معتاد منذ عقود.»

نساء يتحدثنّ عن مدينةِ القاهرة..

تعيد المقتطفات السابقة إلى أذهاننا كنساء يعشن في القاهرة أو يأتين إليها في زيارات، مشاهد عديدة عايشناها أو شهدنا عليها، نستحضر معها كيف تعادي المدينة الصاخبة النساء، ولا تكترث إلى احتياجاتهن أو تعبأ لأمنهن حتى مع التطوير والتحسين.

في حقيقة الأمر، ليست القاهرة المدينة الوحيدة في مصر أو في المنطقة أو في العالم التي يمكنُ وصفها بغير الصديقة للنساء أو الأقليات الجندرية، فالمدن قبل الثورة الصناعية وبعدها، وضع تصميماتها الرجال معتمدين على خططٍ تلبي احتياجاتهم ومتطلباتهم، خاصةً في ظل السيطرة الذكورية الواسعة على المجال العام حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين في بعض الدول أو منتصف القرن ذاته في دول أخرى، ثم نفّذ الرجال وحدهم عمليات البناء ليكون المنتج النهائي «مدن تصلح للاستخدام الذكوري».

وتتجلى بوضوح مواطن غياب المساواة الجندرية في المدن على مستويات عديدة من بينها: القدرة على استخدام الخدمات المتاحة والطرقات والأماكن العامة المفتوحة من دون تقييد مادي أو مجازي، وإمكانية التحرك والتنقل بحرية وأمان وسهولة، والتمتع بالسلامة والحماية من المخاطر، والتمكن من العيش داخل المدينة وتأدية المهام اليومية باستقلالية تامة.

ومع أن هذه الإشكاليات لا تزال شائعةً بكل تأكيد إلا أن ثمة اختلاف بين اليوم والأمس، فصيغة التعامل مع هذا القصور باعتباره الطبيعي والمنطقي، بدأت خلخلتها بعد دخول منهج تعميم المنظور الجندري أو تعميم المنظور المراعي للنوع الاجتماعي (Gender Mainstreaming) إلى أدبيات التخطيط الحضري والتنمية العمرانية في تسعينيات القرن الماضي، وبالأخص عقب تجسد هذا المنهج عمليًا في عدد من المشروعات داخل العاصمة النمساوية فيينا التي أعلنت في العام 1997 اكتمال أول مشروع عمراني مراعي للنوع الاجتماعي، وقد حمل اسم «Frauen-Werk-Stadt» أو «مدينة عمل المرأة».

فيينا: كيف أعيدت هيكلة المدينة من منظور يراعي اعتبارات النوع الاجتماعي؟

نظمت إيفا كايل المخططة الحضرية المهتمة بدمج المنظور الجندري في تصميم المشروعات العمرانية، في سبتمبر من العام 1991، معرضًا فتوغرافيًا بعنوان «من يملك الأماكن العامة – الحياة اليومية للمرأة في المدينة». وقد أرادت منه أن توثق بصريًا يومًا في حياة ثماني فتيات ونساء يعشن في فيينا، لتبين من خلال الصور الاختلاف الكبير بين خبرات النساء والرجال إزاء العيش في هذه المدينة التي بدت في مجمل تفاصيلها متجاهلةً لاحتياجات المرأة  في كل مراحل حياتها.

أولت الحكومة النمساوية بقيادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي حينها، اهتمامًا ملحوظًا للزاوية التي رأت منها إيفا كايل العاصمة، وأجرت دراسة ميدانية للتأكد من صحة افتراضها بأن المدينة تضع على النساء أعباءً مادية ومعنوية وتقلل من انتفاعهن بالفضاء العام، وبعد أن ثبُتَ للحكومة واقعية ما طرحته إيفا أوكلت إليها رئاسة مكتب المرأة (Frauenburo) الذي تغير اسمه لاحقًا إلى مكتب تعميم المنظور الجندري، لتنفذ من خلاله عددًا من المشروعات العمرانية التي تراعي بُعد النوع الاجتماعي في تصميماتها، وكان أولها مشروع «مدينة عمل المرأة» النموذجي.

بدأ العمل على مشروع «مدينة عمل المرأة» في العام 1993 واستمر لأربع سنوات، وهو أول مشروع عمراني يضع تصميماته فريق من النساء وفقًا لمنظور يعي ويراعي احتياجاتهنّ، فحرصن على أن يكون التصميم الداخلي للمنازل مرنًا، وراعين أن تكون مسافات السير بين الوحدات السكنية وأماكن العمل أو المؤسسات الخدمية قصيرة، وتنبهن في تخطيطهن إلى تعزيز إضاءة الشوارع وتهيئة طوابق العقارات لتستوعب الدراجات الهوائية وعربات الأطفال.

من ناحية أخرى، أفادت إيفا كايل في تصريحات لصحيفة الجارديان (The Guardian)، بأن مشروع «مدينة عمل المرأة» واجه أثناء تنفيذه مقاومة داخل قطاع الخدمة العامة، وقوبل بالرفض من الرجال المعادين بشدة في ذلك الوقت لمنهج تعميم ودمج المنظور الجندري، إلا أن هذه المعارضة الذكورية لم تؤثر على مسار المشروع أو تجعله تجربةً غير قابلة للتكرار، فقد أضحى بعد انتهائه نموذجًا تستند إليه الحكومة النمساوية في خطوات لاحقة، تهدف إلى تحويل العاصمة بأكملها إلى مدينة مستجيبة ومراعية لاعتبارات النوع.

أعقب المشروع عملية تطوير شاملة لحي مارياهيلف المركزي وما يزيد عن عشرين منطقة أخرى في فيينا، بناءً على القواعد التي صُمِمَت على أساسها «مدينة عمل المرأة»، ثم استكملت إدارات التخطيط في العاصمة التطوير بين العامين 2005 و2010، بما يضمن دمج النوع الاجتماعي في جميع المراحل، بدءًا من التخطيط مرورًا بالتنفيذ وصولًا إلى التقييم.

وقد أنجز مكتب مدينة فيينا للتنسيق والتخطيط والبناء خلال تلك الفترة، عمليات توسعة لكثير من الأرصفة لضمان حيزٍ من الخصوصية للنساء ولحمايتهنّ من التحرش الجنسي، وعكف على تركيب مقاعد إضافية في الشوارع لتشجيع النساء، لا سيما المتقدمات في السن وذوات القدرات الخاصة، على الخروج إلى التنزه بدلًا من البقاء في المنزل.

إضافة إلى ذلك، عمدت المدينة إلى تطبيق مبدأ «مدينة ذات مسافات قصيرة» لتمكين النساء من التحرك والتنقل بحرية وارتياح ولتقليل الإهدار اليومي للطاقة والوقت، بعد أن بينت الاستطلاعات الميدانية أن النساء هن من يتحمل في أغلب الأحيان مهام شراء احتياجات المنزل، وتوصيل الأبناء إلى الحضانات أو المدارس، فضلًا عن التنقل اليومي من العمل وإليه إذا كن من العاملات بأجر، مما يجعلهن عرضةً لمشقة وعناء مضاعفين، خاصةً إذا كانت المسافات بين الأمكنة التي يعتدن على الذهاب إليها كبيرة. وقد ساهم المبدأ نفسه في معالجة مشكلة أخرى أبرزتها الاستطلاعات وهي تقييد الأسر لحركة الفتيات وتقليل تنقلاتهن خشية استهدافهن بالتحرش أو الاعتداء الجنسيين.

عملت أيضًا إدارات التخطيط بالمدينة على إعادة النظر في تصميم الحدائق تداركًا لإشكالية أخرى بينتها الاستطلاعات، وهي تركز الإقبال عليها والنشاط داخلها بين الأطفال والمراهقين الذكور، فدأبت على إعادة توزيع المساحات الداخلية، وإحلال وتجديد الحمامات العامة استنادًا لتصميمات تأخذ في الاعتبار ما أدلت به النساء والفتيات في الاستطلاعات الميدانية بشأن ما يضمن أمنهن ويجنبهن المضار الصحية، وحسّنت كذلك أنظمة الإضاءة في شتى أركانها.

لم تغفل كذلك الإدارة المسؤولة عن تعميم المنظور الجندري بمدينة فيينا دلالات إطلاق أسماء الأشخاص على الطرق والميادين باعتبارها شكلًا من أشكال التكريم والاحتفاء، الذين جرت العادة على أن يحظى بهما الرجال بشكل غير متناسب في ظل تعامٍ غير مبرر لتاريخ النساء، وقد أسفر الوعي بهذا الأمر عن ارتقاء العاصمة النمساوية إلى المرتبة الأولى بين المدن الأكثر احتضانًا لشوارع تحمل أسماء نساء اعترافًا بإنجازاتهن ودورهن المؤثر في التاريخ الإنساني.

فضلًا عن ما سبق، كانت واحدة من أهم الإجراءات التي طبقتها المدينة في إطار تعميم المنظور الجندري على مستوى التخطيط، هي استخدام لغة حساسة وشاملة جندريًا في كتابة لوحات الطرق واللوحات الإرشادية داخل محطات القطارات والسكك الحديدية، والكف عن الركون إلى لغة تتوجه إلى الرجل فقط، إلى جانب استبدال الرسوم المستعملة في اللافتات التحذيرية وإشارات المرور التي تصوّر مستخدمي الطرق كرجال، برسوم أخرى تصورهم رجالًا ونساءً وعابرات وعابرين جنسيًا.

مدنٌ أخرى قيد الإصلاح

لحقت بفيينا العاصمة الألمانية برلين التي بدأت في العام 2005 مراعاة البُعد الجندري في تصميم المشروعات العمرانية، قبل أن تُدخِل رسميًا تعديلات تشريعية إلى المادة السادسة من قانون البناء، تنص على اعتماد تعميم المنظور الجندري كاستراتيجية رئيسة في التخطيط الحضري.

وفي العام 2009، أعلنت السويد عن تطوير العاصمة ستوكهولم استنادًا لخطط تراعي اعتبارات النوع الاجتماعي، بعد أن أجرت شركة سفينسكا بوستادر للتنمية السكانية والتابعة لمجلس مدينة ستوكهولم (Svenska Bostäder)، استطلاعًا ميدانيًا كشف أن النسبة الأكبر من النساء لا يشعرن بالأمان في الشوارع.

التنمية المستدامة 2030 وتعميم المنظور الجندري في بناء وتطوير المدن

في الوقت الراهن يبدو أن مدنًا أكثر ستتطور وفقًا لمنظور مراعي للنوع الاجتماعي، على خلفية الالتزام الحكومي الدولي الذي تبنته الأمم المتحدة في العام 2015، تحت عنوان «أجندة التنمية المستدامة للعام 2030»، الذي تحل المساواة الجندرية ضمن أهدافه السبعة عشرة، التي تعد إطارًا مرجعيًا واسترشاديًا لجميع الدول بغية حماية العالم من مخاطر الفقر والتغيرات المناخية وتحقيق المساواة والعدل بين جميع البشر.

وفي هذه الوثيقة تقر الهيئة الدولية بتقاطع هدف المساواة الجندرية مع الأهداف الستة عشرة الأخرى، ومن بينها الهدف الحادي عشر المتعلق بالمدن والمجتمعات المحلية المستدامة. وكانت الأمم المتحدة قد حددت مقاصد جميع الأهداف ومؤشرات أدائها تبعًا للنوع الاجتماعي، مشيرةً إلى أن تحقيق الهدف الحادي عشر (المدن والمجتمعات المحلية المستدامة) يستوجب توفير سبل لاستفادة الجميع من مساحات خضراء وأماكن عامة آمنة وشاملة ويمكن الوصول إليها، بخاصة النساء والأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي القدرات الخاصة، ويتطلب أيضًا ضمان إمكانية وصول الجميع إلى نظم نقل مأمونة وميسورة التكلفة ويسهل الوصول إليها ومستدامة، بالتوازي مع تحسين السلامة على الطرق وتوسيع نطاق النقل العام، مع إيلاء اهتمام خاص لاحتياجات النساء والأطفال والأشخاص ذوي القدرات الخاصة وكبار السن، بالإضافة إلى كفالة تكافؤ الفرص، والحد من أوجه انعدام المساواة في النتائج من خلال إلغاء القوانين والسياسات والممارسات التمييزية.

اعتراض نسوي على التخطيط العمراني المراعي للنوع في حلته الحالية

لا تتبنى الناشطات النسويات أو المجموعات والمؤسسات النسوية حول العالم موقفًا موحدًا حيال منهج تعميم المنظور الجندري في تصميم المدن والتخطيط الحضري، ولا تتفق بشأنه المعماريات ذوات التوجه النسوي، فمثلما هناك من يؤيده بين هذه الصفوف هناك أيضًا من يرفضه، اقتناعًا بأن اتباع حكومات غير نسوية لمنهج تعميم المنظور المراعي للنوع يُفرِغه من هدفه السياسي الأصلي، وهو هدم الهياكل الأبوية القائمة عليها المجتمعات والتي تتسبب في إعادة إنتاج واستدامة اللا مساواة الجندرية، وترى وجهة النظر هذه أن معظم الحلول التي يجري تنفيذها تحت لافتة إدماج المنظور الجندري في التخطيط الحضري، ترمي إلى التقليل من التبعات السلبية للتقسيم النمطي لأدوار النوع الاجتماعي، لكنها لا تسعى إلى تفكيك هذه الهياكل وإنهاء التوزيع النمطي للأدوار بين الجنسين.