السعوديات يسجلنّ أكبر مشاركة في سوق العمل منذ تأسيس المملكة.. ومع ذلك تظل الفجوة الجندرية قائمة
عانت المرأة السعودية على مدار عقود طويلة من الاستبعاد والتهميش داخل سوق العمل عن طريق حظر التحاقها بكثير من الوظائف، وإلزامها بتقديم موافقة ولي الأمر (الأب، الأخ، الزوج) على خروجها للعمل، مما جعل مشاركتها تتركز في قطاعي الصحة والتعليم بشكل رئيس، في ظل إخضاعها لقواعد صارمة بشأن الفصل بين الجنسين. وقد أدى ذلك إلى تذيل السعودية القائمة الدولية فيما يتعلق بولوج النساء في القوى العاملة، إذ بلغت نسبة مشاركة السعوديات في سوق العمل في العام 2012 نحو 5.5 في المئة فقط وفقًا لبيانات وزارة العمل.
بدأت سياسة إقصاء النساء عن سوق العمل في التراجع تدريجيًا مع طرح الإدارة السعودية لرؤية اقتصادية جديدة بعنوان «رؤية المملكة 2030»، التي أعلِنّ عنها في منتصف العام 2016 بهدف دعم التنويع الاقتصادي ووقف تقيد الاقتصاد بالإنتاج النفطي، من خلال دعم عدد من القطاعات بالأخص قطاعي السياحة والترفيه، بالتوازي مع زيادة إشراك النساء في سوق العمل وتقليص قيود نظام الولاية الذي يجعل المرأة قاصرةً من الناحية القانونية، وفي حاجة دائمة إلى الرجوع إلى ولي الأمر الذكر لتمكينها من ممارسة حقوقها ومنها الحق في العمل.
وقد حققت الإجراءات التي اتخذتها السلطات السعودية في هذا الصدد تقدمًا ملحوظًا على صعيد مشاركة النساء في القوى العاملة، وبحسب الهيئة العامة للإحصاء فقد ارتفعت نسبة المشاركة من 20.2 في المئة بنهاية العام 2018، إلى 32.1 في المئة بنهاية العام 2020، ثم 35.6 في المئة بنهاية العام 2021.
رغبة النساء الكبيرة في الانضمام إلى مجالات العمل التي طالما حُرِمنّ من الالتحاق بها، توثقها الأرقام الرسمية التي تكشف إقبالهنّ الضخم على شتى الوظائف في القطاعين الخاص والعام، فقد شكّلت النساء 83.6 في المئة من إجمالي الباحثين عن العمل في السعودية خلال الربع الثالث من العام 2019 بحسب الإحصاءات الحكومية، وخلال الشهرين الأولين من العام الجاري تقدمت 28 ألف امرأة لشغل وظيفة «سائقة قطارات» بعد أن أعلنت إحدى شركات السكك الحديدية بداية هذا العام عن حاجتها لـ30 امرأة لقيادة القطارات السريعة بين مدينتي مكة والمدينة المنورة، وهي أول فرص عمل تتوفر للسعوديات في قطاع السكك الحديدية بعد القرار الملكي الصادر في العام 2018 برفع الحظر عن قيادة النساء للمركبات، وهو الأمر الذي ناضلت من أجله الحركة النسوية السعودية لما يزيد عن 27 عامًا، وكان أول تجلياته هو الاحتجاج الذي قامت به 47 امرأة في نوفمبر من العام 1990، عندما عزمن على قيادة سيارات خاصة في شوارع العاصمة تحديًا للحظر، ورغم أن جميع المشاركات في هذه الواقعة تعرضنّ للاعتقال المؤقت وواجهن العديد من الإجراءات العقابية، فإن الحادثة ظلت مصدر إلهام للعديد من الناشطات السعوديات خلال السنوات اللاحقة.
تبقى الفجوة الجندرية على حالها.. ما السبب؟
لقد أدت القرارات الرامية إلى زيادة مشاركة المرأة السعودية في القوى العاملة، إلى توظيف أعداد كبيرة من النساء في مختلف الفئات العمرية، إلا أن هذه الزيادة تتفاوت من قطاع إلى آخر وتتباين تبعًا للمستوى التعليمي، ولذا لا تزال نسبة النساء العاملات تشكل نصف نسبة الرجال العاملين، ونسبة البطالة بين الإناث ما انفكت أعلى بثلاث مرات من نظيرتها بين الذكور، كما تكشف الأرقام الرسمية أن النساء السعوديات اللائي أنهين تعليمهن الجامعي أو أكملن الدراسات العليا شكلن النسبة الأقل من الزيادة الملحوظة في مشاركة النساء بسوق العمل فيما بين العامين 2018 و2020، بينما مثلت النساء الحاصلات على درجة التعليم الثانوي النسبة الأعلى، ومن بعدهن الحاصلات على درجة التعليم الابتدائي أو المتوسط.
ومثلما يرجع ذلك إلى طبيعة أغلب الوظائف التي أتيحت منذ العام 2018 أمام النساء ومتطلباتها التعليمية والمهارية، يعود أيضًا إلى إشكالية قلة الخبرة بين السعوديات ذوات التعليم المرتفع من جراء استبعادهنّ من معظم قطاعات العمل ووظائف بعينها لزمن طويل، وهي الإشكالية التي لا تحظى بالاهتمام الكافي من الحكومة السعودية، فلم تضع الأجهزة التنفيذية خطةً أو تعلن عن استراتيجية للتقليص السريع لفجوة الخبرة بين الجنسين، باعتبارها الضامن الرئيس لتحقيق العدالة والتنافسية بين الجنسين، وبوصفها ضرورة للقضاء على الفجوة بينهما في الدرجات العليا بالسلم الوظيفي والرواتب والأجور.
وكانت جمعية النهضة النسائية التي تعمل على تمكين المرأة السعودية، قد كشفت في تقريرها الصادر في العام 2020، بعنوان «تفسير فجوة الأجور بين الجنسين في القطاع الخاص»، أن الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء ذوي المؤهلات التعليمية المتماثلة والخبرة العملية المتساوية تصل إلى 43 في المئة، بما يوازي حصول المرأة على 57 ريالًا سعوديًا في مقابل كل 100 ريال يتقاضها الرجل.
إضافة إلى ذلك، تلعب الثقافة الأبوية دورًا جوهريًا في ديمومة الفجوة الجندرية داخل سوق العمل، فما برحت كثير من العائلات تتحفظ على عمل بناتها جنبًا إلى جنب مع الرجال خلال فترة الدوام اليومي التي تمتد إلى ثماني ساعات أو أكثر في بعض الأحيان، وهو ما أكدته رائدة الأعمال السعودية غادة السلمان، صاحبة سلسلة مخابز الشريط الوردي (Rose Ribbon)، التي قالت في تصريحات لصحيفة رويترز الأمريكية (Reuters) إن «معظم الآباء ما زالوا لا يستسيغون عمل بناتهم طوال اليوم مع الرجال، حتى إذا كن هن رئيسات العمل أو يرتدين النقاب.»
لقد أثبتت الخبرات السابقة على المستويين الدولي والإقليمي أن تمكين النساء الاقتصادي لا يمكن أن يرتهن فقط بزيادة تسكينهن في الوظائف أو رفع نسبة تمثيلهنّ في قطاعات العمل المختلفة، لأن قلة فرص التدريب والتأهيل المتاحة لهن تجعل التمكين مجازيـًا. كما يستحيل أن يتحقق التمكين في ظل استمرار التطبيع مع الثقافة المجتمعية الذكورية التي تقيد النساء تحت مسميات كالأعراف والتقاليد بما يسمح بانتهاك حقهن في اختيار مجالي الدراسة والعمل، وبمنعهنّ من التحكم الكامل والمستقل في الأجر والاستفادة المباشرة منه، فمثل هذه الممارسات التمييزية من شأنها أن تضعضع مساعي التغيير حتى إذا صارت السياسات والتشريعات تساوي بين الجنسين في حقوق الحركة والتنقل والتوظيف والترقي، ولعل أكثر ما تحتاج الحكومات إلى الاعتراف به إذا ما كانت تريد حقًا تحقيق المساواة بين الجنسين في العمل، هو التأثير العميق والوثيق بين المجالين العام والخاص.