أكثر من مئة عام تحت قبة البرلمان البريطاني.. ولا يزال المناخ السياسي طاردًا للنساء والميسوجينية تلاحق خطاهن
أصبح البريطانيات والبريطانيون قبل أسابيع قليلة، على تصريحات صحافية لأحد نواب البرلمان عن حزب المحافظين يتهم خلالها أنجيلا راينر نائبة زعيم حزب العمال المعارض، بتعمد تشتيت رئيس الوزراء بوريس جونسون بساقيها أثناء جلوسها في المقعد المواجه له داخل مقر انعقاد مجلس العموم، مشبهًا تحريكها لساقيها بما قامت به الممثلة الأمريكية شارون ستون في مشهد الإغراء الشهير في فيلم «غريزة أساسية – Basic Instinct» الصادر في العام 1992.
استدعت التصريحات المٌحمّلة بالميسوجينية (كراهية النساء) التي نشرتها صحيفة الديلي ميل البريطانية (The Daily Mail) منسوبةً إلى أحد النواب من دون الإفصاح عن هويته، فيضَ غضبٍ غزير من النساء البريطانيات، لا سيما المشتغلات بالسياسة اللاتي يعانين على نحو مستمر من التمييز والتحيز والعنف ضدهن، مما دفع بوريس جونسون بصفته زعيم الحزب الذي خرجت التصريحات من أحد أعضائه، إلى محاولة إخماد جذوة الغضب الذي طاله شخصيًا، فأكد عبر حسابه الرسمي على موقع تويتر استنكاره الشديد لتصريحات النائب ذي الهوية المُجهلة، مشددًا على رفضه للميسوجينية الموجهة ضد النائبة أنجيلا راينر واحترامه لها، إلا أن محاولته باءت بالفشل وقوبلت تغريدته بهجوم واسع، خاصةً أن كلماته ليست جديدة على مسامع النساء اللائي اعتدن من رجال السياسة على التظاهر بالدعم والمناصرة شفهيًا فقط.
لم يكن التحيز الجنسي ضد نائبة زعيم المعارضة مصدره صاحب التصريحات فحسب، فقد استخدمت صحيفة الديلي ميل (The Daily Mail) لغةً عدائية في تقريرها الذي اختارت له عنوان «المحافظون يتهمون أنجيلا راينر باستخدام حيلة غريزة أساسية لتشتيت بوريس»، ورغم الغضب الهائل الذي أعقب نشر التقرير، مضت الديلي ميل في تعنتها ونشرت تقريرًا آخر تزعم فيه أن أنجيلا سبق لها المزاح بشأن تشبيهها بالشخصية التي أدتها الممثلة شارون ستون في الفيلم المشار إليه، إلا أن أنجيلا ردت من خلال تغريدة قالت فيها «تشير الديلي ميل اليوم إلى أنني استمتع بطريقة ما بالتعرض للإهانات الجنسية. أنا لست كذلك. إنها مميتة ومؤذية جدًا.»
سرعان ما انقطع الحديث عن الواقعة من دون أن تنكشف هوية الشخص الذي أطلق التصريحات، وحتى إذا صار معروفًا في وقت لاحق فإنه من غير المتوقع أن يتخذ حزب المحافظين أو أعضاء البرلمان موقفًا إزاء تحيزه ضد هذه النائبة، ومن غير المرجح أن يعلن البرلمان عن خطوات لمواجهة الإساءات القائمة على أساس جنسي محض، وذلك استنادًا إلى وقائع عديدة سابقة أجلت رسوخ معاداة النساء في المشهد السياسي البريطاني، حتى بعد أن تجاوزت مشاركتهنّ في صناعة القرار السياسي الـ100 عامٍ، وبلغت نسبة تمثيلهنّ في مجلس العموم نحو 34 في المئة.
أضحت نانسي أستور أول امرأة تجلس تحت قبة البرلمان البريطاني بعد انتخابها نائبةً في العام 1919، بينما كانت الأيرلندية كونستانس ماركيفيتش هي أول امرأة تفوز في انتخابات تشريعية بريطانية في العام 1918، إلا أنها رفضت أداء اليمين وممارسة مهامها كنائبة التزامًا بسياسة «الامتناع – Abstentionist» الاحتجاجية التي كان يتبناها حزب شين فين الذي تنتسب إليه.
أعادت هذه الواقعة بملابساتها إلى أذهان كثير من السياسيات البريطانيات، ما فعلته صحيفة الديلي ميل قبل خمسة أعوام، عندما نشرت في صفحتها الأمامية تنويهًا لمقال كتبته الصحافية الإنجليزية سارة فاين عن لقاء جمع بين رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي ونيكولا ستيرجن الوزيرة الأولى في اسكتلندا، لمناقشة اتفاق بريكست ومستقبل المملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقد اختارت الصحيفة أن تضع للتنويه عنوانًا متحيزًا على أساس الجنس نصه « Never mind Brexit, who won Legs-it»، وأرفقت به صورة تبرز ساقي تيريزا وستيرجن كما لو كانتا هما كل ما تمتلكانه القائدتان في سياق تهكمي وتسليعي.
أثارت فعلة الديلي ميل حينذاك عاصفةً من السخط بين النساء العاملات بالحقل السياسي في بريطانيا، ومنهن وزيرة شؤون المرأة والمساواة السابقة نيكي مورجان التي غردت قائلة «حقًا؟ أكبر سياسيتين لدينا يُحكَم عليهما بسبب ساقيهما وليس على ما يقولانه!»، إلا أن قطاعًا عريضًا من الساسة الرجال تعمدوا التزام الصمت تجاه الحدث، مراهنين على الوقت كمسكنٍ للغضب ومزيلٍ للاحتقان، على غرار ما حدث مرارًا قبل ذلك في أحداث انطوت مجرياتها على ميسوجينية وتحيز وإساءات جنسية ضد النساء المشتغلات بالسياسة، سواء كان مصدرها الصحافة أو الساسة الرجال.
تتجلى الميسوجينية في عالم السياسة البريطانية بأشكال عديدة مثلما هو الحال في شتى دول العالم شمالًا وجنوبًا، ومنها: التقليل من شأنهن وآرائهن، واختزالهن في أجساد وملابس، والاستهزاء بغضبهن، وتعمد إسكاتهنّ، وتوجيه السخرية والنكات الجنسية إليهن، أو التحرش بهن جنسيًا.
وقد كشف مكتب الشكاوى بمجلس العموم في شهر إبريل الماضي، عن مباشرته التحقيق في اتهامات بالتحرش الجنسي ضد ما لا يقل عن 56 نائبًا من بينهم ثلاثة وزراء حاليين، كما تقدم أحد النواب المحافظين في نهاية الشهر ذاته باستقالته من منصبه على خلفية اتهامه بالتحرش الجنسي، إذ أفادت إحدى الوزيرات بأنه كان يشاهد فيلمًا إباحيًا على هاتفه أثناء جلوسه إلى جوارها داخل قاعة المجلس، وهو الأمر الذي اعترف النائب بوقوعه.
من جانبها، انتقدت النائبة داون باتلر في مقال لها بصحيفة مترو (Metro) عدم وجود آليات واضحة لمعاقبة أو عزل النواب الذين يمارسون أي شكل من أشكال الميسوجينية، ليقتصر الأمر على الضغط عليهم من أجل الاستقالة أو انتظار أن يقرر الناخبات والناخبون إخراجهم من مجلس العموم عبر صناديق الاقتراع، مشيرةً إلى أن السبب في ذلك هو عدم تعامل البرلمان معها بشكل صحيح.
فضلًا عن ذلك، قد يكون مصدر الميسوجينية هو أقوى مسؤول سياسي في المملكة المتحدة رئيس الحكومة، مثلما فعل ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الأسبق في العام 2011، حينما قال بانفعال لإنجيلا إيغل النائبة بمجلس العموم عن حزب العمال، «فلتهدئي، يا عزيزتي» بعد مقاطعتها له أثناء جلسة المساءلة الدورية لرئيس الوزراء.
اعتبر كثير من النائبات وبعض النواب استخدام كاميرون لكلمة «عزيزتي» تكريسًا لفظيًا للصورة النمطية عن المرأة بوصفها شخصية هيستيرية، ومنهن النائبة كارولين فلينت التي اتهمته في تصريحات لجريدة الجارديان (The Guardian) بتعمد استخدام هذه الكلمة لإهانة النساء والتقليل من شأنهن.
امتنع وينستون تشرشل رئيس الوزراء الأبرز في تاريخ بريطانيا لسنوات عديدة، عن الحديث مع وإلى نانسي أستور بعد أن أضحت أول نائبة بالبرلمان، وقد فسر ذلك في مرحلة لاحقة بتشبيهه دخولها إلى البرلمان بدخول امرأة إلى حمامه الخاص وهو لا يملك سوى إسفنجة (ليفة الاستحمام) للدفاع عن نفسه.
ثمة آثار محبطة تنتج عن هذه الأجواء السامة والبيئة غير الآمنة، إذ تشهد بريطانيا مؤخرًا تزايدًا في خروج النساء من المشهد السياسي اضطراريًا في أطوار مبكرة من مسيرتهنّ، وكانت شبكة الإذاعة البريطانية (BBC) قد أشارت إلى أن 32 في المئة من النواب الذين قرروا الامتناع عن خوض الانتخابات العامة البريطانية في العام 2019 كانوا من النساء، وأن أغلبهن أرجع ذلك إلى الإساءات والتجاوزات التي تلاحقهنّ باستمرار وكثافة، كما بينت وحدة البحث السياسي بالشبكة أن متوسط مدة نشاط النائبة هو تسعة أعوام ونصف، بينما متوسط عمر نشاط النائب هو 18 عامًا تقريبًا، أي ما يوازي ضعف المدة التي تقضيها النساء في العمل البرلماني.
وتعقيبًا على ذلك، أصدرت جمعية مجتمع فوسيت النسوية (Fawcett Society) بيانًا تعرب فيه عن قلقها إزاء تخلي العديد من النساء عن مقاعدهنّ في البرلمان، وقالت في مقدمة البيان «علينا أن نواجه حقيقة أن سياستنا السامة تدفع النساء البرلمانيات إلى الابتعاد، وفي العام 2019 لا تزال البيئة معادية للمرأة.»
ويبدو أن هذه البيئة لا يكترث البرلمان البريطاني إلى تغييرها وفقًا لاستراتيجية معلومة وجادة، بما يعني أن النساء مضطرات إلى التعاطي مع الميسوجينية بوصفها عبئًا حتميًا لا مناص من تحمله إذا أردن ممارسة حقهن في المشاركة السياسية، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى صدقية أحاديث ووعود المؤسسة السياسية بشأن الوصول إلى العدالة والمساواة بين الجنسين في المجال السياسي.
ودعونا لا ننسى أن هذا الوضع وهذه المعاناة لا تختص بهما فقط النساء في بريطانيا بل تعايشهما النساء في شتى أنحاء العالم.