كانت أيسلندا أول دولة في العالم تنتخب امرأة لرئاستها في العام 1980، وهي أيضًا أول دولة تتمكن فيها النساء من حصد ما يقرب من نصف مقاعد المجلس التشريعي، إذ تبلغ نسبة تمثيلهن في البرلمان الحالي والمنتخب في سبتمبر الماضي 47.6 في المئة، كما تحتل أيسلندا صدارة المؤشر العالمي للمساواة بين الجنسين منذ العام 2009 وحتى الآن، بحسب التقارير العالمية للفجوة الجندرية التي تصدر سنويًا عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

لم يكن حصول النساء الأيسلنديات على هذه المكتسبات وغيرها، سهلًا بأي حال من الأحوال، فهن كغيرهنّ من النساء حول العالم ناضلن ويناضلن من أجل انتزاع حقوقهن، ومنها الحق في المساواة في الأجر، الذي كافحت الأيسلنديات في سبيله لعقود إلى أن أتت جهودهنّ أكلها في العام 2018، عندما صدر قانون يلزم الشركات التي يتجاوز عدد العاملات والعاملين بها عن 25 فردًا، بتقديم ما يثبت أنها تعطي النساء والرجال الأجر ذاته عن العمل متساوي القيمة.

الوصول إلى هذا الإنجاز يأتي بعد معارك عديدة خاضتها النساء الأيسلنديات، إحداها تمثل – من وجهة نظر كثيرين – نقطة تحوّل كبرى في مسيرة الدفاع عن حقوق المرأة، فقد برهن الاحتجاج النسوي حينها على أن حركة الحياة يمكن أن تتوقف إذا قررت النساء أن تكف عن العمل، سواء كان العمل مدفوع الأجر أو العمل غير مدفوع الأجر.

إضراب نسـائي عــام

إنه الجمعة الموافق 24 أكتوبر في العام 1975، اليوم الذي قررت فيه النساء الأيسلنديات أن يؤكدن للجميع أن إسهامهن في الاقتصاد الوطني لا يمكن الاستغناء عنه، وبالتالي لا مبرر للتمييز القائم ضدهن في العمل أو في المنزل.

في ذلك اليوم تجمعت 25 ألف امرأة من مختلف الطبقات الاجتماعية والخلفيات السياسية في الميدان الرئيس بالعاصمة الأيسلندية ريكيافيك، وقد عقدن العزم على أن لا يقمن بأي عمل اعتدن على القيام به يوميًا، وأن يجعلن هذا النهار للغناء والرقص والاحتفال والنقاش حول ما يجب عليهن القيام به حتى تتحقق المساواة بين الجنسين.

قد يبدو العدد (25 ألف امرأة) قليلًا إلا أنه يمثل نسبة كبيرة بالنظر إلى إجمالي عدد المواطنات والمواطنين الأيسلنديين في ذلك الوقت، الذي كان يبلغ 220 ألفًا، ولذلك كان إضراب النساء عن العمل وخروجهنّ إلى الشوارع في ذلك اليوم حدثًا ضخمًا أصاب الحياة بالشلل شبه التام، فقد اضطرت كثير من الشركات والمصانع والمدارس والمتاجر إلى الإغلاق لأن النساء لم يذهبن إلى أماكن عملهن، كما تولى الآباء يومها مسؤولية رعاية الأطفال، ومنهم من اصطحب أبناءه معه إلى العمل، بعد أن استجاب قطاع عريض من النساء غير العاملات إلى دعوات الخروج للاحتجاج على التمييز وغياب المساواة بين الجنسين.

التخطيط والاستعداد ليوم العطلة

تعود فكرة إضراب النساء الكامل عن العمل المأجور وغير المأجور إلى مجموعة «الجوارب الحمراء – Red Stockings» النسوية التي شكّلت عضواتها في شهر يونيو من العام 1975، لجنة باسم «اللجنة التنفيذية ليوم عطلة النساء» لتتولى مهمة الإعداد للحدث والدعوة إليه والحشد له.

ووفقًا لأحد المنشورات الصادرة عن لجنة يوم عطلة النساء، فقد كانت النساء العاملات في القطاع التجاري في تلك الآونة يتقاضين 75 في المئة مما يتقاضاه الرجال عن العمل متساوي القيمة، وكان الفارق بين متوسط الأجر الشهري للرجل العامل والمرأة العاملة يبلغ ما يوازي 100 أو 200 دولار أمريكي.

في شهر أغسطس من العام 1975، عقدت مجموعة «الجوارب الحمراء» اجتماعًا مع بعض النساء العاملات، تمخض عنه إرسال دعوات إلى النقابات العمالية والمنظمات النسوية والنسائية، حتى ترشح نائبات عنها ليشاركن في تنظيم فعاليات يوم الـ24 من أكتوبر الذي اختير له اسم «يوم عطلة النساء»، وقد لاقت الدعوات قبولًا لدى هذه الجهات، ترتب عليه اجتماع ممثلات لـ50 منظمة ونقابة في شهر سبتمبر للتخطيط إلى اليوم وأحداثه.

عقب الاجتماع، وزعت المجموعات المنظمة للحدث 47 ألف نسخة من منشور بعنوان «لماذا يوم عطلة للنساء؟» ، يطالب جميع الأيسلنديات بأن يضربن عن العمل (مأجور وغير مأجور)، ويشاركن في المسيرات الاحتجاجية التي ستخرج في ذلك اليوم. كما أرسلت الجهات المنظمة بيانًا صحافيًا إلى وسائل الإعلام المحلية والدولية، تعلن فيه إضراب النساء الأيسلنديات عن العمل بكل صنوفه يوم الـ24 من أكتوبر.

تشير مؤسسة «محفوظات تاريخ المرأة الأيسلندية» إلى أن 90 في المئة من النساء العاملات امتنعن عن الذهاب إلى أماكن العمل في ذلك اليوم. أما النساء غير العاملات، فقد توّجه كثير منهن إما إلى الميدان الرئيس بالعاصمة حيث التجمع الأكبر، وإما إلى مواقع التجمع في المدن الأخرى.

رفعت النساء في المسيرات الاحتجاجية التي خرجت في العاصمة ريكيافيك لافتات كُتِب عليها عبارات مثل «المساواة الآن» و «التنمية، السلام، المساواة في الأجر»، وألقى العديد منهن كلمات حماسية، فقالت إحداهن «نحن نعلم أن الرجال قد حكموا العالم منذ أن بدأت القصص تُحكى، وكيف هو هذا العالم؟ إنه في الدماء يعاني من العذاب. أعتقد أن هذا العالم سيتغير عندما تبدأ النساء في السيطرة عليه على قدم المساواة مع الرجال.»

فضلًا عن ذلك، قدّمت بعض عضوات مجموعة «الجوارب الحمراء- Red Stockings» عددًا من الأغاني التي أعِدت خصيصًا للحدث، من بينها أغنية باسم «إلى الأمام يا فتيات»، وشاركت فرقة موسيقية نسائية بالعزف خلال اليوم.

بعد عام من يوم عطلة النساء الذي أسماه الرجال حينذاك «الجمعة الطويـلة»، مررت أيسلندا قانونًا للمساواة بين الجنسين ينص على حظر التمييز على أساس الجنس في أماكن العمل والمدارس، وقد خضع هذا القانون للتعديل والتطوير في الأعوام 1985، و1991، و2000 و2008.

تعتبر العديد من الكيانات النسوية في أيسلندا أن يوم عطلة النساء وما تركه من أثر في المجتمع، هو الذي مهد الطريق لانتخاب أول رئيسة للبلاد بعد خمس سنوات، وهي فيغديس فينبوغادوتير التي قالت في حوار لها مع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي (BBC)، إنها ما كانت لتصبح رئيسة للبلاد لولا أحداث يوم الـ24 من أكتوبر في العام 1975 أو «يوم عطلة النساء».